استمع إلى الملخص
- **قصص الفقدان والمعاناة:** الأطفال والنساء والشيوخ فقدوا أحبائهم، مثل الطفل الذي فقد والده والأم التي لم تجد ابنها. "أبو العبد" أصيب بجروح بليغة، وزوجته تحملت مسؤولية تدبير شؤون الحياة، مما يعكس قوة الإرادة والصمود.
- **البحث عن الماء والموت المفاجئ:** الكاتب خرج بحثاً عن الماء، ليصدم بوفاة تلميذه حازم الذي أصيب أثناء انتظار سيارة الماء. وفاة حازم كانت رمزاً لمعاناة الجيل الصغير في ظل الحرب والخراب.
هطلت القذائف.. فركض النازحون إلى تلك الحياة التي ظنوا أنَّ فيها نجاتهم .. لم نكن جباء لنموت آلاف المرات في اليوم الواحد، فقد جاء أمر الجيش بالتوجه إلى الجنوب. خلال أسابيع قليلة اقتحموا المدينة، ارتكبوا فيها كلّ المجازر، حصدوا الكثير من طموحاتنا، أصبحنا نسترق بعض النوم من ليل تمارس فيه الحرب قذائفها على مقربةٍ منّا... وها نحن نصل إلى مشارف الشهر العاشر من نكبتنا الجديدة تلك، ما زلنا على قيد الحياة، وشلال الحب يتدفق بغزارة يروي قلوبنا الفارغة.
نراقب السماء خشية من غيمٍ من الفولاذ ينقض بصواريخه ليحولنا إلى أشلاء... نلتقي في أماكن النزوح والإيواء التي تكتظ بمن حالهم كمثل حالنا، إما أخرجوا من بيوتهم أو فقدوا بيوتهم، وسُلبت منهم مثلما سلبت منا كل أحلامنا من رؤى لحظات الألم التي نعيشها، فضجيج الانفجارات ظلّ لشهور يرسم في مخيّلتنا التابوت المناسب لجثثنا، وما زال يفعل... فنهرول بصخبٍ وخوف.
الأب يحمل طفله بحثاً عن النجاة والآلاف يهرولون مثله أيضاً في هذه الفوضى العارمة والقذائف تقتلهم وتجرحهم، لكن لا أحد ينتبه لأحد في فوضى الرعب هذه .. فقد هذا الطفل والده كما فقد ثلة أخرى من أسرته، ولم تجد تلك الأم ابنها، وذاك الشيخ يجمع أشلاء أسرته ويضمها إلى صدره في وداع مؤلم، ثم جلس على حطام بيته وهو يمعن نظره في البعيد منتظراً قدوم أشلاء بقية أفراد العائلة. نعم فالأطفال والنّساء والشيوخ سواء يدفعون ثمن تقليد أوسمة النصر وثمن الحياة.
ضجيج الانفجارات ظلّ لشهورٍ يرسم في مخيّلتنا التابوت المناسب لجثثنا، وما زال يفعل
نعم رأيته بأم عيني وسمعته بأذني. أصيب خالي "أبو العبد" في قدمه اليمنى وباتت عرضةً للبتر، وكذلك تملأ الرصاصات صدره، ووجهه مطرز بالثغرات، وأما عن الجسد فأكلت منه الشظايا... كل ذلك لأنه خرج ليطمئن على زوجته وأبنائه بعدما ظلوا محاصرين خلال العدوان على الشمال وأنهكتهم الحرب وفتكت بهم.
الحرب التي لم تبقِ لهم من صورتهم عندما كانوا عائلة شيئاً واحداً، فقد غيّب وابل الصواريخ وسيل القذائف ملامحهم وأخفى الجوع محاسنهم... كانت تلك المرة الأولى التي يراهم فيها جارنا يزن منذ اندلاع الحرب والنزوح القهري. فوجئ الشاب، فقد اسمرّت بشراتهم البيضاء، وتحوَّلت جلودُهم إلى اللون البني المجعَّد، ليأخذ من أعمارهم عشر سنواتٍ فوق عمرهم، فسألهم:
- إيش عمل فيكم الطوفان.
الأب يحمل طفله بحثاً عن النجاة والآلاف يهرولون مثله أيضاً في هذه الفوضى العارمة
كان السؤال موجهاً نحو زوجة خالي التي كانت ربة البيت الحقيقية، عليها مسؤولية تدبير شؤون الحياة خلال فترة النزوح ولها اليد العيا في كل شيء من إيجاد الطعام إلى توفير الملبس، هكذا كان الأمر قبل الحرب وظل هكذا بعدها أيضاً. ردت
- تستغربش يا يزن من هالسواد كل أكلنا وشربنا عالنار وطول اليوم بنلم حطب (من أجل إيقاد النار).
- الله يعينكم بس أبو العبد ضعفان كثير كمان بعد الإصابة. سلامته.
هذه المرة يجيب خالي أبو العبد "الحمد لله ضعفتُ ونقص وزني، بس لم أفقد ثقتي بالله ويقيني".
يهز يزن رأسه وباستغراب ينهي الحديث خالي "أبو العبد، بعد كل اللي صارلك متغيرتش!". وبعد حوار طويل وأسئلة تؤدي إلى أخرى عن أحوالهم وأحوال من بقي حياً من الجيران، ومن بقي بيته واقفاً بعدما نال ما نال من القذائف واللصوص، أخبره أبو العبد بأن هذه البسطة له وأنه صار تاجراً ويملك خيمةً.
كنت أفكر في تلك الإرادة وأقول هكذا نواصل.
ذات صباح استيقظت وأنا أشتهي شربة ماءٍ، فهذا الحَرّ يحرق قلوبنا ولهيب الخيام يجفّف عروقنا، فقد جاء الصباح لتبدأ معركتي في البحث عن الماء، كجميع النازحين هنا يعانون من شحّ المياه، ويضطرون للسير لمسافات طويلة للحصول على بعض الماء علّه يروي عروقهم التي تَغلي... خرجتُ لأبحث عن الماء، كنت قد قصدت حي الأمل، فإذ بأحدهم ينادي عليّ:
أستاذ أستاذ، حازم مات.
مَنْ حازم؟
تذكرت كلَّ من اسمه حازم إلا تلميذي البريء، فقال:
حازم من الصف السابع (٢).
فخارت قواي، كيف مات؟
"كان بستنى سيارة المية الحلوة وكان في ناس كثير بستنوا المية وصار قصف وتصاوب والمستشفيات فش فيهم علاج وضلّ ينزف لما مات وهيهم بيجهزوا يدفنو"..
لا حول ولا قوة إلا بالله وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، طيب وين هو الآن؟
هو بالمستشفى.
فعلمتُ أنها مشيئة الله التي أرادتني أن أكون بجواره لوداعه فقصدت المستشفى وأنا على يقين بأنّه نجا من كَبَد الطوفان.. وهنا أعادني حازم إلى يوم الأربعاء عندما سألني عن السلام والتسامح:
يا أستاذ في حالة آذاني أحد لا أرد له الإساءة من أجل الحفاظ على السلام، لكن إن العدو يريد أن يأخذ أرضنا؟
وأجبته: إن الله أمرنا بالدفاع عن أنفسنا وعدم التخلي عن حقوقنا عندما يعتدي علينا أحد، ويمكن التغاضي عن التصرفات التي لا تؤذينا ولا تؤذي من حولنا، وإن تراجع المعتدي فاسبقه يا ولدي وسامحه من أجل حفظ السلام والابتعاد عن الشر...
أعدتني لنفسي يا حازم، أعدتني لطابور الصباح، إلى ساحة المدرسة، إلى زملائي وعالمي الذي أحبّ، أقلامي وكراسة التحضير، إلى دروسي. لله درّك يا حازم، شعرتُ بوخز الخيانة يملأ صدري. اكتشفتُ أنّنا وحدنا لا شركاء معنا، الكل أصبح متعاطفاً أو متضامناً .. حتى مفرداتي تمازجت. تخلّيت طواعيةً عن الفصاحة والبلاغة، فجاة أعادني صراخ أم حازم وهي تقول: (حازم حكالي أنا هأضل أنزف لحد ما أموت زي اللي كانوا بالحاجز)، وليبكي قلبي عليك يا حازم كم تمنيت أن تعيش بسلامٍ، تحبّ الخيل والشّعر، صوتك يلامس قلبي وأنت تسألني: (وكتيش تاخذني ألقي القصيدة في الاتحاد زي عمر ومحمد وأمير)، قلبي موجوعٌ على رحيلك يا حازم وعلى هذا الجيل الصغير الذي ينشأ في الخراب..
وبعدها أكملت معركتي في البحث عن الماء.
* كاتب وناقد من غزّة