استمع إلى الملخص
- في بلدة رميش، يصر السكان على البقاء رغم المخاطر، معتمدين على تعاضد المجتمع المحلي والمبادرات الفردية لتلبية احتياجاتهم الأساسية وسط نقص في الغذاء والخدمات الصحية.
- في مناطق مثل القليعة ومزرعة حلتا، يعتمد السكان على الزراعة والمساعدات المحدودة، ويواجهون نقصًا في المواد الغذائية والأدوية وصعوبة الوصول إلى المستشفيات، متمسكين بأرضهم وكرامتهم.
اختار بعض اللبنانيين البقاء في أراضيهم وبيوتهم في الجنوب اللبناني رغم مرور أكثر من عام على بدء الاشتباكات على الحدود مع فلسطين المحتلة قبل تصعيد العدوان، وذلك تمسكاً بالأرض ورفضاً لذل التهجير
على الرغم من مرور أكثر من عام على العدوان الإسرائيلي على لبنان، ولا سيما القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة وتلك التي تبعد أقل من 4 كليومترات عن هذه الحدود، والتي لم تسلم منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 من الغارات والقصف الإسرائيلي المدمّر الذي لا يميز بين بشر وحجر، آثر العديد من أبناء تلك القرى والبلدات عدم تركها والبقاء فيها، حتى بعدما اشتد العدوان الإسرائيلي في الأسابيع الماضية، متشبثين بأرضهم ورافضين التهجير وما يحمله من عذابات النزوح والتشريد.
هؤلاء تجرّعوا هذا الكأس المرّ مراراً منذ عام 1967، وكان آخره عدوان تموز 2006. لذلك، أعرب الكثير منهم عن عدم تكرار تلك التجربة القاسية بعدما استقروا على مدى السنوات الماضية وأسسوا لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، رغم غياب كبير لمؤسسات الدولة والمؤسسات الإنسانية والمراكز الصحية والصيدليات، وصعوبة وصول المواد الغذائية، والانقطاع الكبير في المياه والكهرباء والإنترنت وغيرها، فضلاً عن الخوف الدائم من القصف والغارات الإسرائيلية، ولا سيما على أطفالهم الذين يعيشون الخوف والقلق مع سماع كل غارة أو قصف، فضلاً عن عدم التحاقهم بالمدارس للعام الثاني على التوالي.
في بلدة رميش (قضاء بنت جبيل) المحاذية للخط الأزرق، أصرّ أكثر من خمسة آلاف شخص، أي نحو 80% من سكانها، على البقاء فيها وعدم المغادرة مهما حصل أو قد يحصل، ولجأ إليها نحو ألف نسمة من أبناء القرى المجاورة، من دبل وعين إبل ويارون والقوزح وغيرها. اليوم، هم يتحملون ما لا طاقة لأحد تحمّله. يشير أبو روي كلاكش (60 عاماً) في حديثه لـ"العربي الجديد"، قائلاً: "نحن نعيش كل يوم بيومه، الظروف قاسية وقد تصل إلى حدّ اليتم والقهر، بل يمكن القول الجحيم".
ويلفت أبو روي إلى أن "معظم سكان رميش لا يزالون يسكنونها اليوم رغم الموت والدمار. فمن ناحية، نحافظ على كرامتنا ونحمي أرضنا وبيوتنا مخافة ألا نعود إليها مرة أخرى كما في حروب سابقة. ومن ناحية أخرى، لن نتمكن في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعصف بنا تحمّل تكاليف النزوح، وخصوصاً أن مؤسسات الدولة والمنظمات الإغاثية لم تظهر دعماً جاداً لناحية تأمين الحاجات الأساسية للنازحين من مسكن ومأكل وتعليم ومياه وكهرباء".
وحول كيفية تدبّر الناس أمرهم في هذه الظروف العصيبة، يقول متنهّداً: "جميع أساسيات الحياة هنا متوقفة منذ زمن، والاعتماد يبقى على تعاضد المجتمع المحلي ومبادراته وتعاون بعضه مع بعض، الأمر الذي ستر العائلات الأكثر حاجة". وتؤكد جورجيت (50 عاماً)، وهي أم لثلاثة أطفال، لـ "العربي الجديد": "أطفالي كما أطفال رميش والبلدات الحدودية خصوصاً، لم يرتدوا الزي المدرسي للعام الثاني على التوالي. وبدل رائحة الطبشور، باتوا يعتادون روائح البارود والنار، ويغفون ويصحون على أصوات الصواريخ والقنابل والغارات. في العام الماضي، لم يصرخوا: كلّنا للوطن، في احتفال الاستقلال بالمدرسة، ولم يزوروا الملاهي، ولم يشتروا ثياب العيد، ربما هذا العام أيضاً لن يفعلوا".
الوقت يمرّ مثقلاً بالانتظار
أوديل سلامة من بلدة القليعة (قضاء مرجعيون) تعمل وزوجها في القطاع الزراعي، لا تزال تحافظ على طقوسها الصباحية وترتشف قهوتها مع زوجها وشقيقتها على شرفة المنزل المطلّة على حوض الليطاني وقلعة الشقيف. تتحدث لـ "العربي الجديد" عن شعورها "بالخوف الشديد عندما نسمع أو نرى الغارات والقصف الذي يسقط بشكل جنوني عند أطراف البلدة والمناطق المقابلة لبلدتنا، لكن ما باليد حيلة، نحاول التأقلم مع الوضع الخطير، علّ هذه الغيمة تنزاح عنّا وعن لبنان". بحسرة، تقول سلامة: "نحن متمسكون بـأرضنا، ولا سيّما أن النزوح صعب، ولا مكان نؤوي إليه. لذلك، قررنا البقاء في البلدة كما الكثير ممن بقوا فيها. ليس من السهل علينا ترك جنى عمرنا وما أسسناه لمستقبلنا ومستقبل أولادنا أن يذهب في مهب الريح".
سلامة التي تعتمد وزوجها أساساً على زراعة التبغ والزيتون، تقول: "نعتاش على الزراعة. لكن بسبب هذه الحرب التي تعصف بنا، بتنا نحاول الاعتماد في إنتاج المحصول على الحقول الملاصقة لمنازل البلدة، لاعتقادنا أن ذلك أكثر أمناً. إلا أنه لم يعد هناك من مكان آمن، ليس هنا فقط، بل في كل لبنان، ونعتمد في حياتنا اليومية على المونة التي نحضّرها من عام إلى عام، فضلاً عن أننا في قرية، والناس يلتفّ بعضهم حول بعض في أزمات وحروب كهذه، والجميع يمدّ يد العون للآخر". تضيف: "هناك بعض الجمعيات والمنظمات التي تقدم بين الحين والآخر مساعدات غذائية إلى أهالي البلدة والمقيمين فيها، ما يخفف عنّا بعض الشيء. في أحيان كثيرة، نجد صعوبة في تأمين المواد الغذائية لشحّها في المتاجر المتبقية، بسبب تقطّع الطرقات التي تربط البلدة بالكثير من المناطق". تضيف: "هناك أزمة مادية واقتصادية وعبء ثقيل لتأمين وسائل التدفئة لأولادنا وكبار السن، بالإضافة إلى أن تأمين حمايتهم وتعليمهم وطبابتهم بات همّاً لا يحتمل، وقد خرجت مستشفيات المنطقة عن الخدمة. وبات الوصول إلى بيروت والمناطق الآمنة صعباً وفي غاية الخطورة".
النزوح والعودة تحت القصف
تروي مدرّسة اللغة العربية زينة جوليان، لـ "العربي الجديد"، رحلة النزوح من بلدتها القليعة (قضاء مرجعيون) وإليها، قائلة: "في الرابع من الشهر الماضي، حين طُلب إخلاء البلدة كما العديد من البلدات الجنوبية، اتخذنا قراراً بالنزوح إلى بيروت، على الرغم من أننا لم نغادرها طوال الحرب، ولم نتحمل الأعباء المادية والتكاليف المعيشية. لذلك، قررنا بعد أسبوع من النزوح العودة إلى بلدتنا، خصوصاً أن قسماً كبيراً من أهلنا والأهالي لم يغادروا".
تتابع جوليان: "في طريق العودة، كانت الطريق جنوباً خالية كلياً وموحشة ومخيفة، وأشبه ما تكون بمدينة أشباح، وعلى جوانب الطرقات دمار وركام فوق ركام، حتى وصلنا إلى البلدة. لذلك، قررنا وزوجي أنه مهما حصل بعد الآن، لن نترك بلدتنا". وتشير إلى أننا "نواجه الكثير من التحديات، وتعتبر بلدتنا شبه معزولة عن العالم، ولا يمكن لأحد الدخول أو الخروج بأمن وسلام إلا بالتنسيق مع الجيش واليونيفيل اللذين يواكبان المساعدات الغذائية والعينية التي تصل إلى البلدة ويوزعها شباب كنيسة مارجريس في القليعة. ويبقى التحدي الأكبر حتى اليوم في تأمين الطبابة والأدوية، ولا سيما للأمراض المزمنة". وتتحدث عن "الانقطاع الكبير في الاتصالات والإنترنت، وخصوصاً أنني مدرّسة، وبدأنا التدريس أونلاين، ما يشكل صعوبة على المدرّسين والتلاميذ أيضاً".
من جهتها، تتحدث لبنى شبلي من مزرعة حلتا التابعة لبلدة كفرشوبا (قضاء حاصبيا) بحرقة عما آلت إليه الأمور. تقول: "مرّ أكثر من عام ونحن نعاني من هذه الحرب الظالمة التي لم ترحم حجراً ولا بشراً ولا شجراً. نحب هذه الأرض ونعشق تينها وزيتونها". تضيف: "نزحنا مع بداية الحرب، أي بعد الثامن من أكتوبر 2023، وقد عانينا ما عانيناه من دفع بدل إيجار السكن من مالنا الخاص. وبعد ثلاثة أشهر، لم يعد في إمكاننا دفع بدل الإيجار في ظل غياب أي مساعدات من أية جهة كانت. قررنا العودة إلى حلتا جراء الغارات والقصف، كما الكثير من أبنائها، حفاظاً على كرامتنا، أقلّه ننام بدفء ونأكل من أرضها وثمارها بدلاً من ذلّ النزوح والتهجير".
تضيف: "سنبقى في حلتا طالما هذه الأرض باقية، لن أخرج من بيتي بعد اليوم، وعسى الله يكتب لنا البقاء فيها آمنين مطمئنين. كل ما يهمنا هو العيش بسلام لأننا شعب مسالم نعشق أرضنا ونعشق حجارة بلدنا، حتى وإن كانت جمراً". وتشكو شبلي "صعوبة تأمين المواد الغذائية والأدوية حتى المياه التي انقطعت بسبب استهداف العدو الإسرائيلي لنبع المغارة في شبعا ـ قضاء حاصبيا، الذي يغذي عدداً من القرى والبلدات في هذا القضاء. لذلك، نقوم بترشيد استهلاك كل ما لدينا حتى تتغيّر الأحوال". وتتحدث عن "تقنين التيار الكهربائي والانقطاع المتكرر لشبكة الإنترنت التي يمكن القول إنها الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم. والأصعب من كل ذلك الوصول إلى أقرب مستشفى، وهو في حاصبيا ـ مركز القضاء، لكون الطريق المؤدي إليه محفوف بالمخاطر".
الصحة والتربية همّ آخر
يقول هشام سليقا من بلدة الفرديس (قضاء حاصبيا) وهو أستاذ متعاقد في مدرسة حاصبيا المتوسطة الرسمية، لـ"العربي الجديد": "صحيح أننا ما زلنا في البلدة ولم نغادرها حتى اليوم، لكننا نعاني الأمرّين. المواد الغذائية والأولية شحيحة، لكون التجار يخافون التحرك والوصول الى البلدة، فضلاً عن صعوبة تأمين الأدوية. والداي يحتاجان إلى أدوية السكّري والضغط، بحثت في صيدليات مدينة حاصبيا من دون أن أجد شيئاً، ثم أمّنها لي صديق من بيروت".
يضيف سليقا: "اخترنا البقاء في البلدة لأن ليس لدينا بديل آخر. أين اللجوء؟ بصراحة، كل همّي اليوم تعليم أولادي. وبسبب الخطر المتنقل أحاذر ذلك. الوضع التربوي سيّئ إلى أبعد حدود، وأنا الأستاذ المتعاقد، مصيري مجهول، لأنني أعتمد على التعليم شتاءً لتأمين مصروف عائلتي صيفاً. وإن لم يكن هناك عام دراسي، فهل سأقبض راتبي التعاقدي من الجهات المعنية في الدولة؟". ويشير إلى صعوبة تأمين "مياه الشفة المنقطعة عنا منذ شهر تقريباً، ولم يتحرك أحد لمؤازرة الجيش واليونيفيل لإصلاح الأعطال الناجمة عن قصفها. لذلك، هناك عتب كبير على الدولة والمنظمات الدولية والمانحة المعنية للالتفات للناس الباقين في ديارهم".
أما ابن بلدة الماري (قضاء حاصبيا)، الدكتور في علم الاجتماع، منصور العنز، فينقل شكواه هو وأبناء بلدته الذين لم يغادروها يوماً منذ اندلاع الحرب والعدوان، ويقول: "بسبب العدوان، نعيش وضعاً نفسياً صعباً. ويوجد حالة ضياع وهواجس وخوف وترقب. الأطفال يخافون النوم، ويصحون على أصوات القصف. لا يمكن للمريض الوصول إلى المستشفى، والأدوية قليلة جداً إن وجدت، وخصوصاً لأصحاب الأمراض المزمنة. والناس بحاجة لمن يضمّد جراحها من تأمين المياه والكهرباء والاتصالات". يختم العنز، قائلاً: "التشبث بالأرض صعب، وله ثمن من أعصابنا وقلقنا ومصالحنا".