"ضدّ أفلاطون" لناصر مؤنس: المدينة بوصفها ديوان شعر عالمي

12 نوفمبر 2024
إشارة إلى مكانة الشعر عند سكّان مدينة ليدن الهولندية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يوثق ناصر مؤنس في كتابه "ضدّ أفلاطون" قصائد جدران مدينة ليدن الهولندية، مسلطًا الضوء على الغرافيتيا كوسيلة مقاومة سلمية تجمع بين الفنون والآداب.
- يتناول الكتاب، المكون من عشرة فصول، مواضيع مثل الحرية والحب، ويجمع بين القصائد بلغاتها الأصلية وترجماتها الهولندية، مما يعكس جهود مؤنس في تقديم قراءة فريدة.
- يبرز الكتاب مشروع تحويل ليدن إلى ديوان شعر عالمي، بمشاركة شعراء من مختلف الثقافات، بما في ذلك العرب، مما يعكس أهمية الشعر في الحياة اليومية.

ينشغل الشاعر والتشكيلي والمترجم العراقي ناصر مؤنس (1963)، في كتابه "ضدّ أفلاطون: قصائد على حيطان المدن"، الصادر حديثاً عن "دار مخطوطات" في هولندا، بالقصائد المكتوبة على حيطان مدينة ليدن الهولنديّة، إذ يوظِّفُ علاقته بالمكان واللغة، في تَتَبُّع المكتوب بين أحياء المدينة وأزقّتها، وترجمته من الهولنديّة إلى العربيّة.

تشتهر ليدن بكونها المدينة التي رُسمت على حيطانها مئة وستّ عشرة قصيدة لشعراء من مختلف بُلدان العالم، إذ يُصادف المُتجوّل بين شوارعها وأحيائها ومكتباتها، حيطاناً مَطليّةً بلونٍ معيَّنٍ ورُسمت عليها قصائد شعريّة بـ"غرافيتيا" خاصة تُحاكي القصيدة وموضوعها.

بدأتْ قِصّة هذا الكتاب الذي يمتدّ على خمسمئة وثماني صفحات، كما يرويها مؤنس، من خلال مصادفتَين، الأولى في عام 1995، وعنها يكتب: "في صباحِ أحد الأيام وفي طريقي إلى 'مكتبة جامعة ليدن' للبحث عن بعض المراجع والمخطوطات، شاهدتُ زوجين مُسِنَّين يتوقّفان للنظر إلى الحائط. ابتسمتُ لهما وتوقَّفتُ لأرى ما الذي كانا ينظرانِ إليه، وكانت المفاجَأة، كلمات باللّغة العربيّة مرسومة على الحائط: 'أَيَّامُنا كالشَّتَاءِ القُطبي/ ساعات الفرح فيها، كالضياء، خاطفة/ والفواجع كالليل لا تنتهي/ للإشراقات أوقاتٌ ما أسرع ركضها وللظلمات المواسم المقيمة/ وفي نهارات أثقالها كالرَّصاص/ يومض كَخَطْفِ البرق حُبٌّ/ لا يُفهَمُ منطقُه/ ويندلعُ الشِّعرُ كاللَّهيب/ في هشيم ضربته الصاعقة/ في هذا الرماد العتيّ المنتشر/ كيف بقِيَت هذه الكلماتُ الحارقة؟'".

يَعتبر الغرافيتيا مقاومةً تدمج الفنون والآداب بوجه الخراب

ويُتابع مؤنس: "يا إلهي هل هي حاضرةٌ هنا من دون معاونة أحد، هل هي حاضرة من أجلي، هل جاء بها بياض هذا اليوم الثلجي، هل كتَبتْ نفسها هنا مثل تعويذة حارسة؟". كانت القصيدة لجبرا إبراهيم جبرا.

أمّا المصادفة الثانية التي يذكرها الكاتب، فهي عثورُه بعد سنواتٍ على كتاب "أدب الغرباء"، المنسوب لأبي الفرج الأصفهاني، في "مكتبة بريل" بذات المدينة، وهو كتاب يتضمّن أشعاراً كتبها الغرباء في أماكن متفرّقة، على جدران المساجدِ والكنائس وحيطان البساتين وعلى القبور، بل وعلى عبَّارات السفن، وأسوار المدن.

من خلال قصيدة جبرا، ومن ثمَّ كتاب "أدب الغرباء"، وُلدت فكرة هذا الكتاب الذي يُثير فيه مؤنس أسئلة عن علاقة الشعر بـ"الغرافيتيا"، حيث يعتبرها المقاومة المسالمة التي تدمج بين الفنون والآداب وبين النشاط الذي يرفض كلّ الخراب الذي يُطوّقنا. 

توزَّع الكتاب على عشرةِ فصول، وكلّ فصلٍ يضمّ القصائد التي تتشابه في موضوعاتها، حيث يبدأ بقصائد الحرّية (14 قصيدة)، في حين تناولت باقي الفصول: الطبيعة (16 قصيدة)، والحبّ (3 قصائد)، والإحساس الداخلي (23 قصيدة)، وفنّ الكتابة (18 قصيدة)، والقصائد التجريبيّة (13 قصيدة)، والفنون (9 قصائد)، والحرب (7 قصائد)، والحياة (7 قصائد)، والتطوير الذاتي (6 قصائد).
 

ناصر مؤنس - القسم الثقافي
ناصر مؤنس

تَطلَّب جمْعُ هذه القصائد وترجمتها، التجوال في أحياء المدينة وشوارعها والتقاط الصور ومراجعة تاريخ كلِّ قصيدةٍ، ومناسبةِ كتابتها، والظروف التي أُنجز فيها العمل، إلى جانب ذلك، فقد أضاف مؤنس قراءته الخاصة لكلِّ قصيدة، وما أردات أن تُعبّر عنه، كاشفاً عن رموزها وأبعادها، ومُعرِّفاً بكاتبها وسيرته وأهم إسهاماته الشعريّة، وهذا بطبيعة الحال ينطوي على جهودٍ ما بين الجمع والبحث والترجمة، وهو ما لم يسبقه إليه أحد في تناول موضوع كهذا له علاقة بالشعر والغرافيتيا وبعملٍ ميدانيّ، ما عدا الأصفهاني الذي أشار إليه الكاتب.

يُثير الكتاب مجموعةً من الأسئلة التي لا تنتهي، عن علاقة الشعر بالمدينة، وبالسكّان، وعن قيمته عندهم، وعن علاقة اللون والحركة والرمز المرسوم مع كلِّ قصيدة، ولماذا لا نُشاهد أعمالاً كهذه في مُدننا الخاوية، بل ربما لا نشاهدها حتى في أهم المدن الثقافيّة في العالم، يثير مؤنس سؤالاً آخر: لماذا يتمّ سجْنُ الشعر في الكتب أو خنقه في المناهج الدراسيّة ولا نجده في كلّ مكان، على الحيطان، في الشوارع وعلى واجهات الباصات والقطارات، على أكياس الخبز وعُلب الحليب والكثير من المرافق العامّة؟ لماذا نحرم شعرنا العربيّ من هذه المحاولة المختلفة للاتصال بالكون ونحمله على السفر إلى ضفاف أُخرى؟

لعلّ الإجابة عن هذا السؤال لا تنطوي على معاينة الواقع الثقافيّ ومدى التفاتِ العامّة إلى أهميّة الشعر في الحياة اليوميّة، بل لا أجد من مبرِّر سوى غياب الوعي الجماليّ عند الناس المشغولة بتحصيل العيش والانهماك بالسياسة والمشاكل المجتمعيّة التي تُشتِّتُ الذّهن ولا تقرّبه من أي فكرةٍ جمالية، إضافةً إلى فوضى المدن التي تفتقر إلى التنظيم والتي تُؤثّر سلباً على الذائقة الجمعيّة، بالتالي، في ظلّ هذه الظروف، لا تهتمُّ الناس بوجود قصيدةٍ أو جداريّة في مكان عام، بل إنَّ العين لن تلحظ التصحّر الفنّي الذي تُعانيه المدن، ولن تفكّر فيه. أمّا عن مدينةٍ اعتاد سكّانها قراءة الشعر المكتوب على جدرانها، فهو ما يستدعي السؤال عن علاقتهم بالشعر، ومدى استعدادهم النفسي والثقافي لمثل هذا التلقّي الذي لا يبدو مألوفاً، بل عن علاقتهم بالجانب الفني على أيّة حال، كون القصيدة ليست مجرّد كلمات مكتوبة، بل هي مرسومة بلونٍ خاصٍ وحركةٍ خاصة تُميّزها عن غيرها.

مَسْحٌ ميداني لكلّ حائط في ليدن كُتبت عليه أبياتٌ شعرية

ولا بد من الإشارة إلى نقطةٍ مهمة، إنَّ القصائد كُتبت بلغتها الأصليّة، فهناك العربيّة والروسيّة والصينيّة والهنديّة واليابانيّة وغيرها من اللغات، وإلى جانب كلِّ قصيدة ترجمة إلى الهولنديّة؛ كي يتمكّن السكّان من قراءتها بلغتهم، هذا الفعل، أي كتابة القصيدة بلغتها الأصليّة، هو الإشارة إلى أنَّ هذا المشروع ليست الكتابة هدفه الوحيد، بل هو تحويل المدينة إلى ديوانِ شعرٍ عالميّ بألسنةٍ مختلفة، ولن يجد السكّان ضيراً بوجود لغةٍ لا يقرؤنها، فهُم أساساً يدركون أنَّ ما كُتب على الحائط هي قصيدة، وهذا يكفي لأن يجعلهم يتعايشون مع الشعر بشكله وحَرْفه ولونه وجدرانه وليس لمجرّد قراءته فقط.

إن عنونة الكتاب بـ"ضدّ أفلاطون"، له غايته التي أرادها المؤلّف، فهو يشير بذلك إلى موقف أفلاطون من الشعر والشعراء، إذ طردهم من المدينة، وهذا الطرد يرى فيه الكاتب الركيزة التي تعتمدها السلطات لنقد التيارات الشعريّة التي لا تمثّل رغباتها، وهنا نتبين أن أفلاطون فرَض سلطتَه على الشعر كما تفعل السلطات، بالنتيجة هو لقاءٌ في العمق واشتراك في التوجّه المضادّ للشعر، هذا ما يجعل الشاعر والقارئ يشعران بخيانة أفلاطون لهما، لذا جاء العنوان بالضدِّ من فكرة الفيلسوف، وليعيش الشعر ويتغلغل في حياة الناس اليوميّة ويشاركهم تنقّلاتهم واستراحاتهم، أينما تلفَّتوا أو عبروا، قد تصادفهم قصيدة، لهذا، فهنا المدينة لا تخضع لحكم الرقيب ولا ترزح للسلطة التي تحدّد وفقاً لمزاجها، ما يبقى في المدينة وما يُطرد منها، وبهذا، فإنَّ المدينة تحوّلت إلى متحفٍ مفتوح، لا يحتاج إلى إذنٍ لدخوله، حيثما تمشي تصادفك الرسوم والقصائد وكلّ ما له علاقة بالفنّ.

وبالعودة إلى مدينة ليدن، وإذا سألنا، لماذا اختصّت هذه المدينة دون غيرها من المدن الهولنديّة بهذا المشروع؟ يُجيب مؤنس: "تتميّز المدينة بصفاتٍ خاصّة في تفاصيلها وبمستوىً عالٍ في طريقة التعامل مع الكتابات الحائطيّة، وتتمتّع بلدية المدينة بموقف تقدّمي تجاه الفن الغرافيتي وفن الشارع. فهناك الكثير من الكتابات القانونيّة التي تمّت أنْسنَتُها لتصبح من أهم المعالم التي تميّز المدينة. فضلاً عن مجموعة واسعة من الأعمال غير القانونيّة. ونظراً للوجود البَصريّ الكثيف للغرافيتي وكتابة القصائد الشعريّة بمختلف اللغات وتنوُّع الشعراء لمختلف العصور التاريخيّة المكتوبة على حيطانها، فهي المدينة المناسبة بشكلٍ مثاليّ (بالنسبة إلى هدف هذا المشروع) لترجمة (القصائد المكتوبة على الحيطان)".

يتغلغل الشعر في يوميات الناس ويشاركهم تنقّلاتهم

ووفقاً للتشكيلي العراقي فإن فكرة تحويل القصائد إلى جداريات تعود إلى عام 1992، الذي صادف مرور مئة سنة على ولادة الشاعرة الروسية مارينا إيفانوفنا تسفيتاييفا (1892 - 1941)، حين فوجئ سكّان مدينة ليدن ذات يوم بقصيدةٍ مكتوبةٍ على إحدى الحيطان لهذه الشاعرة، ما أثار اهتمام الإعلام وولّد ردات فعلٍ عند السكّان، لاحقاً، تبيَّن أنها مبادرة من الرسّام يان فيليم بروينز والكاتب والمترجم بن والنكامب الذي يعتبر تسفيتاييفا شاعرته المفضّلة، من هنا، بدأ هذا التقليد بقصيدة تحمل عنوان "قصائدي التي كتبتها وأنا صغيرة"، وهي أول ما كُتب ضمن هذا المشروع.

اشتمل المشروع على شعراء من جغرافيات متنوّعة، من لاتفيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا وبولندا والبرازيل والهند وسورينام واليابان وبلغاريا وتركيا وفرنسا والأرجنتين والنمسا ودول أُخرى، وضمَّ أسماء مهمّة في الشعر العالمي، مثل آنا أخماتوفا، وديريك والكوت، وآرثر رامبو، وفيديريكو غارثيا لوركا، وخورخي لويس بورخيس.

وما دام أنَّ هذا المشروع قد اشتمل على شعراء من مختلف أنحاء العالم، فإنَّ أوَّل ما سيبحث عنه القارئ العربيّ، هو الشاعر العربيّ، حضوره وقصيدته، وهذا ما فَعَلْتُه، إذ وجدتُ أنَّ الشِّعرَ العربيّ حاضرٌ بثلاث قصائد، الأولى للشاعر الفلسطينيّ جبرا إبراهيم جبرا، والتي رُسمت عام 1995، ولا تتوفّر أي معلوماتٍ أُخرى عن القصيدة أو من اختارها أو عن جبرا وإذا كان قد زار المدينة أم لا، كما يذكر الكاتب. 

أما الشاعر الثاني فهو أدونيس، وقد رُسمت قصيدته عام 2013، وجاء اختيار القصيدة، لمناسبة ذكرى مرور أربعمئة عام على بدء دراسة اللغة العربيّة في "جامعة ليدن"، والتصميم الغرافيتي للقصيدة مستوحىً من ألوان مسجد قرطبة بإسبانيا، يقول أدونيس: "الضياعُ الضياعْ/ الضياعُ يخلِّصنا ويقود خطانا/ والضياعْ/ ألقٌ وسواه القناعْ/ والضياعُ يوحِّدنا بسوانا/ والضياعُ يُعلّق وجه البحارْ/ برؤانا/ والضياعُ انتظارْ".

أما الشاعر الثالث، فهو الوليد ميمون، حيث كُتبت قصيدته باللغة الهولنديّة، وكما نقرأ فإنَّ الوليد موسيقيّ وكاتب وشاعر من منطقة الريف المغربي وُلد في قرية جبليّة شمال البلاد، وقد عاش في هولندا لفترةٍ قبل أن يستقرّ في بلجيكا، ويشتهر مغنّياً في مجتمع المهاجرين. يقول في قصيدته "جبال الريف":

"هناك، ترتفع جبال الرّيف العالية 
هناك، تصطفُّ جبالٌ من سيوف المعارك 
بالأمس، كان هناك رجالٌ استطاعوا أن يفعلوا شيئاً
لكنَّ، اليوم، لم تبقَ إلّا بقايا حطام المقابر.
مقبرة النسور تُطلق نشيدها الفخم فوق القمم 
حيث تشهد الجبال على شجاعة الرجال 
شجاعة 'عبد الكريم' ومُحاربي الرّيف
الذين خاضوا المعارك ضدَّ الغزاة.
انظرُوا أيُّها الشباب، انْظُروا إلى الجبال 
معبّدة بنجوم من مآثر الأسود 
مأثرة 'عبد الكريم' 
مأثرة المناضلين من أجل الحريّة".

إلى جانب القصائد المكتوبة بلغاتٍ مختلفة، تبرز المفاجأة الطريفة بوجود قصيدة تتميَّز عن كلّ القصائد، وهي قصيدة الشاعر الهولندي فيم إميريك، هذه القصيدة كُتبت بلغة الإشارة، وموجَّهة للصُّم، وقد اشتهر الشاعر منذ التسعينيات بكتابة قصائده بهذه الطريقة، وتُعرَض القصيدة من خلال شاشة عالية السطوع تُمكن رؤيتها في جميع الظروف الجوّية، وجاءت فكرة القصيدة من خلال الباحثة الهولندية في لغة الإشارة بـ"جامعة ليدن"، فيكتوريا نيست، والتي سعت من أجل إضافة هذه القصيدة إلى المشروع، وتحقَّق هذا عام 2017.


* شاعر من العراق
 

المساهمون