من تاريخ المنتخبات (1)... النسر الألماني يُسلّم بتحوّلات العالم

23 نوفمبر 2022
من احتفالات ألمانيا بكأس العالم 1990 (Getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.

بدلاً من أسماء مثل غيرد مولر وكارل هانز رومينيغه ورودي فولر ويورغن كلينسمان، كان يُعوّل عليها الألمان لتسجيل الأهداف وتحقيق الألقاب لصالح المانشافت في المسابقات الكروية الكبرى، سيتوجّب عليهم أن يعلّقوا آمالهم في كأس العالم 2018 على أسماء مثل سيرج غنابري (ذي الأصول التشادية)، ويوسوفا موكوكو (ذي الأصول الكاميرونية)، وجمال موسيالا (من أصول نيجيرية)، ولوروا ساني (ذي الأصول السنيغالية).

هكذا ارتسمت على خط الهجوم الألماني - كما بقية مواقع الفريق - تحوّلات مجتمع بأسره. تحوّلاتُ بنيته العرقية مع موجات الهجرة لعقود متتالية من شرق أوروبا ومن تركيا والبلدان العربية والأفريقية. وأيضاً تحوّلات العقليات التي تحكمه، فلقد انقلب المجتمع الألماني - بتدرّج بطيء - من الرهان على صفاء العنصر الآري باعتباره ضمانة تفوّق ألمانيا إلى التسليم بأن التنوّع العرقي بات العامل الرئيسي للوصول للهدف نفسه.

إذا بقينا عند خط التاريخ الكروي وحده، لم يكن هذا التغيّر في علاقة ألمانيا بالأعراق المندمجة في مجتمعها ممكناً دون دروس قاسية في دورات كؤوس العالم وأوروبا. فبعد الفوز بكأس العالم 1990 بدا أن الجيل ذاته بقيادة لوتر ماتاوس سيُحكم سيطرته الكروية على التسعينيات، باعتبار أن سهم معظم نجومه في صعود مثل كلينسمان وهاسلر وافنبارغ، لكن التسعينيات - وباستثناء فوز بكأس أوروبا 1996 - أسفرت عن خيبات مؤلمة، أبرزها الهزيمة أمام الدنمارك في نهائي كأس أوروبا 1992، والخروج من ربع النهائي في كأس العالم 1994 أمام بلغاريا، ثم الخروج من الدور نفسه أمام كرواتيا في كأس العالم الموالية مع هزيمة مذلّة 3-0.

في تلك الدورة نفسها (1998)، حقّقت فرنسا اللقب العالمي على أرضها. سجّل الجزائري الأصل زين الدين زيدان هدفين خلال المباراة النهائية، وفي النصف النهائي أنقذ ذي الأصول الكاريبية ليليان تورام فرنسا من الفخ الكرواتي الذي سقط فيه الألمان. كان حضور أبناء الجيل الثاني من المهاجرين بارزاً في المنتخب الفرنسي بشكل أيقظ الألمان على حقيقة العالم الجديد وهو ينتقل بين قرن وآخر. كيف يمكن تفسير خط النزول في نتائج منتخب كان في 1990 بطل العالم في الدورة نفسها التي فشلت فرنسا حتى في الترشح إليها.

أتى التغيّر في علاقة ألمانيا بالأعراق المندمجة في مجتمعها بعد دروس قاسية في كرة القدم

كان من الواضح أن "فرنسا الملونة" قطعت أشواطاً إلى الأمام، وصولاً إلى القمة، بفضل اهتدائها إلى "منجم المواهب" الذي تملكه ألمانيا أيضاً لكنها تكابر في الالتفات إليه. وقبل الهزيمة المدوّية في فرنسا 1998، كانت ألمانيا تعيش "جدل محمد شول"، وهو لاعب من أصول تركية كان أحد نجوم فريق بايرن ميونخ لكن أبواب المنتخب ظلّت موصدة أمامه إلا لأداء أدوار ثانوية، وفي صيف 1998 انقسمت الصحافة الألمانية بين مؤيّد لعدم التعويل على محمد شول ومناهض لذلك، وقد مال المدرّب الألماني وقتها بارتي فوغس إلى الرأي الأول فلم يشارك شول في كأس العالم، قبل أن تفرضه الهزيمة في التشكيلة الرئيسية خلال بضع سنوات لاحقة، ومن ثمّ انفتح الباب لغيره من أبناء المهاجرين حين بدأت الكرة الألمانية في إعادة بناء طويلة أفضت إلى التتويج بكأس العالم 2014.

بدون مساهمة مسعود أوزيل (ذي الأصول الكردية)، وسامي خضيرة (ذي الأصول التونسية)، وجيروم بواتنع (ذي الأصول الغانية)، ما كان ذلك الجيل (مع فيليب لام، وتوني كروس، وباستين شفانشتايغر، وميلوزلاف كلوزه)، ليعود بألمانيا إلى منصّة التتويج، مجتازة في طريقها نحو اللقب الأرجنتين في الدور النهائي، والبرازيل على أرضها، وفرنسا التي تعلّمت منها درس التسليم بالتحوّلات الديمغرافية.

بالجيل نفسه، دخلت ألمانيا كأس العالم في روسيا 2018 ومنيت بخيبة الخروج من الدور الأوّل مع هزائم غير متوقعة أمام المكسيك وكوريا الجنوبية. خيبة أنست شِقاً من الصحافة الألمانية إنجاز 2014 لتجعل من افتقاد "الروح الألمانية"، بما تحيل إليه من مثابرة وقتالية وصمود، أحد أسباب انهيار فريق المدرب جواكيم لوف، وكانت تلك الحملة سبباً في اعتزال دوليّ مبكّر لمسعود أوزيل وقد أشار تلميحاً إلى العنصرية التي لا تزال تحكم سياسات الكرة في ألمانيا.

ومهما يكن من أمر تصريحات أوزيل، فإن التنافسية الرياضية بين الأمم تعمل كأمر واقع يفرض حضور أبناء المهاجرين في المنتخب الألماني، وإلا فقد اختار الانسحاب المبكر من الصفوف الأمامية، ولذلك هو يدخل كأس العالم 2018 بتشكيلة ملوّنة سيفرح كل الألمان بها إذا نجحت في اقتناص اللقب، وقد يجعلون من تعددها العرقي شمّاعة ويبكون على أطلال "الروح الألمانية" مجدداً.

قد يحبّ البعض أن يجد نسخة من ألمانيا التي حققت المعجزة عام 1954 وانتصرت على المنتخب المجري وهو في القمة، وكان ذلك عنوان العودة الألمانية إلى العالم بعد سقوط أوهام الرايخ الثالث، أو أن يشاهدوا فريقا يشبه منتخب 1974 الذي فاز باللقب على أرضه وجسّد المُثل الألمانية في كرة القدم مع الحارس ساب ماير والهداف غيرد مولر وبقيادة فرانز بيكنباور، لكن كيف يمكن إحياء هؤلاء؟ هل لا تزال التربة الألمانية تثمر هذا النوع من اللاعبين؟

تتلخّص المعضلة الألمانية في مثَل النسر (وهو شعار البلاد الكروي والقومي)، الذي عليه أن يختار بين الحفاظ على ريشه الفاخر القديم ويدفع الثمن هزائمَ وخيباتٍ، أو تغييره كي يواصل التحليق ولو لم يُعتبر نسراً يحمل المُثل الألمانية الأصلية.

المساهمون