من تاريخ المنتخبات (16) الدنمارك: الرفاهية الاجتماعية أم الإنجازات الكروية؟ هذا هو السؤال

29 يونيو 2024
تبادل تحية بين الجمهور والمنتخب الدنماركيين بعد مباراة في كأس العالم، موسكو - يونيو 2018
+ الخط -
اظهر الملخص
- منتخب الدنمارك لكرة القدم يعكس هوية البلاد وتاريخه، مع لاعبين بارزين مثل الأخوين لاودروب وبيتر شمايكل الذين أضافوا شهرة للدنمارك بجانب شخصيات ثقافية مثل هاملت وهانس كريستيان أندرسن.
- فوز الدنمارك ببطولة أوروبا في عام 1992 يُعد إنجازًا تاريخيًا غير متوقع، حيث شارك الفريق بديلاً عن يوغسلافيا وأظهر كيف يمكن للحظ والجدارة أن يصنعا التاريخ.
- الدنمارك تُفضل الاستثمار في الرفاهية الاجتماعية وجودة الحياة على مطاردة الإنجازات الكروية، معكسةً فلسفة حياة تُقدّر السعادة والرفاهية على النجاحات الرياضية.

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب الدنمارك.


بفضل مسرحية وضعها الكاتب الإنكليزي وليم شكسبير بداية القرن السابع عشر، بات هاملت أشهر شخصية من الدنمارك في المخيال العالمي. ولم يرشّح هذا البلد الاسكندنافي شخصيات أخرى بارزة من السياسة والعلوم والفنون، يُستثنى من ذلك أسماء قليلة لها حضور وتأثير في الأدب والفكر مثل كاتب قصص الأطفال، هانس كريستيان أندرسن، والفيلسوف سورن كيركغورد. ومع هؤلاء يُمكن أن نضيف بعض لاعبي كرة القدم الدنماركيين مثل الأخوين لاودروب والحارس بيتر شمايكل. كان لهؤلاء نصيب من الشهرة، لكنها شهرة محدودة لا تكاد تبلغ مستوى النجومية. ولا أحد منهم استطاع حتى أن يتجاوز شهرة هاملت، وما هو إلا شخصية أدبية.

في مسرحية شكسبير، ترتسم الدنمارك بألوان تراجيدية قاتمة؛ بلاطٌ فاسد تسكنه شخصيات حاقدة ومتآمرة. أما أمير الدنمارك، هاملت، فهو غارق في هواجسه، متردّد يجد صعوبة في حسم قراراته. لا تشبه هذه القتامة صورة الدنمارك المعروفة اليوم، البلد الذي يأتي دائماً في أعلى مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، بما يعنيه ذلك من جودة خدمات الصحة والأمن والنقل والتعليم والعدالة، ناهيك عن ارتفاع الدخل الفردي. فأي من هاتين الصورتين المتناقضتين ينقلها منتخب الدنمارك عن بلاده؟

يدور تاريخ كرة القدم في البلد الاسكندنافي حول نقطة بارزة وسط مسار عادي. إنها ومضة تحقيق منتخب الدنمارك المغمور لأحد الألقاب الكروية الكبرى؛ بطولة أوروبا 1992. وراء ذلك التتويج حكاية عجيبة، لم يضعها شكسبير، لكنها تحمل حبكة مثيرة تُفضي إلى نهاية سعيدة. حكاية عن الحظ، وعن الجدارة الرياضية، وعن الجيوبولتيكا أيضاً.

لم تترشح الدنمارك إلى نسخة يورو 1992 في السويد، فقد جاءت ثانية خلف المنتخب اليوغسلافي. غير أنه وقبل فترة قصيرة من بداية البطولة لم يعد هناك منتخب يوغسلافي، فقد تفككت هذه الدولة البلقانية، وتبعثر اللاعبون بين منتخبات جديدة، ناهيك عن اندلاع حرب دموية فوق جزء من أراضيها. تقضي لوائح اتحاد كرة القدم الأوروبي منح ورقة التأهل لصاحب الترتيب الثاني بمجموعة التصفيات نفسها، فاستدعيت الدنمارك بديلاً ليوغسلافيا، وجرى تجميع لاعبيها من مصايفهم، ومن بينهم اللاعب البارز وقتها مايكل لاودروب الذي قرّر عدم المشاركة في البطولات الكبرى التي لا يُصاحبها تحضير جيّد تنتهي بفضائح. غير أن المنتخب الذي شارك بدون تحضيرات وبدون نجمه الأبرز حقّق لقب البطولة في النهاية.

لم يكن الطريق مفروشاً بالورود، كما يبدو، فقد ورثت الدنمارك عن يوغسلافيا حين أخذت مكانها مجموعة صعبة تضم البلد المنظم، وإنكلترا وفرنسا. تعادل الدنماركيون مع إنكلترا دون أهداف ثم خسروا أمام السويد، وبعد ذلك حققوا أولى مفاجآتهم بالفوز على فرنسا 2-1، وكان ذلك كافياً لاعتبار أن مشاركة الفريق المحظوظ مُشرّفة خاصة أنها ثالث مرة لا غير تصل فيها الدنمارك إلى نهائيات البطولة الأوروبية، ولم يسبق لها المشاركة في كأس العالم إلا في مناسبة يتيمة. 

ترشحت الدنمارك إلى نصف النهائي، وجاءت ساعة الحقيقة التي لا ينفع معها الحظ بمواجهة هولندا صاحبة التتويج الأوروبي الأخير، وبقيادة أفضل لاعب في العالم وقتها ماركو فان باستن. انتهت المواجهة بالتعادل 2-2 أمام ذهول المتابعين، وخلال ركلات الترجيح أهدر فان باستن ضربة جزاء أعطت بطاقة التأهل للدنماركيين الذين دخلوا هم أنفسهم في حالة من عدم التصديق. وفي النهائي سيواجهون منتخب ألمانيا، بطل العالم وقتها، ومرة أخرى سيحققون المفاجأة وينتصرون 2-0 ومن ثمّ أصبحوا أبطال أوروبا. وإذا كان الحظ قد فرش النصف الأول من الطريق للدنماركيين، فإن مسار مبارياتهم المعقد جعل منهم متوّجين عن جدارة.

في ذلك العام الذي اقتنص فيه كأس أوروبا، كان هذا البلد الصغير (خمسة ملاين نسمة) يعيش على وقع رهان خاص، حول أوروبا تحديداً. فحين كان يخوض مواجهاته أمام الأمم الأوربية كانت البلاد تعيش ما يُعرف بـ"حراك حزيران"، وهو من اللحظات القليلة التي تعيش فيها الدنمارك على وقع تجاذب سياسي حاد بين قائل بضرورة الاندماج أكثر في الجسم الأوروبي وبين مناهض لذلك. كانت الدنمارك قد أصبحت عضواً في الاتحاد الأوروبي منذ 1973، لكن مشاريع تطوير الاتحاد قد بدأت تتدخّل أكثر في القرار الداخلي، وتمسّ الحياة اليومية للمواطنين الدنماركيين وكان عليهم أن يقرروا.

ربما خفّفت فرحة التتويج بكأس أوروبا من تأثير الخطاب المناهض لبروكسل على الشعب الدنماركي الذي خرج بحل وسط تمثّل في البقاء في الاتحاد دون تغيير العُملة الوطنية. هذا المَخرج يشير إلى ما نجحت فيه الدنمارك دائماً من قدرة على تدوير الزوايا، ضمن ما يعرف بالديمقراطية الاجتماعية، فهذا البلد الذي يعتمد اقتصاد السوق فيه حياة نقابية نشيطة، دون أن يكون ذلك سبباً في تعطيل ماكينة الإنتاج، وهو ما يظهر من خلال ازدهار عدة شركات دنماركية وإشعاعها عالمياً، أبرزها شركة ميرسك لخدمات النقل البحري، وفستاس المتخصصة في توليد الطاقة الكهربائية من الرياح، وغرونفوس لصناعة المضخات، وأمبو للمنتجات الصيدلية. إضافة إلى شركة ليغو الرائدة في ألعاب الأطفال، وكالسبيرغ المختصة في صناعة الكحوليات وهما أشهر الماركات الدنماركية.

إذن، تحت سماء صافية من الرفاهية يعيش الدنماركيون. تقوم سياستهم الخارجية على العمل على حماية هذه المكتسبات، وستجد أن الدنمارك بلد معروف بحياده، لكنه حياد يقع تحت سقف الانتماء إلى تكتلات وأحلاف أبرزها الحلف الأطلسي، وضمنه لا تُذكر للدنمارك مواقفٌ معارضة للسياسات الأميركية التي تقود الناتو. مهما يكن من عواصف تهز العالم، يظل البيت الدنماركي دافئاً ومحاطاً بالهدوء.

يبدو الدنماركيون متصالحين مع موقعهم غير المتقدم في تاريخ كرة القدم

ينعكس ذلك على كرة القدم، فلا تتحوّل المنافسة مع بلدان أخرى إلى حروب كلامية، ولا تُدخل هزائم المنتخب البلاد في سجالات وأزمات، يكفي فقط تغيير الناخب الوطني، وبدء مشروع رياضي جديد. أما المشاكل الاجتماعية والسياسية والإيكولوجية فهي تحل في معظمها بشكل استباقي، من خلال ملاحظة ما يحدث في البلدان المحيطة، خصوصاً جارتيها؛ الجنوبية ألمانيا والشمالية السويد. في مناخ كهذا لا يمكن لكرة القدم أن تتحوّل إلى أولوية اجتماعية يعلق عليها الناس أحلامهم وطموحاتهم، وتجعل منها الدولة ورقة توت تحجب بها تدهور جودة حياة مواطنيها. تحتاج كرة القدم كي "تتضخّم" إلى مناخ ذي منسوب أعلى من التعقيدات، لا يبدو متوفراً في الدنمارك.

مثلاً، بعد الفوز بكأس أوروبا 1992 لم تترشح الدنمارك إلى كأس العالم 1994. ولم يكن ذلك كارثة وطنية أو خيبة أمل شعبية فارقة. وبعد أن رفض مايكل لاودروب المشاركة في نسخة 1992 لم يحمل عليه المسؤولون ضغينة، بل عاد للمنتخب لاحقاً، وشارك في كأس أوروبا 1996، التي انتهت منذ الدور الأول، وللمفارقة أمام المنتخب الكرواتي الوليد الذي انبثق عن تفكك يوغسلافي، وكأنه استعاد من الدنماركيين بعض ما أخذوه في 1992. ثم، حضر لاودروب قائداً في كأس العالم 1998 حيث قدّم الدنماركيون مستوى رفيعاً، خاصة في مواجهتي الأدوار الإقصائية، أمام نيجيريا ثم البرازيل في ربع النهائي. ولا تزال تلك أفضل نتيجة للدنمارك في كأس العالم.

قبلها، لم يحضر المنتخب بكأس العالم إلا عام 1986، وكانت مشاركة ناجحة إلى حد بعيد، بعد ثلاثة انتصارات في الدور الأول أبرزها ضد المنتخب الألماني الذي سيصل لاحقاً إلى المباراة النهائية، فيما ستنسحب الدنمارك في ثمن النهائي بنتيجة قاسية 5-1 ضد إسبانيا. ومهما تكن نتيجة المباراة التي يخوضها المنتخب الدنماركي، يُحيي الجمهور بعد صافرة النهايةِ جهود اللاعبين؛ يتبادلون التصفيق، هذا على أدائه في الملعب، وذاك على أدائه بالمدرجات، ويعود الجميع إلى حياته الهادئة.

بفضل اتساع دائرة المنتخبات المشاركة في كأس العالم وبطولة أمم أوروبا، تزايد حضور الدنمارك في المحافل الكروية الكبرى في القرن الحادي والعشرين، لكن النجاحات نادرة. كذلك لا يبرز اللاعبون الدنماركيون مع أنديتهم فيدخلون دائرة النجومية، يبدو معظمهم أقرب إلى نموذج اللاعب الذي يأخذ قيمته ضمن المجموعة ولا يحوّلها إلى رأسمال فرديّ. إلى اليوم، لا تزال مسيرة مايكل لاودروب الأبرز بين لاعبي الدنمارك، فقد لعب لبرشلونة وريال مدريد في إسبانيا، وحقّق ألقاباً معهما، ويليه الحارس بيتر شمايكل الذي مثّل أحد أبرز علامات حراسة المرمى في تاريخ بلاده وفي الدوري الإنكليزي. في الجيل الحالي، يحضر ابنه كاسبر شمايكل في مرمى المنتخب الدنماركي. ظاهرياً، يبدو الابن بقامة والده، من ناحية البنية الجسدية وتمكّنه من صنعة حراسة المرمى، غير أنه لم يحقق الكثير من الإشعاع طوال مسيرته كحال الجيل الذي ينتمي إليه إذا قارناه بجيل 1992.

يمكن تفسير قناعة الدنماركيين بالقليل الذي يحققونه كروياً بأن لديهم رياضات أخرى تشد اهتمامهم، أبرزها الهوكي وكرة اليد. وبذلك فالدنمارك من البلدان القليلة التي يمكن القول إنها نجحت في جعل كرة القدم تأخذ حجمها الطبيعي، بين الرياضات وبين الاهتمامات الشعبية. تجلى ذلك عند إعادة بناء الملعب الوطني، باركن ستاديوم، في العاصمة كوبنهاغن، فعلى عكس أمم أخرى تزيد في طاقة استيعاب الملاعب جرى في الدنمارك تقليص الأماكن من سعة 42 ألفاً، حين صُمّم الملعب أول مرة بداية التسعينيات إلى 38 ألفاً خلال تجديده في 2014. وذلك لحساب أنشطة أخرى يحتضنها الملعب، كي يكون ذا منفعة اجتماعية أكبر، حيث صار في الوقت نفسه فضاء أعمال، ومُركباً تجارياً، إضافة لإمكانية استعماله لتنظيم العروض الموسيقية.

وهكذا، فيما تتنافس أمم أخرى على كأس العالم والبطولات القارية في كرة القدم، تتنافس الدنمارك مع جاراتها الاسكندنافية خصوصاً على المراتب الأولى في موشرات الرفاهية الاجتماعية وفي تقارير السعادة العالمية. يبدو الدنماركيون متصالحين مع موقعهم غير المتقدم في تاريخ كرة القدم مُكتفين بتحقيق إنجاز 1992، وليس من الضروري مطاردة إنجازات أخرى إذا كان ثمنها إهدار طاقة بشرية ومادية يمكن توجيهها لاستثمارات أخرى.

كأنهم بذلك استوعبوا جيداً عِبرة أشهر قصة وضعها كاتبهم هانس كريسيان أندرسن، حين تمنّت عروس البحر أن تصبح لها رِجْلان كي تستطيع أن تتزوج من الأمير الذي تحبه، وضحّت من أجل ذلك بصوتها، وهو أثمن ما لديها. لكن حين تحققت أمنيتها لم تفز عروس البحر بقلب الأمير، كما أنها لم تستطع العودة إلى شكلها القديم وإلى سعادتها الأولى. تخليداً لهذه الحكاية صنع الدنماركيون تمثالاً لعروس البحر بات أشهر معالم عاصمتهم كوبنهاغن. فبين أن تكون شعباً سعيداً بدون تاريخ كروي، أو أن تتخلى عن جودة الحياة وتعوّضها بإنجازات كُروية من حين إلى آخر؛ يبدو اختيار الدنماركيين واضحاً، لا أثر فيه لتردّد هاملت: الرفاهية الاجتماعية أم الإنجازات الكروية؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن تطرحه شعوبٌ أخرى كثيرة في العالم.

المساهمون