استمع إلى الملخص
- الانقسامات الإقليمية والسياسية في إسبانيا تؤثر على منتخبها الوطني، مع تحديات إضافية من التوجهات الانفصالية في الباسك وكتالونيا، لكن الفوز بكأس العالم 2010 جلب الوحدة للشعب الإسباني.
- النجاحات والإخفاقات الكروية لمنتخب إسبانيا تعكس التحديات الأوسع للبلاد، من الانقسامات الداخلية إلى التأثيرات السياسية والاقتصادية، مع تأثير ديناميكيات الأندية الكبرى على الهوية الوطنية والقضايا الاجتماعية.
مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. في هذه الحلقة نتناول تاريخ منتخب إسبانيا.
اختيار أحد عشر لاعباً في تشكيلة المنتخب الإسباني ليس أمراً هيناً على مدرّبي "لاروخا" على مرّ الأجيال، لأنّ فريقاً يحتاج إلى الانسجام أكثر من مواهب لاعبيه التي قد تتنافر حين يكون المطلوب منها أن تتكامل. فما بالنا بمنتخب جعل هويته الكروية اعتماد أسلوب قائم على التمريرات وتوظيف المهارات الفردية ضمن رؤية جماعية في ما بات يعرف باسم تيكي تاكا.
في ما عدا استثناءات قليلة جداً، عانت أجيال اللاعبين الذين حملوا قميص المنتخب الإسباني من صعوبات في الانصهار ضمن فريق واحد. ظاهرياً، يُفسّر ذلك بما تعيشه البلاد من تنافس حاد بين ناديي ريال مدريد وبرشلونة، بحيث يصعب أن نتصوّر أن يصبح "أعداء" الدوري "أصدقاء" في المنتخب. ولم تنجح إسبانيا في تحقيق إنجازات كروية إلا حين تجاوز مدرّبوها هذا المطب، فوجدوا توليفة تجمع بين أبناء مدريد وبرشلونة وغيرهم من أندية إسبانيا. وفي الحقيقة، لا يوجد إلا جيلان في مجمل تاريخ الكرة الإسبانية نجحا في ذلك؛ جيل التتويج بكأس أوروبا عام 1964، وجيل 2008 - 2012 الذي حقّق كأس العالم وكأسين أوروبيتين على التوالي. ففي تشكيلة منتخب إسبانيا وقتها انسجم بويول وتشافي وإنييستا من برشلونة، مع كاسياس وراموس وألونسو من ريال مدريد، مع لاعبين من فرق إسبانية أخرى مثل توريس ودافيد سيلفا.
كيف يمكن التعبير عن هوية مبعثرة؟
يُخفي تأثير التنافس بين ريال مدريد وبرشلونة أسباباً أخرى كانت وراء أكثر من فشل عاشت على وقعه الكرة الإسبانية. فالمنتخب صورة عن مجتمع تعبره شروخ كثيرة؛ يمكن اعتبار الانقسام الكروي الأبرز على السطح، وفي العمق نقف على انتماءات إقليمية يصل بعضها إلى طموحات الانفصال، وذلك حال إقليمي الباسك وكتالونيا. وبسبب هذه النزعات، تمثّل إسبانيا نموذجاً لبلد ظل مفهوم القومية فيه مشتتاً، مفتقداً إلى مشروع وطنيّ جامع كالذي طوّرته أمم أخرى مجاورة، ولقد انعكس شيء من ذلك في مرآة المنتخب الذي ساير اهتزازات تاريخ البلاد محطة بمحطة.
عانت أجيال من اللاعبين الإسبان من صعوبات في الانصهار ضمن فريق واحد
على مستوى الهياكل الرياضية، أيضاً، بدأ تاريخ كرة القدم الإسبانية بانقسام، إذ تأسّست جامعتان؛ الأولى عام 1909 والثانية سنة 1912 فلما بدأت إسبانيا إجراءات الانضمام إلى الفيفا رُفض طلبها أوّل الأمر بسبب عدم وجود إطار يمثّل مجمل الكرة في البلاد، وهو ما فرض على الجامعتين الانصهار عام 1913، ومن ثمّ تأخر إنشاء منتخب موحّد إلى سنة 1920 بسبب خلافات مترسّبة. وحين أُطلقت كأس العالم في 1930، رفضت إسبانيا التوجّه إلى أوروغواي، أسوة بإنكلترا التي ترفّعت عن المشاركة، قبل أن ينفتح قوس الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) فاندثر المنتخب، وبنهايتها اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) فتوقف تاريخ كرة القدم بمجمله بضع سنين.
يمكن اعتبار دورة كأس العالم 1950 في البرازيل لحظة ميلاد منتخب إسبانيا مع تحقيقه المركز الرابع، وقد بدا أن تطوّر المنافسة محلياً قد انعكس على أداء أصحاب القمصان الحمراء. في ذلك الوقت، بدأ ريال مدريد في بناء مشروع مُعولم، بمفردات اليوم، حين جمع أفضل لاعبي العالم في زمن كانت الفرق مجرّد فترينات ضيقة لمواهب مُدنها أو القطاعات التي تمثّلها. سيوفّر ذلك بنية تحتية لازدهار الكرة الإسبانية، خصوصاً حين تفوّقت بشكل مطلق على مستوى الأندية في البطولات الأوروبية. لكن، لم يكن للمنتخب حظ كبير من هذا الزخم، على الرغم من كون الفرصة سنحت لـ"لاروخا" كي تأكل الأخضر واليابس لو توفّر القليل من الرعاية الرسمية، فقد تهيّأ لإسبانيا أن تجمع فريقاً مُرعباً حين كانت قوانين الفيفا تسمح بتغيير الجنسية الرياضية، فإضافة إلى المواهب الإسبانية، مثل لويس سواريز وخينتو، كان على ذمة المنتخب الإسباني الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو والمجري فرنك بوشكاش.
كان على المنتخب الأحمر أن يدفع فاتورة الديكتاتورية العسكرية التي أرساها الجنرال فرانكو وتقلّب مزاجها السياسي وقتها. ففي نهاية الخمسينيات مثلاً، وضمن تصفيات كأس أوروبا، أوقعت القرعة إسبانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي، غير أن الجنرال قرّر عدم السماح للاعبيه بالتوجه إلى موسكو، نظراً للخلافات السياسيّة بين البلدين. هكذا، بدت إسبانيا لعقود متتالية وكأنها مُصرة أن تتأخّر كروياً، كغير ذلك من وجوه التأخّر الذي فرضته سنوات الحكم العسكري، ثم بدا أن البلاد قد بُعثت فجأة بموت الجنرال فرانكو عام 1975 والتحوّل إلى نظام ملكي دستوري أدخل البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي، وكانت خلاله إسبانيا محظوظة بأن دعمتها البيئة الدولية فأتى سلساً (ليس كالانتقالات الديمقراطية في منطقتنا)، وأعاد تشكيل المجتمع وتحديثه في سنوات قليلة. حتى الفيفا، ساهمت من موقعها في تحريك عجلة التحوّلات بمنح تنظيم نسخة كأس العالم 1982 لإسبانيا.
كانت نشوة مرحلة الـ"موفيدا" تمنح أجنحة للإسبان كي يحلموا بترجمة نهضتهم في منتخب يأخذ المكانة التي يستحقها بين القوى الكروية العالمية. يمكن لهم أن يعوّلوا أيضاً على قوة أنديتهم وما تتيحه الليغا من فرص تطوّر للاعبين. غير أن الشعب الإسباني سرعان ما استفاق على كابوس مع ظهور تشكيلة مفكّكة بلاعبين أداؤهم يفتقد إلى الحماسة، وعاجزين عن مسايرة منافسين مغمورين مثل هوندوراس (1-1) أو أيرلندا الشمالية (هزيمة 1-0). كان ذلك المنتخب بعيداً جداً عن الصورة التي أراد الإسبان أن يقدّموها عن أنفسهم للعالم، وهل كان يوجد أفضل من كرة القدم لفعل ذلك؟
وعيٌ كرويّ جديد في إسبانيا
أعلنت صدمة 1982 بداية مرحلة جديدة. لم يعد المنتخب مسألة تجميع أفضل لاعبين، بل يحتاج إلى سياسة رياضية جديدة تبدأ بمراحل تكوين الشبان. ولبناء منتخب قادر على المنافسة أوكلت المهمة للمدرّب ميغيل مونيز، الذي حقق إنجازات كبيرة مع ريال مدريد. ومع وصول جيل بوتراغينو وميشال وغويكوتشيا، تحسّنت النتائج بشكل ملحوظ، وهو ما ترجمته مشاركة محترمة في بطولة أوروبا 1984 في فرنسا، وصولاً إلى المباراة النهائية أمام الفريق المنظّم حيث انهزم الإسبان. كان الأداء المشرّف كافياً لاسترجاع الأمل، ومن ثمّ واصل المنتخب الإسباني عروضه المقنعة في كأس العالم 1986، خصوصاً في مباراة شهيرة أمام الدنمارك سجّل خلالها بوتراغينو أربعة أهداف قبل الانسحاب بصعوبة أمام بلجيكا بضربات الترجيح في ربع النهائي.
انتهت مرحلة مونيز، لكن ظلت إسبانيا على مستوى من الثبات لسنوات طويلة كان المدرب خافيير كليمنتي عنوانها الأبرز. في كل مرة، يرفع أداء المنتخب الإسباني في مرحلة التصفيات التوقعات، ومن ثم يحضر في مختلف البطولات الكبرى بلاعبين أفذاذ يقتربون ببلادهم من منصة التتويج لكنهم يصطدمون بمنتخبات أكثر طموحاً. تجلّى ذلك حين كانت الترشيحات تصبّ في مصلحة "لاروخا" أمام إيطاليا في ربع نهائي المونديال الأميركي عام 1994، فبعد أن تقدّمت إسبانيا في النتيجة عدّل الطليان ثم سجّل روبيرتو بادجو هدفاً قاتلاً كأنما كان يشير إلى السقف الذي لن يستطيع أن يتجاوزه منتخب إسبانيا أبداً. حتى حين ارتسم طريقٌ سالك في كأس العالم 2002 نحو الأدوار المتقدّمة اصطدم الإسبان بأخطاء تحكيمية فادحة منحت بطاقة المرور للنصف النهائي للبلد المنظم كوريا الجنوبية على حسابهم.
لعقود متعاقبة، ظل المنتخب الإسباني يراوح مكانه بعيداً عن التتويجات
لم تكن إسبانيا سوى قوة كُروية تراوح مكانها، وقِس على ذلك موقعها في الاقتصاد والثقافة في العالم. كان التفسير الجاهز دائماً هو أن التنافس في الدوري الإسباني يعطّل بلوغ لاروخا أعلى مستوى من التنافسية. صحيح أن عدة لاعبين قدّموا الكثير للمنتخب، لكنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد موسم طويل منحوا خلاله نواديهم أضعاف ذلك. لأجيال متلاحقة، كانت إبداعات اللاعبين الإسبان تظهر أساساً عبر تتويجات أنديتهم. فماذا نذكر مثلاً من مسيرة راوول في المنتخب إذا قارناها بإنجازاته مع ريال مدريد، والأمر ذاته بالنسبة للاعبٍ في برشلونة مثل بيب غوارديولا.
لم يُراجَع هذا الرأي، ولم يمحُ مشاعر الخيبة جراء سوء الحظ أو الظلم التحكيمي، إلا صعود جيل التتويجات بدءاً من بطولة أمم أوروبا 2008. احتفى العالم بانتصار الإسبان، فقد كان علامة شاهدة على انتصار الكرة الجميلة، بعد أن هيمن التعويل على القوة التكتيكية لعقود، فوصل الألمان والهولنديون والفرنسيون والطليان إلى منصات التتويج، وبقي الإسبان مجرّد متفرّجين طوال عقود. تعلّق الأمر أيضاً باحتفاء بالنزعة الجماعية، فلم يكن في منتخب لاروخا آنذاك لاعب يحتكر الأضواء، وتداول لاعبون كثيرون على دور البطل المخلّص: سجّل إنييستا هدف الفوز بكأس العالم 2010 في شباك هولندا، وما كان ليكون ذلك الهدف حاسماً لولا أن الحارس كاسياس أنقذ مرماه من أهداف محققة، وقبلهما أوصل بويول المنتخب الأحمر إلى النهائي، وقبل عامين سجّل توريس هدف الفوز بكأس أمم أوروبا أمام ألمانيا.
قد يكون تفرُّق دم الإنجازات بين لاعبي المنتخب سبباً في عدم نيل أيٍّ منهم الكرةَ الذهبية رغم السيطرة التي فرضوها على المسابقات الدولية لأكثر من ستّ سنوات. خلال تلك الفترة، أحرز لاعبان فقط، الأرجنتيني ليونيل ميسي والبرتغالي كريستيانو رونالدو، جميع الكرات الذهبية. ومن الوجيه الإشارة إلى أن كليهما كان يلعب في الدوري الإسباني.
العودة إلى المربعات ذاتها
بدت سنوات التتويجات الإسبانية مثل "حلم في الكرى أو خلسة المختلس"، فسرعان ما عاد المنتخب الأحمر إلى مواقعه القديمة وعاودته نفس الكوابيس. ورغم أنه حافظ على ذات فلسفة اللعب واعتماده لسنوات أخرى على نفس الأسماء، إلا أنه انقاد إلى خيبات قاسية في البطولات الدولية اللاحقة، أشهرها في مباراة ثأرية هيّأتها، ويا لمكر التاريخ، قرعة كأس العالم 2014 حين وضعت هولندا في مواجهة الإسبان في أولى مبارياتهم بالبطولة، وانقادوا إلى هزيمة مُذلة بخمسة أهداف ثمّ انسحبوا من الدور الأوّل. وبعدها عاد الإسبان إلى ذات الدائرة القديمة في البطولات الدولية الكبرى بأن يقفوا في منتصف الطريق دون التتويجات.
في الأثناء، كانت البلاد قد شهدت شروخاً جديدة، أبرزها استفتاء استقلال كتالونيا في 2017 الذي انتصرت فيه النزعة الانفصالية بشكل واضح قبل أن تتدخّل المحكمة الدستورية الإسبانية وتعلن عدم شرعية الاستفتاء أصلاً. استعارت الصحافة السياسية معجم كرة القدم فسمّت تلك اللحظة "استفتاء 1-0"، حيث صُوّر تصويت الكتالونيين بوصفه هدفاً سجّله فريق برشلونة على ريال مدريد قبل أن يُلغي الحكم الهدف. لكن ماذا يقول تاريخ المنتخب في مسألة كتالونيا؟ إنه لا يقدّم غير مفارقات تضربها الرياضة لإضاءة التاريخ السياسي.
لقد كان الهدف الأثمن في تاريخ الكرة الإسبانية من أقدام "الكتالوني" أندريس إنييستا، ذلك الهدف الذي أطلق أفراحاً واسعة في إسبانيا ووحّد شعبها بشكل غير مسبوق (2010). وإمعاناً في المفارقة، سنجد أن برشلونة هو النادي الأكثر تغذية للمنتخب الإسباني، فمثلاً في قائمة اليورو 2024 التي تقام حالياً على أراضي ألمانيا، نجد خمسة لاعبين من برشلونة مقابل ثلاثة من ريال مدريد في سنة هيمن عليها فريق العاصمة على البطولات المحلية والقارية. وفي كأس العالم الأخيرة (قطر 2022) حضر ثمانية لاعبين من برشلونة مقابل لاعبين اثنين فقط من ريال مدريد (كانت أيضاً سنة هيمن فيها الفريق محلياً وقارياً).
هكذا، يبدو فريق برشلونة الذي طالما رفعت جماهيره شعارات الانفصال عن الدولة الأم، أكثر خدمة للمنتخب الإسباني من ريال مدريد الذي يفترض أن يكون الأقرب لتمثيل المشروع الوطني الجامع، إلا أن مصالح النادي أتت دائماً قبل المنتخب، فلطالما بجّل اللاعب الأجنبي الجاهز للمساهمة في التتويجات على حساب تطوّر اللاعب الإسباني المتدرّج من فئات الشباب. وقبيل كأس العالم في روسيا (2018)، حدث أن سعى فريق العاصمة لنيل توقيع مدربّ المنتخب الإسباني لوبيتيغي الذي أقيل عن منصبه قبل أيام من أول مباراة في البطولة، ما أدخل المنتخب في دوامة أفاق منها بخروج مبكر من ثمن النهائي.
لم تكن تلك الحادثة سوى تعبير عن كون أهداف الأندية تأتي في كثير من الأحيان فوق مصلحة المنتخب الإسباني. ولكن لولا ثقافة الانتصارات التي وفرها قطبا الكرة الإسبانية ما كانت لاروخا ستجد لاعبين كالذين أتيحوا لها على مر العقود. وما ذلك إلا بعض من تناقضات مجتمع يقف على مفترق تقريباً في كل شيء، تفاوت تنموي (ومناخي) بين الجهات، تجاذب سياسي حاد بين يمين ويسار، بين مركزية وانفصالية، نزعة تحديث مبالغة أحياناً ومغالاة في العودة للتقاليد أحيانا أخرى. حتى مصارعة الثيران باتت موضع سجال حاد منذ سنوات. ليست الكرة بعد ذلك إلا تكثيفاً لمجمل التنافرات التي تسكن إسبانيا، وعلى تلك الأرضية طالما وقف منتخبها الذي يخفي مرة شروخ المجتمع وكأنما عالجها جذرياً بحبّة سحرية، وأحياناً يزيد في إبرازها ويجعلها مرئية للعالم.