لا نملك سوى البارحة

28 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنانة الفلسطينية مجد مصري
+ الخط -
اظهر الملخص
- قضينا أمسية مليئة بالذكريات العائلية، حيث اخترت مع أخي حذاءً لزفافه وأعددنا "كيكة البرتقال" لنيروز الصغيرة، بينما جدتي يسرى شاركتنا قصصها عن النكبة عام 1948.
- حياتنا اليومية كانت مليئة بالأمل والنقاشات حول قضايا الوطن، نحاول أن نلمس الشمس ونستمتع بصوت الحياة بين أزقة الخيام.
- اليوم نعيش مثقلين بوجع وخوف من المستقبل، نتساءل عن معنى "النجاة" ونشعر بعبء التاريخ وأبطاله المزيفين.

البارحة كنتُ أطوي وجعًا عاديًّا، أقلب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وأشاهد الحياة تسير بشكلها العادي من دوني، فأتذكر أنني ما زلت قادرة على المشاهدة، ما زلت أملك بؤبؤ عيني، ما زال جسدي يحمل كله، ما زلتُ قادرة على التعب.

أقلبُ ذاكرتي لأبحث في ذكرياتي عن صورنا العائلية؛ البارحة كنت أختار مع أخي الكبير حذاءً يناسب قميصه العنابي وأصوّره خلسة، البارحة كنا في زفافه المنتظر، والبارحة حمل حقائبهُ للسفر تاركًا كرسيه فارغًا على طاولة السفرة بجانب والدي، وحديثاً لم نكمّلهُ عن الوضع السياسي في البلاد.

هذا الفعل قد لا يكون حين لا نكون أحياء!

البارحة، كنتُ أمشّط شعر الأمل، وأصنع "كيكة البرتقال" لنيروز صغيرة عائلتنا، لطالما أحببتُ تحضيرها معها وهي تتذوق بأصبعها الصغير عجين الكيك، نكتبُ قصصاً من خيالنا، نقفز فوق الغيمات ونقطف من العمر لحظة نحاول أن نكتشف ما يحدث في داخل الخزانة حين نغلق الباب.

حفل ملابس راقص؟

نميمة صغيرة بين الفساتين عن المناسبات التي حضرناها فيها؟

يرهقنا التاريخ، لا لبطولاته المزيفة فوق أشلاء أبناء مدينتنا، بل لأنهُ اكتسب صفة "التاريخ" من حياتنا

من الممكن أن تكون هناك جنّيات صغيرات يحققن الأمنيات! ولربما جنية الأسنان تحديدًا تنام بين ملابسنا القطنية الناعمة. سماوات نعبرها، وآلة زمن تدخلنا حيوات مختلفة. وفي السؤال عن الفضاء؟ نرقص مع الكواكب، ونصطاد النجمات، كنا نملك الكثير من الأسئلة التي لا إجابات لها، أين نذهب حين ننام؟ إلى أين تذهب الجدة بعد أن نزرع فوق قبرها الريحان؟

البارحة، كانت آخر مرة تنام فيها نيروز الصغيرة بالقرب منا، وهي تحمل في رأسها الصغير أسئلة عن السفر؟ ومعنى أن يسافر الشخص من دون أن يعود مرة أخرى؟

لأننا تعلمنا أن نبحث عن الإجابات لا أن نحصل عليها جاهزة، جهّزنا حقائبهم، وجلسنا نغني آخر أغنية تجمعنا لأني أحبها جدًّا بصوتنا حين نتمتم مع عود سلمان "ستي اليوم بعيدي وبشوحلها بأيدي".

البارحة، كانت جدتي يسرى هنا تمشط شعرها الأحمر وتربطه بـ"بكلة" ستان ناعمة، ثم تربط شعرها بوربة "منديل" عليها تطريز وردة، تدعوني لِـفنجان قهوة، وتشاركني قصصها عن البلاد، عن جدّي الذي كان يدرّس في مدرسة إعدادية، أول مرةٍ رأته كان والداهما في الأرض. كيف عرفته من قرب، تخبرني عن موسم سيدنا "الحسين"، وطقوس احتفالهم في كل سنة يحج فيها الناس إلى قبره.

سنترك للتاريخ أبطاله وحده، وسنموت وزنًا، رقمًا، إن وجدنا قبرًا أو جسدًا ندفنه!

وعن النكبة عام 1948، كيف حلّقت الطائرات فوق سمائها، وصوت براميل ثقيلة تهبط فوق رؤوسهم، حينها كانت في سن العاشرة تلعب مع أختها في الحارة، ومن شدّة الخوف دخلت منزلًا غير منزلهم. كيف خرجت من المجدل سيرًا على الأقدام لتصل في محطتها الأخيرة إلى هجرتها الأولى في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، أول ناس استقبلوهم، وكيف أصبحت من فتاة تلعب مع أختها في الحارة إلى لاجئة في الخيام؟!

البارحة كنت هنا، نسرق من الدنيا وقتًا لنا، ونحمل الشمس معنا أينما ذهبنا، نجدد لون بشرتنا القمحي، نهب لأنفسنا ذكريات نعرف جيدًا أنها ستصنع في ذاكراتنا أملًا ما، نحتاج إليه الآن لنضحك! أول صباحٍ نفطر فيه مناقيش مع شاي النعناع، على طريق حي الكرامة شمال القطاع، نأخذ من العم فؤاد كوب قهوة لنستعد ليوم حافل، نقاشات حول الوطن، وآخر لقاء أمام البيت.

البارحة كنا ننتظر اليوم بأحلام صغيرة، تكبر معنا بين الأصدقاء، أيام الجمعة، والأعياد. كانت الحكايات تمر من فوق ضحكاتنا، فنرمي شباكنا من شباك صغير علنا نلمس الشمس قليلاً. كان صوت الحياة يخرج من بين أزقة الخيام، يعرف كيف يكون صوتًا، أغنية، فنمشي صوبه ليشدنا إلى غدٍ ونعرف معنى الغد من الآن.

الآن لا نملك سوى البارحة ومحاولة النجاة، فنعتقد أننا نجونا لأجل البارحة، لا نخشى الموت ذاته، كل ما نخشاه أن تتطاير حكايتنا لتصبح شظايا لا تقتل سوانا، فنصبح أشلاء!

واليوم هو البارحة لغدٍ لا نعرفهُ، يتكتل في داخلنا وجعًا اعتدناه، فتتحجر حناجرنا، ونفقد قيمة "الكلمة"، فتصبح بلا معنى، وتصبح جدوى البقاء هي قدرتنا على البكاء، لا يعني أن تخرج من الإبادة بجسدك، أنك لم تصبح بعد أشلاء. وأعرف أنهُ لم تعد تخيفك فكرة أن تصبح "أشلاء"، فالوقت الذي وهبك خوفك هو ذاته الذي أدركت فيها أنك لن تشعر بموتك في الموت ذاته "إن كنت جسدًا كاملًا أو إن تصبح وزنًا في كيس بلاستيكي.

لا يد تجمع أشلاءنا المتناثرة بين خيام النازحين، ولا وقت لنعيد تشكيل جسدنا، لا نخشى الموت، ولكن كلّ ما نخشاه أن نودع بعضاً منا فنصبح أنصاف أجساد أمام إبادة لا تكفيها قدمان للهرولة نحو فعل "النجاة".

وفي السؤال عن "النجاة"، هل نجوت من الإبادة؟

ما معنى "النجاة" بعد كل هذا؟ أي يد ستمسك بنا؟ أي كتف قادر على حملنا؟ ولما أصبحت أقدامنا مثقلة بالطريق؟ وكيف ما زلنا قادرين على السير؟

أصدق موتي، وأكذّب "الحياة" كلها، فأعود محملة بخطيئة جدتي حين غادرت مدينتها المجدل "عسقلان"، ماذا أقول لجيل كامل غداً عندما يسألونني عن سبب النزوح؟

هل ستجاوبهم صور المجازر؟ الدمار؟ مساومتنا على وقف إطلاق النار؟ من سيصدق أنني هناك وحدي أطوف حول بيتي، وأجمع ما تبقى مني تحت الركام؟ أبحثُ عن وسادتي التي تركتها أمام الباب؟

كيف سأخبر جيلًا عن نكبة تمحو نكبة أخرى، وأي ذاكرة تلك مشبعة بالنكبات؟

يرهقنا التاريخ، لا لبطولاته المزيفة فوق أشلاء أبناء مدينتنا، بل لأنهُ اكتسب صفة "التاريخ" من حياتنا، فأصبحنا مثقلين بأملٍ مزيف، وبغد نكتب عن بارحته بخوف من مستقبله. لن يذكر التاريخ بحة صوت الأمهات في صراخهنّ على أبنائهنّ، ولا توجد أوراق كافية تكتب عن أوزاننا المدفونة، وأجسادنا المتروكة على الطرقات، لا وقت لذكر كلّ أولئك المتروكين على جانب الممر الآمن. لن يذكر خوفنا، موتنا، وبكاءنا، واعتيادية مشهد الموت.

وسنترك للتاريخ أبطاله وحده، وسنموت وزنًا، رقمًا، إن وجدنا قبرًا أو جسدًا ندفنه!

دير البلح، 14 آب/ أغسطس 2024

 

* شاعرة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون