استمع إلى الملخص
- **التحديات الاقتصادية والاجتماعية**: المكسيك قريبة من دخول قائمة الاقتصاديات العشر الكبرى، لكنها تواجه مشاكل الفساد والجريمة. مشروع "التحول الرابع" للرئيس لوبيز أوبرادور يهدف لتحسين الوضع، لكن جائحة كورونا عرقلت التقدم.
- **الآمال الكروية والمستقبل**: المنتخب المكسيكي يواجه صعوبات في تحقيق إنجازات كبرى رغم بدايات جيدة. استضافة كأس العالم 2026 قد تكون فرصة لتحقيق تحول، لكن التحديات المناخية والديمغرافية تظل عائقاً.
مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب المكسيك.
كانت المكسيك أول بلد تنظّم كأس العالم مرتين، في 1970 ثم عام 1986. وستكون أول بلد يستضيفها ثلاث مرات، حين تحتضن جزءاً من مباريات مونديال 2026. تسبق المكسيك بذلك بلداناً كثيرة ذات بنى تحتية أفضل، ولها تاريخ ونتائج كروية أحسن. وعلى صعيد عدد المشاركات في كأس العالم، حضر المنتخب المكسيكي خلال 17 مناسبة من بين 22 ممكنة، وهي البلد الخامس عالمياً من حيث عدد المشاركات، تتفوّق في ذلك على أمم حققت لقب كأس العالم مثل فرنسا وإنكلترا وإسبانيا والأوروغواي، ولا يتجاوز المكسيك في عدد المشاركات المونديالية إلا القوى الكروية الأربعة الكبرى، من ناحية التتويجات: البرازيل وألمانيا وإيطاليا والأرجنتين.
لكن هذا التفوق على مستوى التنظيم أو المشاركة، تقابله نتائج عادية على المستوى الرياضي. فالمنتخب المكسيكي لم يسبق أن تجاوز ربع نهائي المونديال، وقد وصله مرتين حين نظّم كأس العالم، وفي أغلب الأحيان كان ينسحب من ثمن النهائي أو من دور المجموعات. هكذا، ففي حين تضع أرقام المشاركات المكسيك بين أقوى المنتخبات، تعيده النتائج إلى الصفوف الكروية الخلفية. وكأن ذلك يستنسخ موقع المكسيك على الخريطة، بين شمال القارة الأميركية حيث الرفاهية والتفوّق التكنولوجي، وجنوب القارة بواقع شعوبها الموزّع بين الفقر والجريمة، وغير ذلك من الصور التي تكرّست عن البلدان اللاتينوأميركية.
ولا يختلف الأمر إذا قسناه أيضاً من زاوية الاقتصاد. فالمكسيك كانت دائماً قريبة من دخول قائمة الاقتصاديات العشر الكبرى في العالم، بثرواتها الطبيعية والبشرية، لكنها ظلّت تراوح مكانها في منطقة وسطى بين هذا وذاك. ولقد تحوّل الانتقال إلى المواقع الأمامية العُقدة التي يدور حولها تاريخ المكسيك الحديث. يتشابه الأمر حين نقيس ذلك بمسار المنتخب الكروي، وحين نقاربه من منظور السياسة العامة. كيف لا والمكسيك تعيش اليوم "التحوّل الرابع"، وهو المشروع الذي أطلقه الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور الذي تنتهي ولايته قريباً، ومن المتوقع أن تواصل الرئيسة الجديدة كلوديا شينباوم في المسار ذاته.
سيكون بلوغ منتخب المكسيك المواقع الأمامية في كرة القدم أحد مؤشرات نجاح هذا المشروع. أما إذا ظل يراوح مكانه فلعلها إشارة إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون بلاغة سياسية في بلد يبدو وكأن هناك سقفاً لا تكاد تتخطّاه طموحاته. ولقد كانت هناك إشارة كروية منذ ولادة مشروع "التحوّل الرابع" مع وصول أوبرادور إلى الحكم عام 2018. في العام نفسه، وفي مفتتح مبارياته بالمونديال الروسي، انتصر المنتخب المكسيكي على بطل العالم ألمانيا بالنجوم نفسها الذين حققوا اللقب منذ أربع سنوات في البرازيل. بعد ذلك انتصر المكسيكيون منطقياً على كوريا الجنوبية، فتضاعفت الآمال بانتقال المنتخب أخيراً إلى مرحلة من استقرار النتائج، غير أن الفريق انهزم في ثالثة مباريات المجموعة أمام السويد 3-0، ومن ثمّ وقع في مواجهة صعبة أمام البرازيل في الدور الثاني، وانسحب منتخب المكسيك كعادته من ثمن النهائي.
هل اختلف الأمر كثيراً على مستوى المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية؟ كان صعود رئيس من خارج المنظومة التي تحكم البلاد منذ قرن سبباً في تحريك مياه راكدة كثيرة، فقد فُتحت ملفات فساد منسية، وحوربت عصابات المخدرات والخطف بجدّية، وانطلقت أكثر من قاطرة تنموية بين صناعة وسياحة وزراعة، لكن ومن سوء حظ المكسيك تعطّلت كل القطارات مع وباء كورونا، فذهبت طموحات كثيرة أدراج الرياح. ولم تكن تلك العثرة سوى شجرة تخفي غابة من الأسباب التي تحكم على المكسيك بعدم تجاوز قدَرها المتعثّر.
ومن بين هذه الأسباب ذلك الثمن الذي تدفعه المكسيك بسبب الجيرة مع الولايات المتحدة الأميركية؛ القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية الأولى عالمياً، ما يجعل منها حديقة خلفية للصناعات الأميركية المُلوّثة، وامتداداً طَرَفياً لأسواقها ولشبكات عصاباتها. حتى صورة المكسيك في العالم تصنعها هوليوود، تصوّرها على شاكلة "الغرب الأميركي" في القرن التاسع عشر، وتكرّس المكسيكيّ في دور المهرّب. ولكن أفدح أثمان الجيرة الأميركية كان خسارة المكسيك نصف مساحتها في منتصف القرن التاسع عشر، حين استغل الأميركيون انشغال المكسيكيين بصراعاتهم الداخلية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال كي يستولوا على أراضٍ ستشكّل ولايات أميركية أساسية، مثل تكساس وكاليفورنيا وكولورادو. تلك الولايات التي تفصل المكسيك اليوم عنها جدران وأسلاك شائكة.
حين أوقعت كأس العالم 2002 المنتخب المكسيكي في مواجهة المنتخب الأميركي، استثيرت هذه العلاقة التاريخية بين الجارين. صادف أن كانت المباراة في ثمن النهائي. كانت فرصة مواتية لتجاوز العقدة التاريخية بعدم تحقيق أي انتصار خارج الدور الأول من المونديال، وأمام أميركا بالذات؛ الجار المتفوّق اقتصادياً، والمتأخّر كروياً. وإلى ذلك، كان المنتخب المكسيكي يعتمد وقتها على لاعبين ممتازين مثل كواوتيموك بلانكو ورافييل ماركيز ولويس هرنانديز وخارد بورخيتي. كانت صدمة قاسية حين انهزم هؤلاء أمام المنتخب الأميركي الذي حقّق على حسابهم أفضل نتيجة في تاريخه. يومها، تكرّست العُقدة الكروية بشكل مُزمن (ولا تزال مستمرة إلى أيامنا).
هل نجحت البلاد حقاً في تحولاتها السابقة كي تنجح في الرابع؟
أكثر من مرة قدّم المنتخب المكسيكي بدايات جيّدة في كأس العالم، خصوصاً في الدورات المتلاحقة بين مونديال 1994 إلى 2018 حيث تجاوز في كل مرة الدور الأول بامتياز، وقارع منتخبات قوية، وقدم كرة قدم جميلة، ثم في كل مرة كان يصطدم بالسقف اللامرئي نفسه الذي يمنعهم من تحقيق إنجاز كرويّ.
وفي الحقيقة، لم يضع المكسيكيون نصب أعينهم أي هدف آخر في كرة القدم غير المنافسة على كأس العالم، فهم مسيطرون مثلاً على المسابقة القارية؛ الكأس الذهبية، حيث حققوا العدد الأكبر من التتويجات بـ 12 لقباً. لكنهم يعتبرون أنها مسابقة غير ندية، إذ ينتصرون على منتخبات أميركا الشمالية وأميركا الوسطى التي يتفوقون عليها تاريخياً. كما يشاركون في دورات كوبا أميركا (بتنظيم اتحاد دول جنوب القارة) منذ 1993 لكنهم هناك مجرّد ضيوف. وهكذا تستمر مأساتهم؛ تاريخ كروي بلا أفراح تقريباً، فالأهداف الممكنة سهلة المنال إلى درجة أنها باتت بلا طعم، والهدف المرغوب فيه مستحيل.
هل لـ"التحوّل الرابع" القدرة على تغيير شيء في هذا القدَر، خصوصاً أن المكسيك ستستضيف للمرة الثالثة كأس العالم؟ ثم، هل نجحت البلاد حقاً في تحولاتها السابقة، وهي بمنظور الرئيس أوبرادور؛ مرحلة التحرر الوطني (1810 - 1821) من الاستعمار الإسباني، غير أن الاستعمار قد تغيرت ملامحه من عصر إلى آخر، فخرج المستعمرون وبقي النهب متواصلاً، كما تشير إلى ذلك أدبيات التحرر اللاتينوأميركي. أما التحوّل الثاني، فهو مرحلة الإصلاحات العلمانية (1857 - 1860) وهل أنقذ حياد الدولة المذهبي المكسيكَ من انقسامات عرقية وطبقية كانت هي السبب في دخول البلاد مرحلة التحوّل الثالث، أو ما يُعرف بالثورة المكسيكية (1910 - 1920) والتي غيّرت المشهد السياسي، ولكن هل نجحت فعلاً في فرض عدالة في توزيع الثروة كما طالب قادتها؟
وإذا افترضنا أن المكسيك قد نجحت في تحقيق أهداف "التحوّل الرابع"، ألا نرى فيه عوامل أخرى تشدّها إلى مكانها، منها ما لا طاقة للدولة بمجابهته، فقد ورثت موقعاً جغرافياً مفتوحاً على محيطين، فتعبره الأعاصير كل عام، كما تهدده البراكين والزلازل، أضف إلى ذلك أسباباً مناخية أخرى تجعل من المكسيك أحد أكثر البلدان تضرراً من ارتفاع الحرارة إلى درجة تهجير الناس من بعض المناطق ليصبّ ذلك في زيت المعضلة الديمغرافية، وقد تكدّس الناس في العاصمة مكسيكو التي اختنقت بالازدحام والتلوث حتى باتت معروفة بسماء رمادية تحجب لون السماء على الناس.
كانت كرة القدم هي الأفيون الذي طالما حجب كل المشاكل عن الشعوب المتقاربة ثقافياً مع المكسيك في جنوب القارة الأميركية، خصوصاً، لكنها لم تحقق للمكسيكيين شيئاً يخفي صعوبة واقعهم المناخي والاجتماعي. ربما نجحوا من خلال كرة القدم في استثارة تاريخهم ما قبل الاستعماري فأبرزوا مفردات الحضارة الأزتيكية عبر قميص منتخبهم، وحركات لاعبيهم، وجعلوا ملاعبهم أشبه بمعابدهم القديمة، فتبدت لهم كرة القدم لوهلة مثل فرصة لرد اعتبار حضاري، لكن أي حظ لمن يأخذ تميمته من حضارة منقرضة؟