أسئلة مقلقة

28 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني مهدي براغيثي
+ الخط -
اظهر الملخص
- **بين صباحين وصوتين**: يقارن الكاتب بين صباح رام الله وصباح غزة، معبراً عن الألم الناتج عن الاحتلال وتفريق الأرض والسماء، ويتمنى حرية الطيور في كلا المدينتين.
- **صباحات غزة القاسية**: يصف صباحات غزة المليئة بالخوف وأصوات القذائف، ويروي قصة امرأة فلسطينية واجهت دبابة بصحن فارغ، رمزاً للمقاومة والحياة.
- **المرآة والحائط**: يتناول الكاتب فكرة الحائط كرمز للأمان، ويروي قصة زميله الذي فقد ابنه في الحرب، ويعبر عن تصالحه مع المرآة التي تعكس صورته المتألمة.

أقفُ بين صوتين، أو بين نزاعين عظيمين، صوت الزنّانة الذي يجعل باكورة الصباح تذبل في أحواضنا المكسورة على الشرفات، وصوت فرخ عصفورٍ يشبه الزعيق لا الزقزقة، يُخيّل إلي أنّه يقول للزنّانة: توقّفّي قليلاً أريدُ أنْ أغنّي.

هل صباح رام الله يشبه صباح غزّة؟

هل تزعق العصافير فيه أم تبدأ صباحها بالغناء، وهل تجد نفسك فجأةً واقفاً بين صوتين يشبهان جداً تكويننا الفلسطينيّ، صوت الحرب الشرس وصوت محاولتنا للحياة.

هل استطاعوا أن يُقسّموا سماءنا كما فعلوا بأرضنا؟ وأنا أكتبُ من تحت هذه السماء المثقلة بكل فجائع الكون، تؤلمني فجيعة الأرض التي قسمها الاحتلال وكلّ الذين أداروا ظهورهم لفلسطين حين جعلوها قطاع غزّة ورام الله. في إحدى المقابلات معي، قلتُ تبدو رام الله بعيدةً جدّاً، أبعد من أميركا عندي، على قربها الجغرافيّ إلا أنّ حاجزاً لعيناً للاحتلال جعلنا نحسّ بأننا في المنفى.

ولا أدري إذا مشيت في شوارعها يوماً ما في حال أنني نجوتُ من حرب الإبادة هذه ماذا سأقول لها في لقائي الأول، ربّما سأنظر إلى أشجارها وأقول لعصافيرها غنّي بكل ما لديكِ من اتساعٍ للصوت، وإذا حاصرك العدوّ فازعقي كما تفعل العصافير في غزّة، المهم ألا تسكتي أبداً، واحتملي قدميَّ المتعبتين وإن كانتا تسيران فيك للمرّة الأولى، ذلك تعب الأشقاء المتعبين المقهورين المخذولين والذين لم يزالوا يستطيعون إذا تقابلوا أن يتعانقوا طويلاً بدون عتاب لأنّهم فهموا جيّداً رسائل البحر إلى الجبل، تلك التي تُكتبُ بلا عناوين ولا حواشٍ، ولكن بمتونٍ خالدة، تحملها النوارس وتكمل رحلتها الحمائم من فوق الأسلاك الشائكة والبنادق الحاقدة.

تؤلمني فجيعة الأرض التي قسمها الاحتلال وكلّ الذين أداروا ظهورهم لفلسطين حين جعلوها غزّة ورام الله

أمّا بعد،

فليس الصباح جميلاً، أنا التي تحبّ فتح الستائر وتسريب الضوء إلى كلّ زاوية، وأحب شرب القهوة في شرفتي العالية التي أرى منها بحر غزة وعبور السيارات على شارع الرشيد، ذلك الشارع الذي دهست الدبابة به أجساد النازحين، وفي رواية لأحد الأقارب أنّهم وجدوا فيه جسد امرأةٍ مسجّى وهي تحمل في يدها ملعقة وصحناً فارغاً، هل كانت تواجه الدبابة بصحنٍ فارغ، أم أنّها تجيد صناعة الرواية الفلسطينية حين تعبر من أمام دبابة وهي تحمل صحنها ذاك، وتقول إنّه وسيلتي لصناعة الطعام، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا "عليها" سبيلاً، ولكن عدوّنا يكره يدك التي حملت صحنها، فقد كان ينازعه على وجوده، فأي سبيل للحياة تبتكرينه هو تهديد حقيقيّ للصهيونية، أخبرني الذي دفنها بأنها مجهولة الهوية كتب على لافتة مغروسة فوق قبرها:
(امرأة فلسطينية بعباءة سمراء تحمل صحناً فارغاً وملعقة أمام دبابة إسرائيلية على شارع الرشيد). 

تعبتُ ليس لأنّ هذه الزنّانة تنخر في رأسي منذ أكثر من مائتي يوم وعشرة من الأيام، بل لأننّي اشتقتُ إلى الصباح. إنّ الشمس تشرق، أستطيع رؤية ذلك اللون الأصفر المتوهّج من وراء النافذة المهشّمة، إلا أننّي لم أعد أحبّ الاقتراب منها. إنّ هذا الصباح لا يشبه صباحي الذي أحبّه، إنّه صباحٌ غريب جداً وموحش، وصوت القذائف فيه تجعل الاقتراب حتى من النوافذ أمراً مرعباً.

هل أحسستَ يوماً أنك خائفٌ من نافذتك التي تحبّها؟ هل شكّلت لك هاجساً يوماً ما لتتحوّلَ فجأة إلى غريبٍ عنها، أم أنّ هذه الغُربة الطويلة هي فقط لغزّة التي استوحشت كل الأشياء التي كانت تحبّها يوماً ما! كم يبدو الصباح غريباً عنّي، وكم تتعب العصافير فيه من حنينها إلى الغناء الحرّ تحت الزّنانة والكواد كابتر و"الإف 16"، وكم تجرحني نافذتي وأنا لا أستطيع الاقتراب منها.

النصيرات
12 أيار/ مايو 2024

■ ■ ■

في حيطان؟ 

يصلني هذا السؤال وأنا في مدينة تقع على البحر، لم أعش في الصحراء يوماً، ولم أتفقد بأصابعي إحساس الحجارة المصفوفة لتكوّن حائطاً، لم أجرب أن أجعل ظهري مباشرةً على الحائط، كنت دائماً أفصل بيننا بوسادةٍ عريضة منفوشة، ولم أفهم ماهية أن أرتكز إذا وقفت بيديّ على حائطٍ ما، لأنني كلّما أمسكتُ قماشَ الخيمة توجّعت يدي.

يتقوّس العمر كما الظهر بلا حائط!

امرأة فلسطينية بعباءة سمراء تحمل صحناً فارغاً وملعقة أمام دبابة إسرائيلية على شارع الرشيد

أنظر إلى سؤالك مرّة أخرى وأتخيّل كم يبدو الحائطُ فكرة عبقرية أو ربّما لوحةً عريقة وقد يأخذ شكل الانتصار إذا نزل صاروخ تدميريّ فوق عمارةٍ سكنية، وظلَّ حائطٌ منها واقفاً، ليتحوّل إلى مزار مقدّس، لأنه نجا حين لم ينج شيء آخر.

كيف يتحول الحائط إلى حاجة بشريّة ملحّة مثل الماء؟ لأنّ القماش ليس ندّاً للشمس، ينصهر فيصهر كل الأجساد التي تحته. هل جربت أن تضع فوق رأسك قماشة وتجلس تحت الشمس الحارقة في منتصف تمّوز؟ مليون شخص في غزّة يفعلون ذلك الآن.

اتصل بي زميلٌ في العمل قبل فترة بسيطة، يخبرني أن ابنه الوحيد استشهد واستطاع أن يعثر على جثمانه بعد أسبوعين، لكنه كان صابراً جداً، ويقول نحن نعرف النهاية الأزلية، صابراً كذلك الحائط الذي وقف وحيداً وسط الركام، هو يعرف أنه قد يكون الملجأ الوحيد لهاربٍ من حريق الخيمة، وأنّ كل ذلك الركام من حوله ليس النهاية.

هل تعرف أننّي أصبحت حقيقيةً جداً في الحرب؟ لا أخجلُ من المعاناة، بل أحملها بين يديّ وأرفعها عالياً، يجب أن يرى العالم كل هذا الألم المفجع وإن لم تنقله نشرات الأخبار التي تزاحمها الأرقام، لكننا نحن نحفظ الوجوه جيداً والأسماء والشوارع والأرصفة والدموع والتواريخ، وإنني الآن أكتشف كم أنا غارقة في الشعرية، ليس لأنني أكتب، بل لأنني لا أحتاج أن أرتدي أي قناع على وجهي، ولا أحتاج إلى "برستيجٍ" دسته بقدمي منذ أول لحظة أنذرونا فيها بالقصف.

مؤلم جداً أن أكتب كل هذا الألم وحدي، أنا التي تشجيني حركة الموج في البحر، ويؤلمني انقطاع خيط لطائرة ورقية في السماء، وتلهمني عيون النساء العاشقات، تقتلني الآن حرب الإبادة من دون أن تمنحني وقتاً لأكتب نصّي الأخير، فكّرت كثيراً ماذا سيكون شكله؟ هل سيكون منشوراً سردياً أو قصيدة شعر أو ستكون صورتي الصامتة فقط، حيث لن تتسع لكي ترافقها الكلمات.
سأجيبك الآن:
ليس هنالك حيطان، ولا طلاء ناعم فوقها، لا براويز معلقة، ولا مرآة متدلية، وليس هنالك شباك بستارة مخملية جميلة، وكذلك ما من باب، ولا درج، ولا عتبات مدسوسة بين أحواض النعناع والريحان والميرمية والزعتر البريّ ولا أطفال يلعبون أمامه الحجلة، لكن هنالك امرأة في لحظةٍ نزوحٍ قاتلة تشتهي حائطاً كان يحوي كل ذلك، وحين اشتهت ذلك أدركت أنّها لم تعد هي.

أقفُ بين صوتين، أو بين نزاعين عظيمين، صوت الزنّانة الذي يجعل باكورة الصباح تذبل في أحواضنا المكسورة على الشرفات، وصوت فرخ عصفورٍ يشبه الزعيق لا الزقزقة، يُخيّل إلي أنّه يقول للزنّانة: توقّفّي قليلاً أريدُ أنْ أغنّي.

هل صباح رام الله يشبه صباح غزّة؟

هل تزعق العصافير فيه أم تبدأ صباحها بالغناء، وهل تجد نفسك فجأةً واقفاً بين صوتين يشبهان جداً تكويننا الفلسطينيّ، صوت الحرب الشرس وصوت محاولتنا للحياة.

هل استطاعوا أن يُقسّموا سماءنا كما فعلوا بأرضنا؟ وأنا أكتبُ من تحت هذه السماء المثقلة بكل فجائع الكون، تؤلمني فجيعة الأرض التي قسمها الاحتلال وكلّ الذين أداروا ظهورهم لفلسطين حين جعلوها قطاع غزّة ورام الله. في إحدى المقابلات معي، قلتُ تبدو رام الله بعيدةً جدّاً، أبعد من أميركا عندي، على قربها الجغرافيّ إلا أنّ حاجزاً لعيناً للاحتلال جعلنا نحسّ بأننا في المنفى.

ولا أدري إذا مشيت في شوارعها يوماً ما في حال أنني نجوتُ من حرب الإبادة هذه ماذا سأقول لها في لقائي الأول، ربّما سأنظر إلى أشجارها وأقول لعصافيرها غنّي بكل ما لديكِ من اتساعٍ للصوت، وإذا حاصرك العدوّ فازعقي كما تفعل العصافير في غزّة، المهم ألا تسكتي أبداً، واحتملي قدميَّ المتعبتين وإن كانتا تسيران فيك للمرّة الأولى، ذلك تعب الأشقاء المتعبين المقهورين المخذولين والذين لم يزالوا يستطيعون إذا تقابلوا أن يتعانقوا طويلاً بدون عتاب لأنّهم فهموا جيّداً رسائل البحر إلى الجبل، تلك التي تُكتبُ بلا عناوين ولا حواشٍ، ولكن بمتونٍ خالدة، تحملها النوارس وتكمل رحلتها الحمائم من فوق الأسلاك الشائكة والبنادق الحاقدة.

أمّا بعد،
فليس الصباح جميلاً، أنا التي تحبّ فتح الستائر وتسريب الضوء إلى كلّ زاوية، وأحب شرب القهوة في شرفتي العالية التي أرى منها بحر غزة وعبور السيارات على شارع الرشيد، ذلك الشارع الذي دهست الدبابة به أجساد النازحين، وفي رواية لأحد الأقارب أنّهم وجدوا فيه جسد امرأةٍ مسجّى وهي تحمل في يدها ملعقة وصحناً فارغاً، هل كانت تواجه الدبابة بصحنٍ فارغ، أم أنّها تجيد صناعة الرواية الفلسطينية حين تعبر من أمام دبابة وهي تحمل صحنها ذاك، وتقول إنّه وسيلتي لصناعة الطعام، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا "عليها" سبيلاً، ولكن عدوّنا يكره يدك التي حملت صحنها، فقد كان ينازعه على وجوده، فأي سبيل للحياة تبتكرينه هو تهديد حقيقيّ للصهيونية، أخبرني الذي دفنها بأنها مجهولة الهوية كتب على لافتة مغروسة فوق قبرها:
(امرأة فلسطينية بعباءة سمراء تحمل صحناً فارغاً وملعقة أمام دبابة إسرائيلية على شارع الرشيد). 

تعبتُ ليس لأنّ هذه الزنّانة تنخر في رأسي منذ أكثر من مائتي يوم وعشرة من الأيام، بل لأننّي اشتقتُ إلى الصباح. إنّ الشمس تشرق، أستطيع رؤية ذلك اللون الأصفر المتوهّج من وراء النافذة المهشّمة، إلا أننّي لم أعد أحبّ الاقتراب منها. إنّ هذا الصباح لا يشبه صباحي الذي أحبّه، إنّه صباحٌ غريب جداً وموحش، وصوت القذائف فيه تجعل الاقتراب حتى من النوافذ أمراً مرعباً.

هل أحسستَ يوماً أنك خائفٌ من نافذتك التي تحبّها؟ هل شكّلت لك هاجساً يوماً ما لتتحوّلَ فجأة إلى غريبٍ عنها، أم أنّ هذه الغُربة الطويلة هي فقط لغزّة التي استوحشت كل الأشياء التي كانت تحبّها يوماً ما! كم يبدو الصباح غريباً عنّي، وكم تتعب العصافير فيه من حنينها إلى الغناء الحرّ تحت الزّنانة والكواد كابتر و"الإف 16"، وكم تجرحني نافذتي وأنا لا أستطيع الاقتراب منها .

النصيرات
12 أيار/ مايو 2024

■ ■ ■

في حيطان؟ 
يصلني هذا السؤال وأنا في مدينة تقع على البحر، لم أعش في الصحراء يوماً، ولم أتفقد بأصابعي إحساس الحجارة المصفوفة لتكوّن حائطاً، لم أجرب أن أجعل ظهري مباشرةً على الحائط، كنت دائماً أفصل بيننا بوسادةٍ عريضة منفوشة، ولم أفهم ماهية أن أرتكز إذا وقفت بيديّ على حائطٍ ما، لأنني كلّما أمسكتُ قماشَ الخيمة توجّعت يدي.

يتقوّس العمر كما الظهر بلا حائط!

أنظر إلى سؤالك مرّة أخرى وأتخيّل كم يبدو الحائطُ فكرة عبقرية أو ربّما لوحةً عريقة وقد يأخذ شكل الانتصار إذا نزل صاروخ تدميريّ فوق عمارةٍ سكنية، وظلَّ حائطٌ منها واقفاً، ليتحوّل إلى مزار مقدّس، لأنه نجا حين لم ينج شيء آخر.

كيف يتحول الحائط إلى حاجة بشريّة ملحّة مثل الماء؟ لأنّ القماش ليس ندّاً للشمس، ينصهر فيصهر كل الأجساد التي تحته. هل جربت أن تضع فوق رأسك قماشة وتجلس تحت الشمس الحارقة في منتصف تمّوز؟ مليون شخص في غزّة يفعلون ذلك الآن.

اتصل بي زميلٌ في العمل قبل فترة بسيطة، يخبرني أن ابنه الوحيد استشهد واستطاع أن يعثر على جثمانه بعد أسبوعين، لكنه كان صابراً جداً، ويقول نحن نعرف النهاية الأزلية، صابراً كذلك الحائط الذي وقف وحيداً وسط الركام، هو يعرف أنه قد يكون الملجأ الوحيد لهاربٍ من حريق الخيمة، وأنّ كل ذلك الركام من حوله ليس النهاية.

هل تعرف أننّي أصبحت حقيقيةً جداً في الحرب؟ لا أخجلُ من المعاناة، بل أحملها بين يديّ وأرفعها عالياً، يجب أن يرى العالم كل هذا الألم المفجع وإن لم تنقله نشرات الأخبار التي تزاحمها الأرقام، لكننا نحن نحفظ الوجوه جيداً والأسماء والشوارع والأرصفة والدموع والتواريخ، وإنني الآن أكتشف كم أنا غارقة في الشعرية، ليس لأنني أكتب، بل لأنني لا أحتاج أن أرتدي أي قناع على وجهي، ولا أحتاج إلى "برستيجٍ" دسته بقدمي منذ أول لحظة أنذرونا فيها بالقصف.

مؤلم جداً أن أكتب كل هذا الألم وحدي، أنا التي تشجيني حركة الموج في البحر، ويؤلمني انقطاع خيط لطائرة ورقية في السماء، وتلهمني عيون النساء العاشقات، تقتلني الآن حرب الإبادة من دون أن تمنحني وقتاً لأكتب نصّي الأخير، فكّرت كثيراً ماذا سيكون شكله؟ هل سيكون منشوراً سردياً أو قصيدة شعر أو ستكون صورتي الصامتة فقط، حيث لن تتسع لكي ترافقها الكلمات.

سأجيبك الآن:
ليس هنالك حيطان، ولا طلاء ناعم فوقها، لا براويز معلقة، ولا مرآة متدلية، وليس هنالك شباك بستارة مخملية جميلة، وكذلك ما من باب، ولا درج، ولا عتبات مدسوسة بين أحواض النعناع والريحان والميرمية والزعتر البريّ ولا أطفال يلعبون أمامه الحجلة، لكن هنالك امرأة في لحظةٍ نزوحٍ قاتلة تشتهي حائطاً كان يحوي كل ذلك، وحين اشتهت ذلك أدركت أنّها لم تعد هي.

هل يمكن أن تصبحَ المرآة وحشاً مخيفاً؟

هل سبق أنْ أخافتك المرآة؟ صديقتي تخبرني أنها بعد قضائها سبعة شهور في الخيمة أصبحت تخاف النظر إلى وجهها في المرآة، والحقيقة أنني أعرف أنّ المرايا تحب النظر في وجهها لجمالها، تغافلت عن هذه الجزئية في حديثها واكتفيت بابتسامة متألمة على شفتي، لكنني فكرت بصدق كم أصبحت المرآة مخيفة!

كلّما وقفتُ أمام المرآة أغمضت عيوني ثم فتحتها رويداً رويداً وأنا أقول أرجوك أيتها المرآة لا تخيفيني، والخوف من المرآة يشبه أن أنظر في عيوني فأبصرُ الآن صوراً كثيرة متألمة فيها، كأن أسمع عيوني تقول ما أشدّ هذا الشجن! وتستطيع أن تخبرني عيوني في المرآة أن صورتي ناقصة كثيراً، وتذكّرني أنّ هنالك أربعة وجوه غائبة تماماً عنها، فالمرآة تقرأ عيوني جيداً. وهي تقول لي: وأنت تخوضين ملحمتك الكونية في الصبر أنت تنهارين كثيراً، تبكين فجأة في منتصف الليل، تبتهلين إلى ربك راضية، ولكنك فجأة تقولين له: لقد تعبت يا حبيبي، وقد تقولين له أرجوك لا تجعلني أهون عليك!

وتقول لقد جعلك الحزن أكثر جمالاً ووضاءة!

لا تغسلي وجهك بعد كل مرة تبكين فيها، ذلك الدمع الذي توضأ من ماء عينيك الصابرتين أطهر من كل ماء الدنيا، تعالي وامسحيني أنا المرآة، فإنني أحتاج أن تغسلني يداكِ من أدراني، وانظري إلي لا تخافي. سأخبرك في كلّ مرّة، أنت امرأة جميلة وشامخة ولا بأس أن تبكي وأن تنهاري وكلّما اشتقتِ إلى كتفٍ تنامين عليه أطمئنُّ عليكِ.

هكذا كانت تصالحني المرايا، كنتُ أخاف منها بداية ثم أصبحتُ أحبها.

لقد كانت تعرفُ كيف تتكلمُ معي، لأنّها كانت تجيدُ قراءتي، لذلك لم أعد أخاف إذا سالت دموعي أمامها ولم أعد أخجل منها إذا ضحكت، فأنا أشتاق كثيراً إلى رؤيةِ ضحكتي عبرها، نحن نشتاق إلى أنفسنا قبل الحزن، إن الفقد تجربة قاسية جداً ومريرة، إنّها تجعلك تخجل من عيونك إذا لمعت فجأة ومن قلبك إذا خفق بصوت عالٍ، لكنّ المرآة استطاعت أن تقول لي: "لماذا ستقتلين الطفلة في داخلك، إنّها ما زالت تتنفس، دعيها علّها تهوّنُ عليكِ الطريق". 

لقد درّبتني على الحبّ.

كنتُ أضع يدي على عيوني كلّما رأيتها أرفع يداً وأتركُ أخرى، أفتح عيناً وأغمض أخرى، ثم وجدتني أنظر إليها بعينين مفتوحتين تماماً، وعرفت أنني ربّما أستطيع أن أتعافى مثلي وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة بعد تسعة أشهر من الحزن والفقد والخوف والبكاء بثبات وإن للحظةٍ واحدة!

النصيرات
8 تموز/ يوليو 2024. 

■ ■ ■

هل يمكن أن تصبحَ المرآة وحشاً مخيفاً؟

هل سبق أنْ أخافتك المرآة؟ صديقتي تخبرني أنها بعد قضائها سبعة شهور في الخيمة أصبحت تخاف النظر إلى وجهها في المرآة، والحقيقة أنني أعرف أنّ المرايا تحب النظر في وجهها لجمالها، تغافلت عن هذه الجزئية في حديثها واكتفيت بابتسامة متألمة على شفتي، لكنني فكرت بصدق كم أصبحت المرآة مخيفة!

كلّما وقفتُ أمام المرآة أغمضت عيوني ثم فتحتها رويداً رويداً وأنا أقول أرجوك أيتها المرآة لا تخيفيني، والخوف من المرآة يشبه أن أنظر في عيوني فأبصرُ الآن صوراً كثيرة متألمة فيها، كأن أسمع عيوني تقول ما أشدّ هذا الشجن! وتستطيع أن تخبرني عيوني في المرآة أن صورتي ناقصة كثيراً، وتذكّرني أنّ هنالك أربعة وجوه غائبة تماماً عنها، فالمرآة تقرأ عيوني جيداً. وهي تقول لي: وأنت تخوضين ملحمتك الكونية في الصبر أنت تنهارين كثيراً، تبكين فجأة في منتصف الليل، تبتهلين إلى ربك راضية، ولكنك فجأة تقولين له: لقد تعبت يا حبيبي، وقد تقولين له أرجوك لا تجعلني أهون عليك!

وتقول لقد جعلك الحزن أكثر جمالاً ووضاءة!

لا تغسلي وجهك بعد كل مرة تبكين فيها، ذلك الدمع الذي توضأ من ماء عينيك الصابرتين أطهر من كل ماء الدنيا، تعالي وامسحيني أنا المرآة، فإنني أحتاج أن تغسلني يداكِ من أدراني، وانظري إلي لا تخافي. سأخبرك في كلّ مرّة، أنت امرأة جميلة وشامخة ولا بأس أن تبكي وأن تنهاري وكلّما اشتقتِ إلى كتفٍ تنامين عليه أطمئنُّ عليكِ.

هكذا كانت تصالحني المرايا، كنتُ أخاف منها بداية ثم أصبحتُ أحبها.

لقد كانت تعرفُ كيف تتكلمُ معي، لأنّها كانت تجيدُ قراءتي، لذلك لم أعد أخاف إذا سالت دموعي أمامها ولم أعد أخجل منها إذا ضحكت، فأنا أشتاق كثيراً إلى رؤيةِ ضحكتي عبرها، نحن نشتاق إلى أنفسنا قبل الحزن، إن الفقد تجربة قاسية جداً ومريرة، إنّها تجعلك تخجل من عيونك إذا لمعت فجأة ومن قلبك إذا خفق بصوت عالٍ، لكنّ المرآة استطاعت أن تقول لي: "لماذا ستقتلين الطفلة في داخلك، إنّها ما زالت تتنفس، دعيها علّها تهوّنُ عليكِ الطريق". 

لقد درّبتني على الحبّ.

كنتُ أضع يدي على عيوني كلّما رأيتها أرفع يداً وأتركُ أخرى، أفتح عيناً وأغمض أخرى، ثم وجدتني أنظر إليها بعينين مفتوحتين تماماً، وعرفت أنني ربّما أستطيع أن أتعافى مثلي وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة بعد تسعة أشهر من الحزن والفقد والخوف والبكاء بثبات وإن للحظةٍ واحدة!

النصيرات
8 تموز/ يوليو 2024. 

 

* شاعرة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون