من تاريخ المنتخبات (14) بلجيكا: حكم الديمغرافيا على "الشياطين الحمر"

25 يونيو 2024
خلال تكريم الملك فيليب للمنتخب إثر كأس العالم 2018، بروكسل - 15 يوليو 2018 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- المنتخب البلجيكي يعكس هوية وتاريخ الأمة، مع تأثيرات من التاريخ الاستعماري والهجرة، مما أدى إلى تنوع ديموغرافي وثقافي ساهم في تطوير الفريق لكن دون تحقيق استمرارية في النجاح.
- آمال كبيرة كانت معقودة على جيل جديد من اللاعبين مثل هازارد ودي بروين، خاصة في كأس العالم 2018، لكن خيبة الأمل جاءت بالخروج من الدور الأول في كأس العالم 2022.
- النجاحات المتقطعة والمواهب الكروية البلجيكية في الدوريات الأوروبية لم تكن كافية لتحقيق مكانة ثابتة بين القوى الكروية العالمية، مما يعكس تحديات تاريخية واجتماعية أكبر تواجه الرياضة والهوية الوطنية في بلجيكا.

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب بلجيكا.


في السنوات الأخيرة، عقد البلجيكيون آمالاً كبيرة على جيل من اللاعبين أبرزهم إدين هازارد، وتيبو كورتوا، وكيفن دي بروين، وروميلو لوكاكو، كي يحققوا أوّل لقب كبير في تاريخهم، وقد بدا أن هذا الإنجاز ممكن في كأس العالم 2018. لكن، فيما ظنوا أنهم باتوا قوة كروية عالمية، خبا نجم "الشياطين الحمر"، كما يلقبون، وغادروا كأس العالم 2022 من الدور الأول، وكأنما تلك النتيجة قد أعادت بلجيكا إلى "حجمها" الذي حكم فصولاً كثيرة من تاريخها.

بحجمها الديمغرافي (11 مليون نسمة) وبمقاييس المساحة الجغرافية، تأتي بلجيكا بعيداً عن جيرانها: ألمانيا وفرنسا، وبريطانيا، إضافة لهولندا التي تتقارب معها على مستوى المساحة لكنها تتجاوزها بشكل لافت سكانياً (17 مليون نسمة). ولقد كان لهذا الوضع تبعاته على بلجيكا؛ فمثلاً حين انبرت الأمم الأوروبية تتقاسم أفريقيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر رفضت القوى الوازنة وقتها، بريطانيا وفرنسا، أن تدخل جارتهما الصغيرة إلى نادي القوى الاستعمارية، وكحلٍّ وسطٍ لإرضاء ملك بلجيكا الطموح، ليبولد الثاني، ابتدع الدبلوماسيون نظاماً على المقاس بجعل الأراضي غير المستعمرة في وسط أفريقيا ملكيّة خاصة لليوبولد الثاني، وليست مستعمرة لدولة بلجيكا، وسيبدأ بعدها واحد من أفظع فصول التاريخ الاستعماري، والذي يتواصل بأشكال أخرى نرى وجهاً من وجوهها في تركيبة المنتخب البلجيكي بتعويله على أسماء كونغولية الأصل في سبيل تطوير الأداء الرياضي.

لكن هذه التغذية لم تكن قادرة على إخراج بلجيكا من أحكام تاريخها، فهي تقدّم أجيالاً لكنها تلمع قليلاً ثم تنطفئ دون تحقيق إنجازات. وخصوصاً دون قدرة على تسليم المشعل سريعاً إلى الجيل الموالي، وهو ما يبرز حالياً مع نهاية مشوار أسماء كبيرة دون أن يأتي من يحلّ محلّهم، ولعل النهاية المأساوية لمسيرة اللاعب إدين هازارد وهو في بداية الثلاثينيات من عمره تشير لمجمل مأساة بلجيكا التي يبدو مجمل تاريخها الكروي محكوماً بمثل هذه اللمعات القصيرة.

بدأت ملامح هذه اللعنة الكروية مبكراً، في فجر تاريخ كرة القدم. أحرزت بلجيكا الميدالية الذهبية لمسابقة كرة القدم للألعاب الأولمبية التي نظمتها في أنفرس عام 1920 في وقت كان الذهب الأولمبي هو التتويج الأعلى في كرة القدم. كان يمكن أن يكون ذلك مقدمة لحضور بلجيكي بارز في الساحة الكروية الدولية حين بدأت دورات كأس العالم عام 1930، لكن بلجيكا التي شاركت في الدورات الثلاثة الأولى من المونديال خرجت في كل مرة من الدور الأول، من ثم غابت تماماً عن المسابقات الكروية الكبرى حتى سبعينيات القرن الماضي.

كانت اللمعة البلجيكية الأولى في سماء اللعبة الأكثر شعبية في العالم هي الوصول لتنظيم كأس أوروبا عام 1972، في وقت كانت اللوائح تقتضي اختيار بلد منظم من بين المنتخبات التي نجحت في تخطّي التصفيات. في مشوارها، عبرت بلجيكا منتخب إيطاليا المرشح للتتويج وصاحب اللقب الأوروبي الأخير، غير أن منتخبها اصطدم على أرضها بفريق ألماني لا يقهر في تلك الفترة، جيل بيكمباور ومولر، وغادرت السباق إلى اللقب من أول مباراة.

لماذا فشلت بلجيكا في لعب الأدوار الأولى بينما نجحت جارتها الهولندية؟

تقابل فترة السبعينيات تلك صعود نجم المدرسة الهولندية. وفي الحقيقة، يصعب أن نتحاشى المقارنات مع الجارة الشمالية، ذلك أن تاريخ كرة القدم قد وضع الكثير من مساحات التداخل بينهما، وقد كانا من قبل يمثلان وحدة سياسية قبل الانفصال عام 1830. كما لا يمكن أن نُغفل التساؤل عن سر نجاح الكرة الهولندية في ما فشلت في تحقيقه بلجيكا؟ ومن منظور تواصل الأجيال تحديداً، ظلت هولندا ثابتة في موقعها بين القوى الكروية الأساسية في العالم منذ صعودها مع جيل كرويف في ما عدا كبوات قصيرة صادف أن بلجيكا قد استغلتها للمعان.

بعد أن بلغ مرتين متتاليتين نهائي كأس العالم (1974 و1978) تراجع المنتخب الهولندي، فإذا ببلجيكا تظهر في كأس أوروبا 1980 في إيطاليا، ورغم أن القرعة أوقعتها في مجموعة صعبة مع البلد المنظم وإنكلترا وإسبانيا، فقد تصدّرت الترتيب، ووصلت إلى المباراة النهائية، قبل أن تصطدم بألمانيا مجدداً بجيلها الجديد تحت قيادة رومينيغه وشوستر. وسيواصل الجيل البلجيكي نفسه نجاحاته إلى حين، مع الحارس بفاف والمدافع غيريتس والمهاجم كولمنس. وفي تصفيات كأس العالم 1982، تمكن "الشياطين الحمر" من إخراج هولندا بالذات، وكأنهم قرروا أن يأخذوا مكانها، ثم فازوا على الأرجنتين بطلة العالم وقتها في لقاء افتتاح المونديال، ونجحوا لأول مرة في تخطي الدور الأول من المونديال، لكن لم تكن لديهم خبرة المضي أبعد من ذلك.

لم تدم نجاحاتُ ما عرف وقتها بالجيل الذهبي لبلجيكا طويلاً، ففي يورو 1984 خرج رفاق بفاف من الدور الأول. لكن تطعيم الفريق باللاعب إنزو شيفو، صانع الألعاب ذو الأصول الإيطالية، قد أمد في عمر هذا الجيل قليلاً، فقدّم نسخة كأس عالم جيدة في المكسيك 1986، بعبور الدور الأول وانتصار على الفريق السوفييتي، ثم إسبانيا، وصولاً إلى نصف النهائي والاصطدام هذه المرة بمارادونا الذي حسم المواجهة بهدفين. ومع نهاية ذلك الجيل، كانت هولندا -ويا للمصادفة- قد عادت بقوة وحققت كأس أوروبا 1988 بقيادة فان باستن وغوليت وكومن، في جيل امتدّ إشعاعه لسنوات كانت بلجيكا تكتفي فيها بمشاركات متتالية دون تميّز. وربما تجدر الإشارة إلى مواجهة بين المنتخبين في الدور الأول من كأس العالم 1994. يومها انتصرت بلجيكا ثم عبر الفريقان للأدوار الإقصائية غير أن هولندا ذهبت أبعد من بلجيكا التي خرجت مرة أخرى على يد الألمان؛ فريق ماتاوس وكلينسمان هذه المرة.

أي أوراق كانت تملكها بلجيكا لتبثّ الروح في منتخبها من جديد؟ فمع العجز عن اللمعان طوال دورات متتالية، كان لا بدّ من خيارات مختلفة، وهنا سيلتقي التاريخ الكروي بالتاريخ الاجتماعي. لم تعد المرجعيات الفلامندية والفرنسية والألمانية وحدها عناصر النسيج الاجتماعي البلجيكي. فعلى مدى عقود غيّرت موجات الهجرة، من الكونغو أساساً، ثم من المغرب، من التركيبة السكانية، ولكن لم ينعكس ذلك على صفحة المنتخب، فقد ظلّ مكتفياً بأسمائه الأوروبية. غير أن تحدياً لاح في نهاية القرن العشرين سيغيّر بعض المعادلات.

مُنح تنظيم كأس أوروبا لسنة 2000 بشكل مشترك إلى... بلجيكا وهولندا. كان ينبغي تقديم مستوى تنافسيّ يليق بالمنتخب المنظم، خصوصاً أنه سيقارن مع الجار الشريك الذي يدخل البطولة بجيل جديد من اللاعبين المتميزين مثل سيدروف ودافيدس وبريكامب وأوفرمارس، وهم خليط من أبناء هولندا الأصليين وأبناء مستعمراتها؛ سورينام تحديداً. على هذا المثال سيبدأ تطوير المنتخب البلجيكي، وتحت تأثير النجاحات الفرنسية في كأس العالم 1998 بإدماج أبناء المهاجرين، ولكن أين ستجد بلجيكا "المناجم" في غير الكونغو؟

كان الأخوان مبو وإيميل مبينزا ورقة "الشياطين الحمر" للحاق بركب الأمم الأوروبية كروياً، غير أن الشعب البلجيكي عاش صدمة بالخروج من الدور الأول مجدداً. سرعان ما اندثر الجيل الجديد، ولم يمح الخيبة بعض النجاح الذي تحقق عبر مشاركة محترمة في كأس العالم 2002 لكنها لم تتجاوز ثمن النهائي، ومن ثمّة عادت بلجيكا إلى الغياب عن جميع الدورات الكبرى من 2002 إلى 2014، في فترة تقابل صحوة هولندية جديدة بجيل سيلعب نهائي كأس العالم 2010.

بعد استيعاب المنتخب البلجيكي أكثر لأبناء المهاجرين، أُدخلت سياسات رياضية جديدة بالتعويل على تكوين الشبّان، وإتاحة الفرص لهم باللعب في أبرز الدوريات الأوروبية في سن مبكّرة. هكذا تبرعمت مواهب الجيل الذهبي الجديد الذي ظهر بدءاً من كأس العالم 2014 وبلغ ذروته في 2018. كانت نتيجة الرؤية الكروية الجديدة أن أتى حين أصبح فيه اللاعب البلجيكي من بين أعمدة الفرق الكبرى؛ فانسون كومباني في مانشستر سيتي، مروان فلايني في مانشستر يونايتد، فرمالن في برشلونة، نانغولان في روما، كاراسكو في أتليتكو مدريد، هازارد وكورتوا في تشيلسي، ثم ريال مدريد، لوكاكو في إنتر، وصولاً إلى دي بورين في مانسشتر سيتي في أيامنا.

سرعان ما انعكس تطوّر اللاعبين البلجيكيين إيجابياً على مستوى المنتخب: خلال كأس العالم 2014 انهزموا بصعوبة في ربع النهائي أمام الأرجنتين، وقدموا نسخة قوية خلال يورو 2016 لكنهم انسحبوا بشكل مفاجئ أمام بلاد الغال في ربع النهائي مرة أخرى. ووصل الفريق إلى أعلى مستوياته في كأس العالم 2018، وحين اعتقد الجميع أن لعنة ربع النهائي ستتواصل خصوصاً أنهم وجدوا في هذا الدور منتخب البرازيل في طريقهم، نجح الجيل الذهبي الجديد في إخراج أحد أبرز المرشحين للقب، وبذلك بات حلم التتويج ممكناً لكنهم انسحبوا أمام منتخب فرنسي لم يكن وقتها يفوقهم كثيراً.

تواصلت إبداعات اللاعبين البلجيكيين في مختلف الدوريات الأوروبية الكبرى، ما كان يعني أنه من الممكن البقاء في القمة. وستصل بلجيكا عام 2019 إلى صدارة تصنيف فيفا للمنتخبات مع انتظام باهر في النتائج، وحين اعتقد البلجيكيون مجدداً أن الفرصة سانحة بتحقيق لقب دولي بهذا الجيل، سقطت أحلامهم بشكل مفاجئ أمام إيطاليا المتراجعة كروياً في ربع النهائي مرة أخرى، وكانت تلك الإشارة الأولى لبدء تراجع الجيل البلجيكي، وهو ما أكدته كأس العالم 2022 في قطر بهزيمة ضد المغرب، وانسحاب من الدور الأول، أخذ بريق المنتخب واللاعبين البلجيكيين يخفت بالتدريج.

هذا الانطفاء المتكرر يشير إلى شيء غير مرئي يمسك "الشياطين الحمر" كلما اقربوا من بلوغ الهدف. فنّدت هولندا إرجاع أسباب ذلك إلى الحجم الجغرافي، ورقّعت الهجرة شيئاً من الضمور الديمغرافي، وبقيت بلجيكا في مكانها تتخبط في عدم الاستمرارية. لعلها أيضاً أزمة ضمير، فهذا المنتخب شاهد على بقايا تاريخ كولونيالي يقال إنه انتهى. وفي بلجيكا، تتجلى أكثر بشاعة هذا التاريخ، مقارنة بفرنسا وبريطانيا التي تفرّقت جرائمهما بين أمم عديدة، كيف لهذا الفضاء الصغير أن يحتمل وزرَ ماضٍ استعماريٍّ ضخم؟

المساهمون