استمع إلى الملخص
- على الرغم من المشاركة المبكرة في كأس العالم وبعض النجاحات الأولية، فإن العزوف عن الاستثمار الكبير في كرة القدم أبقى المنتخب الأميركي بعيداً عن المنافسة الدولية لعقود.
- استضافة كأس العالم 1994 والمشاركة في تنظيم نسخة 2026 تعكس محاولات لتعزيز القوة الناعمة الأميركية، لكن النجاحات المحدودة تظهر أن بناء منتخب قوي يتطلب بيئة متكاملة وتراكم خبرات.
مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب الولايات المتحدة الأميركية.
يعتقد الأميركيون بتفوّق بلادهم في مختلف مجالات التنافس العالمية الكبرى، من الرياضة والثقافة إلى الديبلوماسية والحرب. ولقد تهيّأت للولايات المتحدة الظروفُ والسياقات لتصبح القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى عالمياً منذ 1945، فحوّلت هذا الاعتقاد بالتفوّق واقعاً إلى حد بعيد، غير أن الرياضة الأكثر شعبية في العالم تقول غير ذلك.
لا يشير تاريخ كرة القدم إلى إشعاع حققته الولايات المتحدة. ولعلّ الشكل الأبرز للحضور الأميركي في تاريخ كرة القدم هو تنظيم المسابقات الدولية الكبرى، وأبرزها كأس العالم 1994، كما ستحتضن مع كندا والمكسيك النسخة المقبلة من المسابقة (2026)، وتستضيف هذه الأيام بطولة كوبا أميركا. في ما عدا ذلك، تبدو كرة القدم وكأنها لفظت الأميركيين من تاريخها.
ولعلّ الأمر ترجمة لرغبة دفينة لدى أمم الأرض؛ بحيث بقيت كرة القدم متنفساً بعيداً عن سياسات الهيمنة الأميركية التي وضعت العالم على مسار خطير من الكوارث والحروب. هكذا نظر العالم بعين الرضا إلى صعود البرازيل مثلاً على عرش الكرة العالمية من 1958 إلى 1970. ونظر برضا أكبر حين تداولت أمم كثيرة التتويج بكأس العالم بعد ذلك: ألمانيا والأرجنتين وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
يقتضي هذا الواقع نوعاً من التسليم بتراتبية عالمية جعلت الولايات المتحدة بعيداً وراء أمم أخرى. وكأن كرة القدم قد استبقت ما يخشاه اليوم الأميركيون من تزعزع مكانتهم في العالم، وظهور مجتمع دولي متعدد الأقطاب. لكن، وعلى الوجه الآخر، ماذا لو كانت كرة القدم مجالاً آخر أثبتت من خلاله القوة الأولى عالمياً تفوّقها؟ من حسن الحظ إذناً أن أميركا بقيت، على غير عادتها، مجرّد لاعب ثانوي على الساحة الدولية. بعبارة أخرى، هناك حكمة خفية للتاريخ في أن تظل الولايات المتحدة بلداً متخلّفاً كروياً.
التأخر الكروي الأميركي بوصفه سياسة
تحولت كرة القدم إلى متعة جماهيرية لدى شعوب كثيرة، لكنها لم تسحر الأميركيين، ولم تدخل إلى دائرة الاستثمار - لا الاقتصادي ولا السياسي - إلا بشكل حذر. هناك تفسيرات كثيرة لهذا العزوف، أبسطها أن للولايات المتحدة كرة قدم خاصة بها، فلماذا تلتفت إلى كرة القدم التي يلعبها العالم؟ ما الذي يجعل المواطن الأميركي يقبل على استهلاك هذا المنتج الوافد، وقد تجمّعت في طبقه أصناف أخرى أكثر إثارة. فمن منظور أميركي، تبدو كرة القدم - كما يعرفها العالم - مُغرقة في الرتابة، ولا توجد صفقة معقولة حين يقطع متفرج تذكرته من أجل مباراة من ساعة ونصف ليشاهد هدفاً أو هدفين، بل يمكن أن تنتهي المواجهة من دون أهداف، وعلى الأرجح لن يرى صدامات وشجاراً بين اللاعبين ولوحات راقصة بين الأشواط. إذاً، تتضارب كرة القدم مع نمط الفرجة المطلوب أميركياً، ومع مبادئ مجتمع الوفرة.
لكن مسار المنتخب الأميركي لا يشير إلى تأخّر تاريخي في استنبات كرة القدم في البلاد. على العكس، فقد شارك المنتخب الأميركي في أول نسخة من كأس العالم 1930 في أوروغواي، وقد عبر الدور الأول بفوزين على بلجيكا وباراغواي بنتيجة 3-0، ليبلغ نصف النهائي وينسحب أمام الأرجنتين. وفيما يمكن اعتبار تلك النتيجة مفتتحاً تاريخاً كروياً زاهراً، ظلت إلى اليوم أفضل ما حققه المنتخب الأميركي في كأس العالم.
شاركت الولايات المتحدة أيضاً في النسخة الثانية من كأس العالم في إيطاليا 1934، ثم في نسخة 1950 في البرازيل التي أتت بعد توقف المسابقات الدولية طوال الحرب العالمية الثانية. ومن أبرز ما علق في الأذهان من المشاركات الأميركية ذلك الانتصار على المنتخب الإنكليزي في دورة 1950 الذي وُصف بالمعجزة، ومرة أخرى كان من المنتظر أن يمثّل ذلك الإنجاز قاعدة لانطلاقة شبيهة بما عرفته أمم أخرى، غير أن الأميركان غابوا تماماً عن المشاركة في بطولات كأس العالم أربعين عاماً.
هكذا، لم يكن الأميركان في البداية متأخرين كروياً كما يبدو ظاهراً. يتعلق الأمر أكثر بعدم الذهاب بعيداً في رهان قد يكون خاسراً. فحين تهيكلت الكرة العالمية في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة بلداً مسكوناً بشكوكه في الخروج من أزمة 1929، وكانت أولويته استعادة مقومات القوة الاقتصادية، فوُجّهت الطاقات الشبابية نحو تشغيل المشاريع الكبرى التي أطلقتها الحكومة ضمن سياسات "نيو ديل".
ظلت الولايات المتحدة راضية بموقعها بلداً في الصف الثاني كروياً، غير أن مخرجات الحرب العالمية الثانية جعلت منها قوة عظمى، فتغيّرت الحسابات، وبات ينبغي على كل شيء أن ينطق باسم العظمة الأميركية. فلما وجدوا أنهم يفتقرون إلى منتخب تنافسي يعبّر عن موقعهم الجديد في العالم ولّوا وجوههم عن كرة القدم. لقد فشلوا في الهيمنة فانقلبوا على وجوههم كارهين اللعبة.
كان يمكن أن تكون كرة القدم، أيضاً، من بين فضاءات التنازع مع المعسكر السوفييتي، سواء في بلدان تحوّلت إلى جبهات، من كوريا إلى أفغانستان، أو حتى في رياضات أخرى، مثل ألعاب القوى وكرة السلة والشطرنج. لاحظ الأميركان في الخمسينيات أن هناك تفوقاً طفيفاً لصالح الروس في كرة القدم، وبمنطق الربح والخسارة، فضّلوا عدم الدخول في تنافس يمكن أن يؤدّي إلى ما يمكن تأويله بوصفه هزيمة.
وإلى ذلك، كانت حسابات التكلفة الأمنية تدفع أيضاً نحو تقليص حضور المنتخب الأميركي في الرياضة الأكثر شعبية بالذات. فأي خطة أمنية لحماية عناصر المنتخب الأميركي تنفع في ملاعب تغصّ بالآلاف، وأي فائدة من منتخب قد يخسر أمام خصوم السياسة، وهل يقبل هؤلاء بفوزه؟ ناهيك عن كون مشاحنات الكرة قد تكون سبباً في تصعيد مشاعر الكره ضد الأميركان، خصوصاً إذا التقت مواعيد المباريات مع أحداث مثل حرب فيتنام أو دعم مفضوح لإسرائيل. لم تكن بالتالي الساحة الدولية مهيأة في العقود الأربعة من الغياب الكروي الأميركي، وبالتالي ليس صدفة أن تظهر الولايات المتحدة في كأس العالم مجدداً إلا عام 1990 أي مباشرة بعد سقوط جدار برلين.
تركيبة المنتخب ضد تركيبة المجتمع
كان المنتخب الأميركي، على مستوى آخر، سيكون شاشة عملاقة تظهر فيها شروخ تحب الحكومات أن تسترها. إذا نظرنا إلى أعضاء الفريق الأميركي بين 1930 و1950، فسنجد كل اللاعبين من البيض. في عشرين عاماً، كان الفارق الوحيد، على المستوى العرقي، دخول بعض اللاعبين من الأصول الإيطالية إلى التشكيلة إلى جانب العنصر الأنكلوسكسوني. يشير ذلك إلى أن المنتخب الأميركي يقول شيئاً عن تاريخ العنصرية في البلاد.
اعتُبر اللاعب الأسود غير مؤهل لتمثيل الولايات المتحدة. تماما كما كان لا يظهر الممثل الأسود في أدوار أساسية في أفلام هوليوود التي تُصدّر إلى العالم. لا يظهر إلا خادماً أو منحرفاً. في هوليوود، يمكن تزييف كل شيء، أما على أرض الواقع، ولا تُلعب كرة القدم إلا على أرض الواقع، فليس من السهل إنشاء تراتبية أو فرضُ صور نمطية عبر فريق كرة قدم. كان إغلاق ملف كرة القدم وقتها أسلم من الدخول في سجالات حول الجدارة الرياضية في تمثيل أميركا.
يعرف الأميركيون كذلك كيف تحوّلت الكرة إلى فضاء تعبير واحتجاج في جغرافيات أخرى. يكفي أن ينظروا إلى بلدان يحاولون هندستها وفق مصالحهم، خصوصاً في أميركا الجنوبية، كي يعرفوا أن اللعبة خطيرة. أيّ خلطة بارود كانت ستنتج لو التقت مثلاً مع حركة الحقوق المدنية؟ كان وضع تشكيلةً من دون سود سيعني رفع نسبة المظلومية لدى شريحة واسعة من المجتمع، وكان حضورهم سيكون أخطر لأن ذلك يستفز شريحة أخرى من البيض المتعصّبين ضد السود.
أوهمت الولايات المتحدة نفسها أنها طوت صفحة التمييز العنصري بنهاية الستينيات، لكن الوقائع تنفي ذلك، فقد عادت مسألة الحقوق المدنية إلى الواجهة في 2020 مع قضية جورج فلويد. في الأثناء، ظهر السود بشكل واسع في رياضات أخرى، كانت البداية منتصف الثلاثينيات ضمن رهان مشاكسة ألمانيا النازية في الألعاب الأولمبية التي انتظمت في برلين عام 1936، واختير اللاعب الأسمر جيسي أوينز لتمثيل الولايات المتحدة في ألعاب القوى، وقد فاز بأربع ميداليات ذهبية. ولاحقاً، رفع محمد علي راية أميركا في الملاكمة، وكارل لويس في ألعاب القوى، ناهيك عن أسماء كثيرة في كرة السلة.
لم تطبّق الولايات المتحدة السياسات نفسها على كرة القدم، ببساطة لأن الأخيرة وحدها قد تحوّلت إلى ظاهرة ما فوق-رياضية، وأصبحت ذات هيكلة عابرة للقارات. كما تحولت إلى هوية ثانية وتعويض للفئات المهمشة تستشعر داخلها قدراتها على الندية والعصيان.
لا يمكن لهوليوود أو سيليكون فاليه أن تعيد اختراع كرة القدم
لا يمضي تاريخ الولايات المتحدة على وتيرة واحدة. فضمن التوجهات الثابتة، كثيراً ما تصطبغ الخيارات برؤى رؤساء باتوا بعد 1945 أشبه بأباطرة تكفي إشارة منهم حتى تتحقق أمنياتهم. كان الديمقراطيون أكثر حفاوة بكرة القدم، وكانوا أول من فتح الباب لإنشاء دوري محترم نهاية الستينيات بعد أن شاهدوا العائدات التي حققتها دورة كأس العالم في إنكلترا عام 1966، خصوصاً مع ما فتحه التلفزيون من فرص تسويق جديدة.
حين ارتسمت فرص تحقيق أرباح لا يمكن للأميركيين أن يظلوا متفرجين. خصوصاً أنهم يملكون أدوات أكثر فاعلية في مخاطبة الجمهور، من صحافة وتلفزيونات وصناعة سينمائية. ليس صدفة أن تاريخ تبلور كرة القدم بشكلها الحديث يوازيه تاريخ نشوء السينما، فكلاهما انبثق من المحطة نفسها من تاريخ الرأسمالية الأوروبية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. التقط المقاولون الأميركيون السينما وحوّلوها إلى صناعة، فيما تركوا كرة القدم في الهامش.
مع العودة الأميركية إلى المشاركات الدولية إثر نهاية الحرب الباردة، كانت صناعة الصورة في أميركا قد تعملقت وسرى اعتقاد أنها قادرة على محو التأخر الأميركي في كرة القدم. في السينما، يكفي أن يتخيّل مؤلف أن الأميركي خارق القوى البدنية والذهنية، وأنه الأكثر أخلاقية والأعمق فكراً. يكفي أن يتخيّل مشهداً حتى يأتي المخرجون فيجسدوه بأعلى أداء تمثيلي وبأقوى تنفيذ تقني. وبذلك، يمكن غرس أي فكرة في الذهنيات. ربما كانت صناعة أبطال على الشاكلة الهوليوودية سبباً من أسباب انحطاط الكرة الأميركية، فالأبطال الخارقون الذين ما فتئت تطلقهم الصناعة السينمائية لم يتركوا مساحة واسعة لأبطال حقيقيين.
"أبطال خارقون" آخرون أنتجتهم أميركا في غير إطار الثقافة الجماهيرية؛ تجسدوا في شركات عملاقة عابرة للقارات من قبيل مايكروسوف وآبل، كانت هي الأخرى سبباً في اعتقاد الأميركيين أنه يمكن سد أي فجوة للتأخر من خلال التفوّق التكنولوجي. وسيصطدمون هنا أيضاً بواقع مختلف، حين يجدون أن كرة القدم لعبةٌ غير قابلة للاختراق التكنولوجي إلا بشكل محدود: يوجد 11 رجلا يتواجهون من الجانبين، لا يحملون سوى الأزياء التي يرتدونها، وهي ليست سترات كالتي يرتديها باتمان أو سوبرمان، ولا يستطيعون أن يحملوا نظارات أو ساعات ذكية كالتي تظهر في أفلام توم كروز. أن يعود التنافس إلى المستوى البشري البحت لهو وضعية غيرُ مريحة للأميركان. وكما أن هوليوود عاجزة عن تغيير شيء في مسار مباراة كرة قدم، فإن سيليكون فالي منذ بزوغ نجمها في الثمانينيات لم تفعل الكثير لكرة القدم في أميركا. فكيف يقبلون دخول منافسة مجرّدين من جميع أسلحتهم.
حرب النجوم التي أعادت الولايات المتحدة إلى كوكبنا
لم يكن غياب المنتخب الأميركي عن كرة القدم العالمية يعني غياباً أميركيا تاماً عن تاريخ اللعبة. فإذا كانت الراية الأميركية غائبة بين المشاركين في كأس العالم، فقد أخدت شركة كوكاكولا الأميركية موقعاً متقدماً في كواليس كرة القدم، منذ أصبحت الراعي الأبرز لكأس العالم منذ دورة 1974، وكانت المكاسب الاقتصادية التي حققتها شركة المشروبات الغازية إشارة تنبيه أخرى لفتت المسؤولين الأميركيين إلى كرة القدم مجدداً.
ظل مشروع الدوري الأميركي لكرة القدم (العالمية) بعد سنوات من إطلاقه في الظل حتى منتصف السبعينيات، حين بدأت الفرق الأميركية في استقدام النجوم، وأبرزهم أسطورة البرازيل بيليه الذي لعب لنيويورك كوسوس بدءاً من عام 1975، وسيجتمع في فريق واحد مع أسطورة ألمانيا بيكنباور، وهو ما يمكن اعتباره ضرباً من التخييل بمعطيات كرة القدم في بقية العالم. بعد ذلك، أتى إلى أميركا الهولندي كرويف والبرتغالي أوزيبيو والإنكليزي بوبي مور.
استقطب هؤلاء النجوم الأضواء إلى حين، وسط احتفاء صادق زمن الرئيس كارتر، لكنه عبور من البيت الأبيض بولاية وحيدة سرعان ما هزّ الحماسة المصطنعة بكرة القدم. وحين عادت الرئاسة إلى الجمهوريين مع الرئيس ريغان، سرعان ما اندثر مشروع الدوري الأميركي (عام 1985) منذ أن انفض عنه المستثمرون، ولا يحدث مثل ذلك إلا في الولايات المتحدة.
كان واضحاً أنه من المستحيل استنساخ نظام النجومية الأميركي بشكل كامل في كرة القدم، إذ لم يتأقلم أبطال اللعبة الحقيقيون مع منطق الاستعراض الذي يحكم الرياضة الأميركية ويجعل منها تسلية مُسطّحة. وفي المقابل، كان أن استقطابهم عملية تسويقية تبيّن سريعاً أنها بلا أرباح، فقد فهم الأميركان متأخرين أن جلب النجوم إلى بلادهم لا يعني التفات جمهور الكرة في العالم إليهم، فحين أتى جيل مارادونا وبلاتيني وفان باستن في أوروبا، كان الناس قد نسوا بيليه وبيكنباور وكرويف. هكذا أسدل الستار على كرة القدم مرة أخرى وظلت هواية في الهامش.
تجهيز منتخب يختلف عن إعداد أكلة سريعة
ما أعاد أميركا مجدداً إلى الكرة العالمية لم تكن أقدام لاعبيها، وإنما تنظيم كأس العالم 1994، وكان ذلك أقرب لصفقة بين فيفا ووزير الخارجية السابق هنري كيسنجر. فلما استتب الأمر للأميركيين في السياسة الدولية، بدأ التفكير جدياً في استكمال عناصر القوة الناعمة. ليس أفضل من احتضان أبرز مسابقة رياضية للاحتفال بـ"نهاية التاريخ" بعد الانتصار على المعسكر الشرقي. وجاءت كأس العالم تلك خلال ولاية رئيس ديمقراطي آخر، بيل كلينتون، وكان في أوج إشعاعه، وقد أتاح لهذه الدورة كل شروط النجاح بتوظيف قدرات الإعلام وصناعة الترفيه لإنجاح المونديال الأميركي.
المشكلة الوحيدة في هذا "الزواج السعيد" بين الولايات المتحدة وكرة القدم أنه لم يكن هناك منتخب أميركي! جرت فبركة منتخب في أعوام قليلة بلاعبين معظهم لا ينشطون في دوريات، كما أُنشأ دوري أميركي جديد بدءاً من 1993. كانت النتيجة الرياضية مقبولة بعبور الدور الأول، من مجموعة تبدو معقّدة على الورق (مع كولومبيا ورومانيا وسويسرا)، لكنها نتيجة لا ترضي بالتأكيد غرور الأميركان.
ما كسبته كرة القدم في أميركا وقتها هو تلك الوعود بالبدء في تشكيل فريق يراهن على كأس العالم قريباً. هل يمكن حقاً فعل ذلك، وتصبح مقولة "البطل الأميركي الخارق" قابلة للتحقق؟ سيصطدم الأميركيون بعد أربع سنوات بخيبة الخروج من الدور الأول، وإلى ذلك هزيمة ضد المنتخب الإيراني.
بدا واضحاً أن البطل الخارق لا يصلح لكرة القدم. ظل اللاعب الأميركي تحت المتوسط، وبدت الفكرة البراغماتية بتجهيز منتخب لغاية تقديم نتائج طيبة في المسابقات الكبرى غير مجدية. ما هكذا تبنى المنتخبات؛ إنها تحتاج إلى بيئة متكاملة، وإلى تراكمٍ، واستفادة حقيقية من تجارب الأمم المتقدمة في هذا المضمار.
منذ 1990، لم تغب الولايات المتحدة الأميركية عن دورات كأس العالم. ليس في ذلك إنجاز ما، فهي تستفيد أساساً من ضعف منافسيها من دول الجوار، من كندا شمالاً إلى بنما في منتصف القارة. قليلون هم اللاعبون الذين نجحوا في تقديم مسيرة محترمة فحضروا في عدة دورات دولية، أبرزهم لوندون دونوفان وبراد فريدل، وقلة آخرون تمكنوا من أخذ أماكن في فرق الدوريات الأوروبية الكبرى، وقادوا المنتخب الأميركي إلى بلوغ ربع نهائي كأس العالم 2002، في نسخة من المنتخب الأميركي تعد الأكثر تعبيراً عن كل أطياف المجتمع.
وبعد ذلك، تواصل الأداء الجيد بذلك الفريق لسنوات حتى بلغ نهائي كأس القارات عام 2009 وقد تطعّم بمواهب جديدة مثل ديمبسي وألتيدور. في تلك المباراة، هُزمت الولايات المتحدة أمام البرازيل بعد التقدم بهدفين في الشوط الأول، وبعد إقصاء المنتخب الإسباني بطل أوروبا في نصف النهائي وأخذ ورقة الترشح من إيطاليا بطلة العالم في الدور الأول. تحقق كل ذلك وظل الأميركان عاجزين عن الوصول إلى القمة، وبالتالي، لم يبق للعقل الربحي إلا أن يفكر في التراجع مجدداً.
وكأن تاريخ كرة القدم ظلّ يلفظهم في كرة مرة. لم تتصالح بعدُ الولايات المتحدة مع اللعبة التي يفضّلها العالم. يرتطمون كل مرة بعدم مطابقة الواقع تصوراتهم، ورغم ذلك، يحاولون فرضها إلى حين. هكذا يفعلون في ميادين أخرى، تُسعفهم أوراق الضغط السياسي والعسكري، فيفرضون ما يشاؤون. ومن ذلك ما يفعلونه في "الشرق الأوسط" الذي يودّون إعادة اختراعه مع كل رئيس جديد، ولو كان ذلك بدعم المجرمين والطغاة...