ليس النزوح الأخير

05 اغسطس 2024
عمل للفنانة الفلسطينية شهد نافذ
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **فقدان الذات والمدينة بعد الحرب**: يعبر الكاتب عن شعوره بفقدان ذاته ومدينته غزة بعد الحرب، حيث تغيرت حياته جذرياً وأصبح التعوّد على النزوح والعيش في ظروف قاسية جزءاً من يومياته.

- **التغريبة الفلسطينية وتجربة النزوح**: يستشهد الكاتب بمسلسل "التغريبة الفلسطينية" ليعبر عن البؤس الذي اكتشفه بعد الحرب، حيث أصبحت الحياة في مراكز الإيواء مليئة بالصعوبات والمشاكل اليومية.

- **الأمل والتحديات اليومية**: رغم الظروف القاسية، يحاول الكاتب بث الأمل، مشيراً إلى إنجازات مثل تفوق أولاده، ويصف التحديات اليومية من البحث عن الطعام والماء إلى التعامل مع الأمراض.

من الحرب فصاعداً نحن لم نعد نحن... وأنا لم أعد أنا! كل شيء بخير... إلا أنا، وكل شيء بخير إلا غزّة! لقد فقدت مدينتي وفقدت نسختي القديمة من نفسي، ومع أنها كانت متخمة بالمشاكل والهموم فقد اكتشفت بعد الحرب أنها كانت أكثر سعادة وراحة وطمأنينة... وبعد الحرب فقط اكتشفت معنى راحة البال ومعنى قهر الرجال!

في "التغريبة الفلسطينية" لوليد سيف يقول علي الشيخ يونس: "لم تكن خشونة العيش جديدة علينا... ولكننا نكتشف الآن أبعاداً جديدة للبؤس... إننا نفعل الآن ما لم نكن نتصور من قبل أننا سنفعله... إننا ننحدر بسرعة إلى حيث لا يبقى غير غريزة البقاء بأي ثمن... علينا أن نتخلى عما نصفه بالمشاعر المرهفة لأنها الآن تعوق قدرتنا على التكيّف والبقاء، ولكن... هل نستطيع أن نفعل ذلك دون أن نخاطر بمستوى إنسانيتنا! دون أن نتخلى عن احترام الذات؟".

لقد اكتشفت مثل علي أبعاداً جديدة للبؤس، وأكثر ما يؤذيني الآن هو التعوّد، قبل الحرب كنت لا أحب التعوّد على شيء، بعد الحرب صرت أخشى من التعوّد، تعوّدت على حياة النزوح، كأنّ حياتي قبل الحرب كانت محض خيال، محض حُلم... قبل الحرب كانت ذاكرتي 'سَمَكِيَّة'، ضعيفة جداً، لدرجة أنّي ومع كل صورة أقلبها في الجوال أجدني نسيت تفاصيل معظم حياتي قبل الحرب... بعد الحرب لم أعد أنسى شيئاً فأنا اليوم رجل بلا ذاكرة!

ربما أود أن أفضفض من قلب الخيبة وأطمئن الجميع أنّ ما من داعٍ للقلق علينا في غزّة

رغم مشاهدتي مسلسل التغريبة الفلسطينية، كنت أحرص بين فترة وأخرى على إعادة مشاهدة المسلسل وتحريض أولادي على ضرورة متابعة التغريبة والنكبة الكبرى عام 1948، لم أكن أتخيّل يوماً أني سأكون شاهداً لا مشاهداً على نكبة جديدة، نكبة ديجيتال، نكبة ثلاثية الأبعاد بالصوت والصورة!

منُذ نزحت النزوح الأوّل من غزة إلى خانيونس كنت أَتردّد كل ليلة في الكتابة عن يوميات الحرب، وكل ليلة أضع على وجهي البشكير للوقاية من ذُباب الشتاء وما تَيَسَّرَ من صراصير، وهو بالمناسبة ذُباب غبي وبليد جداً، لا يقل بلادة عن الغسيل الذي ينشف من الخوف وهو لا ينشف، القصف يشتد بعنف ليلاً، والذباب أيضاً، ولا أسوأ من الليل المليء بالقصف والذباب إلّا انقطاع الإنترنت بين فينة وأخرى!

المهم "حتى الآن ما زلنا أحياء" وهي عبارة جاهزة ومتوفرة في الأسواق لكل من يسأل "عن الحال" ولأنه من الكذب والسخافة أن تخبر أحداً أنّك بخير ما عليك سوى نسخ العبارة أو أن تقول له "حتى الآن ما زلنا أحياء!".

كانت الهدية الوحيدة التي نتمناها من "بابا  نويل" عشية أعياد الميلاد التي زارتنا في نزوحنا الأول '"ألا يصدر قرار بإخلاء المنطقة التي نسكنها!"... مؤخراً اكتشفت أنه ليس من الصحيح القول إن كلّ بداية صعبة، فالنزوح الثاني، وربّما الثالث والرابع، سيكون مؤلماً وأصعب وأقسى بكثير بعيداً عن الفرشة التي أكتب فوقها، بخاصة أنّي تعوّدت على أصدقاء مركز الإيواء الأول، وعلى الفأر الذي يسرح وينزح في المكان، الأوضاع صعبة جداً في الخيم ومُزرية ومُؤذية، وعليه فإنّ رعب القصف وتهديد الموت قد يكونان أقل قسوة من حياة التشرّد!

إن السنة الدراسية انتهت ولأوّل مرّة لا أكون فخوراً بتفوّق أولادي... خالد وكارمن سنة أولى خيمة!

وما بين رعب القصف وقسوة التشرّد مساحة واسعة من نزلات البرد والنزلات المعوية والكحّة القذرة في ظل اختفاء الدواء من الأسواق، ورغم مرارة البحث عن لقمة الخبز عبر رحلة عذاب مُضنية تبدأ من لحظة العثور على كيس الطحين مروراً بنفاد الغاز وشح الملح والخميرة وصولاً إلى جشع أبي لهب وحزمة حمّالة الحطب، وتفاصيل ماذا سيأكل الصغار ولماذا طعام الغداء يشبه طعام الإفطار، فإنّ حضور الحمار صباحاً وهو يحمل لك مياه الشرب على ظهره يكاد يكون الأمل الوحيد في بقائك على قيد الدور أمام باب الحمام، وهو دور مزعج من زاوية الحشر، ومن زاوية نفاد ورق التواليت، واضطرارك لاستخدام فوط ماركة "دَبّر حالك!".

ما يحدث معنا يكاد لا يصدقه عقل، ولا يخضع لقواعد منطق، حالة أقرب للجنون، كل شيء يكاد يكون مجنوناً في هذه المدينة، الأخبار مجنونة، الأسعار مجنونة، كل شيء هنا مثير للجنون وللكآبة: علبة السردين كئيبة، الرغيف كئيب، فتلة الشاي كئيبة، كل كراتين المساعدات كئيبة ولئيمة وخبيثة هي الأخرى، تحمل ذات الأصناف وذات الكآبة، أستغرب أنّ بعضنا ما زال لديه قليل من عقل من هول ما يرى ويسمع ويشمّ في غزّة!

الحرب اليومية التي يخوضها الناس مع وحش الجوع، مع غول الخيمة، مع قذارة الحطب، مع الماء غير الصالح للشرب، مع المرض، ومع العلاج، ومع الفشل في تدبير كثير من أمورهم المعيشية تكاد تكون أقسى بكثير من شكل الحرب التقليدي، معركة قاسية وسط واقع أقسى لا صوت يعلو فيه فوق "صوت الملعقة" وأنه بقدر ما قد تُخرج منك الحرب أفضل ما فيك، فإنها تُخرِج أيضاً أسوأ ما فيك!

الأحلام كانت وستظل كبيرة، على شفاه المنسيين، ووجوه النازحين، وعذابات المُشرّدين، ستظل أكبر من الخيمة... من الخيبة الكبيرة التي وصلنا إليها بالسلامة! وستظل أحلامهم أكبر من "وطن خارج التغطية" ومن "وطن نص كوم" ومن "شسمو" وهي أسماء مؤلفاتي الثلاثة التي كتبت فيها منذ سنوات وليتني لم أكتب أو كما يقول لي الأصدقاء: "أكرم لازم نحاكمك بعد الحرب لأنك سنة 2015 حكيت 'خيمة تخيبنا!'، وسنة 2018 كتبت 'كلنا مشاريع شحادة'، وسنة 2020..

في غزة
دبّ انفجار
دبّ الحصار
دبّ الصوت
دبّ الموت
في غزة دبّ الرعب والزفت
في غزة صَفَّينا على الإسفلت
في غزة من في غزة إلّا أنت...

كامل النص، بالكتابة والصوت في صفحتي على "فيسبوك" وكنت قبل ذلك كتبت قصيدة "الأحّا" ضمن لقاء على الهواء موجودة أيضاً على الصفحة، في ختامها خشيت من "الإمام وين ودينا وأن تكون الآخرة سينا"! وكنت جداً متفائلاً بأن أمتنا أمّة واحدة ذات رسالة خامدة... ومن شدة تفاؤلي كنت كتبت "راح يجي يوم نصحى من النوم وتصحى الأمة وتحكي شالوم"!

وبعد، لا أود أن أزعج القارئ كثيراً بما كتبت، فقط ربما أود أن أفضفض من قلب الخيبة وأطمئن الجميع أنّ ما من داعٍ للقلق علينا في غزة فالحرب حققت لنا إنجازات غير مسبوقة! فأولادي كانوا يذهبون للمدرسة ويحملون الكتب على ظهورهم كما حمّالة الحطب نَحَلت أجسادهم وانحنت ظهورهم وألقوا الكتب في النار علّها تزيد من لهب الحطب، وَلَّعوا بالتاريخ وبالجغرافيا وبالتربية الوطنيّة وهذا إنجاز غير مسبوق!

عندما قصفوا المبنى... برج وطار من نافوخي... فجيش الاحتلال الصهيوني لم يقصف المبنى لكنّه قصف برجاً من نافوخي وشظايا هائلة من الذكريات تناثرت في المكان، وعشرة طوابق من الأمل، وتسعة أحلام، وفردة مستقبل كانت مُلقاة على الأرض خلف الجزّامة مع دبدوب أجرب، وسيارة صغيرة من دون عجلات، وعروسة باربي من دون رِجل وبرأس مفصول لم نكن نهتم به ولا بلصقه بالجسد، وألبوم من الصور على البحر وصور الزفّة وتسريحة الشعر التى أزعجتني ليلة الدخلة من شدّة البكل وكراكيب غرفة الخزين والمطبخ وقداحة الغاز والبُرنص خلف باب الحمام والمنشفة وطاولة السفرة وطاولة الزهر ودفتر تسجيل خاص بلعبة "الهاند ريمي" في آخره ورقة خاصة بالديون وفواتير جوال وفواتير الماء والإنترنت والكهرباء وقميص النوم "الفوشي" و"البزّ الكذّاب" و"الزنوبة" ومقص الأظافر الحافي وبطارية 18 أمبير لموزع الإنترنت وعلبة "ماكنتوش" مخصصة لحبوب السكر والضغط والمعدة والاعصاب والحموضة وطقم كاسات فاخر مُعتَقَل بالبوفيه من سنة 1997 بتهمة "خسارة هاد يطلع للضيوف" وبعد القصف طلع في الشارع و"طلعنا غلطانين" أي أننا كنا مخطئين عندما عاقبنا ابننا الصغير بتهمة كسر الفنجان، لم نكن نعلم أننا أيضاً ننكسر!

تركنا كلّ شيء، تركنا المنزل والشبابيك والستائر والصابون ومعجون الحلاقة والكنب وكلّ الفناجين حتى الطقم المُعتَقَل بالبوفيه والليمونة التي كنا نحرص دائماً من "باب الهبل" على وضع نصفها في باب الثلاجة الذي ربما هو نفس الباب الذي غنّى له عاصي "عمرك شفت شي باب عم يبكي؟" لأ.. شفت خيمة!

تركنا خلفنا حوارات ونقاشات وطوش وقُبَل لم تكتمل على السرير وبقايا طعام وزجاجة كولا سعة لتر وربع وكاسات كرتون وحواديث ما بعد العشاء وخصوصيات تناثرت على الشارع وسلسلة مفاتيح وسلسلة مشاكل كانت تبدأ ولا تنتهي!

تركنا خلفنا أوّل قُبلة ، وأوّل سنة حب، وآخر الممر والجزّامة ورائحة الجرابات والملابس الداخلية وصوت الغسّالة المُزعج و'الوجبة البيضا' وتعليمات الحكومة المنزليّة "ميت مرَّة حكيت تشلحوا الجزم ع الباب"... طارت الجزّامة وطار الباب وطار معه برج من نافوخي!

القصف حتى اللحظة يكاد لا يتوقف... يبدو نسفاً لمربعات سكنية "الصوت واصلنا من رفح"... الزنانات فوق رأسنا أيضاً لا تتوقف، و"الكوادكابتر" رعب في الليل بخاصة عند الذهاب للحمام... وصلنا إلى العراء... بين السماء والطارق.. "بالبلدي" في الشارع... نزحنا من رفح كما الآلاف تحت تهديد القصف العنيف... وصلنا كما يعتقد البعض إلى الحلقة قبل الأخيرة.. وصلنا إلى المواصي وهي منطقة قريبة جداً من البحر "خمس دقائق مشي" ووصل معنا ذباب حقير وحشرات لم تتعرف عليها ناشونال جيوغرافيك بعد... فقدنا غزّة وحياتنا وممتلكاتنا هناك وفقدنا آدميتنا في الخيمة... قريباً سنتحول لكائنات "برمائية" وفي أحسن الأحوال لـ"ماوكلي" فتى الأدغال... الحمد لله عندي خيمة، غيري مش ملاقي.. حلمي في السفر تبخّر بعد احتلال المعبر... آمل ألا يحدث معنا كما حدث مع حلمي!

ما زال بحوزتي "أوقية أمل" أن تنتهي الحرب قريباً مع أن ذلك بعيد... وما زال بحوزتي أمل أن يحفظ الله أسرتي وعقلي بعد أن انتهت صلاحيتنا للحياة! الاتصالات صعبة، الإنترنت رديء بعض الشيء "ما أجتش عليه بعد ما الدنيا كلها أجت علينا"!

وبودّي أن أخبركم أن السنة الدراسية انتهت ولأوّل مرة لا أكون فخوراً بتفوّق أولادي... خالد وكارمن سنة أولى خيمة!

بدأنا فصلاً جديداً من المعاناة والخيبة... "دير البلح"... النزوح الرابع.. والمحطة القادمة في علم الغيب!

من تحت القصف، من فلسطين من غزّة، إلى خانيونس، إلى رفح، إلى المواصي، إلى الخيمة، الى دير البلح وصلنا بالسلامة الى المجهول ولم تصل أحلامنا بَعد، ولم تصل آمالنا بَعد وأخشى أن تكون قد تَبَخّرَت في الطريق! 

وداعاً!


* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون