تتورّط مؤسسات لبيع المستلزمات الطبية في الأردن، بالمتاجرة في الكمامات ومواد الوقاية التي كانت بحوزتها كميات كبيرة منها قبل أزمة فيروس كورونا المستجد، وامتنعت عن بيعها انتظاراً لفترة ازدياد الطلب المتوقعة بالتزامن مع نقص عالمي في هذه المواد، وفقاً لما يوثقه التحقيق عبر تتبع صفحات على "فيسبوك"، أو إعلانات على موقع السوق المفتوح الإعلاني، تروج لمواد الوقاية من كمامات جراحية وكمامات من نوع FPP2، واللباس العازل، وبالتواصل مع القائمين عليها أوضح وسطاء أن لديهم كميات من كافة المواد ويشترطون البيع بالعلب الكاملة وبكميات كبيرة وبلا فواتير، مؤكدين أنهم مسوقون لصالح مؤسسات مستلزمات طبية في عمّان.
وإلى جانب ذلك رصدت معدة التحقيق بيع كمامات داخل أكياس بلاستيكية لا يظهر عليها أي بيانات تُثبت أصل المنتج، في مستودع صغير بمنطقة خلدا غربي العاصمة الأردنية، ويقول التاجر أبو محمد، كما عرّف نفسه، إنه يبيع الكيس الذي يحتوي على 100 قطعة بسعر 12 ديناراً (16.93 دولاراً)، معللاً عدم وجود بيانات المنتج بنقل الكمامات من علبها الأصلية إلى أكياس بلاستيكية، تخفيضاً لكلف الشحن من السعودية إلى الأردن، وهو ما يُخالف شروط تداول المستلزمات الطبية والمطهرات والمعقمات التي تُستعمل لمرة واحدة فقط، والتي تشدد على أن يرد على الغلاف الخارجي لكل قطعة من جميع المستلزمات الطبية والمطهرات والمعقمات التي تستعمل مرة واحدة فقط رقم التشغيلة (العملية الصناعية التي تبدأ بالمواد الخام وتنتهي بها مصنعة)، وتاريخ الانتهاء، واسم الشركة الصانعة أو مالكة حق التسويق، وبلد المنشأ، وظروف التخزين حيثما انطبق، وطريقة التعقيم في حال كونها معقمة، وبخلاف ذلك يتم إبراز شهادة من الشركة الصانعة بطريقة التعقيم وتُستثنى من ذلك المطهرات والمعقمات، وفقاً لأسس استيراد وتداول المستلزمات الطبية، بما فيها المعقمات والمطهرات، الصادرة بمقتضى المادة 5 من قانون الدواء والصيدلة رقم (80) لسنة 2001 والقانون المعدل به رقم (30) لسنة 2003.
ظهرت أنواع رديئة النوعية من الكمامات في صيدليات الأردن لدى تزايد الطلب على الكمامات، كما تقول عزيزة خالد التي تعمل في مصنع للألبسة في منطقة الضليل شمال شرق مدينة الزرقاء، واضطرت قبل فرض حظر التجول إلى شراء كمامات لوقاية نفسها من العدوى بفيروس كورونا في أثناء العمل، لكنها، بعد البحث في خمس من الصيدليات الموجودة في منطقة سكنها، وجدت كمامات تقترب مادة صنعها من الورق المقوى، ويفسد شكلها بمجرد وضعها على الوجه، ويبين الصيدلاني محمود السالم أن الكمامات التي تصل إليهم من الموزعين في الوقت الحالي هي فقط من هذه النوعية التي تشبه الكوب والتي يجهل مصدرها، قائلاً إن النوعيات الطبية ذات الفاعلية العالية في الوقاية من الفيروسات المغلفة لا تلقى رواجاً بسبب ارتفاع أسعارها ولم يرها مع الموزعين، بينما يؤكد زيد الكيلاني نقيب صيادلة الأردن أن الكمامات من النوعيات الفعالة في مقاومة الفيروس غير متوفرة في الأردن، ما عدا الكمامة ذات الفلتر من نوع N95، التي بدأ إنتاجها محلياً في فبراير المنصرم، لكن المؤسسة العامة للغذاء والدواء تركز على تزويد الطواقم الطبية بها، ما يؤدي إلى نقصها في الصيدليات ومؤسسات المستلزمات الطبية في الأردن.
"ليس لدينا كمامات ولا مطهرات منذ شهرين"، يقول مدير المبيعات في المؤسسة الأردنية للتجهيزات الطبية في عمّان سعود زياد، موضحاً حالة النقص الحاد بالمواد الحمائية لدى شركات ومؤسسات المستلزمات الطبية في الأردن (موزعون للمستلزمات الطبية يتبعون القطاع الخاص)، وخاصة الكمامات ومستحضرات التعقيم.
وسجلت مؤسسات المستلزمات الطبية شحّاً في مستلزمات الوقاية منذ أن توقف المستوردون عن تزويدهم بهذه السلع في فبراير/شباط 2020، عقب إعلان الصين عن وقف تصديرها للخارج بسبب حاجتها لمواد الوقاية في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد Covid-19، إذ يجلب غالبية المستوردين هذه المستحضرات من الصين، كما يؤكد زياد لـ "العربي الجديد"، لأن استيرادها أوفر من تصنيعها بكثير، أما مواد التعقيم التي تُنتج في مصانع محلية وازداد الضغط عليها بسبب الطلب، فازداد سعرها للضعف، حيث أصبحت تباع العبوة من حجم 250 مل بدينار (1.41 دولار)، بينما كان سعرها السابق نصف دينار فقط (0.71 دولار). وفقاً لزياد.
وأحصى الأردن 212 مصاباً بفيروس كورونا المستجد حتى 26 مارس/آذار، وفقاً لإفادة وزير الصحة الدكتور سعد جابر.
وأجرت معدة التحقيق مسحاً شمل 15 مؤسسة لبيع المستلزمات الطبية وصيدليات في مدينتي عمّان والزرقاء، ليتبين أن جميعها تخلو من الكمامات بأنواعها، مع وجود شحّ في المطهرات، باستثناء علب الغسول المعقم من الحجم الصغير المصنعّة داخل الأردن، وفي الوقت ذاته، تنشط نماذج جديدة لحركة بيع مواد الوقاية المختلفة، منها ما يتم بشكل أساسي عبر الإعلانات على صفحات فيسبوك، أو موقع السوق المفتوح للإعلانات (موقع إلكتروني مخصص للإعلانات مفتوح للجمهور)، ويتم البيع من خلال التواصل عبر رقم الشخص المعلن، ويشترط هؤلاء البيع بالعلب الكاملة وبكميات لا تقل عن 200 كمامة، كما وثقت معدة التحقيق بالتواصل مع 6 منهم، مؤكدين أن هدفهم البيع التجاري وليس البيع للاستخدامات الشخصية.
ويتجه تجار آخرون إلى البيع بشكل مباشر عبر عرض بضاعتهم من مستلزمات الوقاية لصيادلة وموزعين، كما يكشف الصيدلاني موسى حامد الذي يعمل في صيدليته بالزرقاء قائلاً لـ"العربي الجديد": "تلقيت 3 عروض من 3 تجار مختلفين، لم أتعامل معهم مسبقاً، منذ ارتفاع الطلب على الكمامات بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد".
تواصلت معدة التحقيق مع أحد التجار المكنى بـ"أبو آدم" وفق إعلانه المنشور على موقع السوق المفتوح، والذي يروج لكميات من الكمامات الجراحية المتوفرة لديه، وأقرّ بأن ما لديه من كمامات كان قد استوردها من الصين بداية العام، وبدأ ببيعها في فبراير الماضي، وهي معروضة لكل من يريد الشراء بالسعر المطلوب، كما يقول، سواء صيدليات أو مؤسسات، بسعر 14 ديناراً أردنياً ونصف، أي ما يعادل 20.45 دولاراً أميركياً للعلبة (البوكس) الواحدة التي تحتوي على 50 قطعة من الكمامات العادية، والتي كان سعرها سابقاً دينارين وربع فقط (3.17 دولارات)، وفقاً لنقيب صيادلة الأردن.
وطلبت معدة التحقيق من المستورد أبو آدم شراء 5 علب من الكمامات المعروضة، لكنه رفض البيع عبر محله التجاري أو مستودعه، وأخبرها بأنه سيقوم بتأمين الكمية في أحد المحلات بمجمع الشمال (محطة لوسائل النقل) بمنطقة طبربور في عمان لتذهب لاستلامها هناك.
المعطيات ذاتها حصلت عليها معدة التحقيق بالتواصل مع تاجر آخر يعلن عن توفر كمامات من نوع N95، بسعر 3 دنانير وربع للواحدة (4.58 دولارات)، مؤكداً أنه استوردها من الصين قبل توقفها عن التصدير ويحتفظ بها في مستودع لديه بمنطقة الهاشمي الشمالي في العاصمة الأردنية، في حين يبيع علبة الكمامات الجراحية العادية ذات المنشأ الصيني بـ 8 دنانير (11.28 دولاراً)، إذ تتوفر لديه 128 علبة.
ويؤكد خالد سلامة مدير مركز ابن سينا للتجهيزات الطبية، بأن هناك تجاراً وموزعين يخفون البضائع لطرحها للبيع في أوقات زيادة الطلب بهدف التربح، لافتاً إلى أنه يعتقد أنه لا يوجد نقص بمواد الوقاية وخاصة الكمامات في السوق، لكن زيادة الطلب وجشع التجار جعلا الأسعار ترتفع، وأدى إلى تركز مواد الحماية في يد البعض وفقدانها لدى آخرين، والدليل أن أي كمامة يريدها المستهلك يجدها لكن بسعر مرتفع، وبالتالي فإن المشكلة ليست بالشح، بل بالجشع والاحتكار.
وتحظر الفقرة أ من المادة السادسة من قانون المنافسة الأردني رقم (33) لعام (2004) الصادر عن وزارة الصناعة والتجارة على أي مؤسسة لها وضع مهيمن في السوق "تحديد أو فرض أسعار أو شروط إعادة بيع السلع والخدمات"، وفي الفقرة هـ يُحظر "السعي لاحتكار موارد معينة ضرورية لممارسة مؤسسة منافسة لنشاطها أو لشراء سلعة أو خدمة معينة بالقدر الذي يؤدي إلى رفع سعرها في السوق أو منع انخفاضه".
ويلجأ هؤلاء التجار إلى البيع بلا فواتير، وبعيداً عن مستودعاتهم، خوفاً من الجهات الرقابية، كونهم يحتكرون سلعة لبيعها بمربح لا يقل عن 100%، بحسب سلامة، والذي قال لـ"العربي الجديد" أن الجهة التي دأبت جهة عمله على شراء الكمامات والمعقمات منها توقفت عن إمدادهم بها، بذريعة عدم توفرها لديهم، بينما يجد السلع الحمائية مطروحة للبيع من قبل جهات متنوعة.
لكن نقيب تجار المواد الطبية في الأردن جهاد المعاني يؤكد أن جميع مستوردي المستلزمات الطبية في المملكة، ومن ضمنها الكمامات ومواد التعقيم واللباس العازل نفدت لديهم جميع الكميات التي كانوا قد استوردوها من الصين التي تعد وجهتهم الأولى، قبل تفشي فيروس كورونا المستجد، وحالياً هذه السلع جميعها مفقودة لدى هؤلاء المستوردين الذين لا يتجاوز عددهم 15 جهة في الأردن، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن هؤلاء التجار الذين يحتفظون بكميات من كراتين الكمامات أو مواد التعقيم المستوردة لجأوا إلى طرحها للبيع في فترة انقطاعها من السوق، وهم ليسوا مُستورِدين، قائلاً أن "الاستيراد من الصين الآن متوقف كلياً والبضاعة فُقدت لدى جميع المستوردين الأساسيين".
أنعش الطلب المتزايد على مواد الوقاية من قبل الأردنيين تجارة الكمامات، وخاصة الجراحية منها، على الرغم من توصيات منظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض في أميركا CDC، بأن الأقنعة الطبية وخاصة الجراحية الأكثر استخداماً بين الأردنيين، لن تمنع مرتديها من استنشاق جزيئات صغيرة محمولة بالهواء، والتي يمكن أن تسبب العدوى، كونها لا تغلق بشكل محكم حول الوجه.
هذا ما يؤكده الطبيب فراس الهواري، رئيس وحدة العناية المركزة والرئة في مركز الحسين للسرطان، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن الكمامة فقط تعطي شعوراً نفسياً للشخص بالأمان، ما قد يدفعه إلى لمسها بشكل متكرر للتأكد من وضعيتها، وقد تكون يداه ملوثتين، فتنتقل الفيروسات من اليدين للكمامة، فتتحول الكمامة من واقية إلى مسببة للعدوى، وخاصة أن فيروس كورونا المستجد يبقى حياً على الأسطح لمدة 9 ساعات أو يوم كامل، ما يجعل لمسها سبباً في نقل العدوى.
لكن التهافت على الشراء مستمر بحسب مدير المؤسسة العامة للغذاء والدواء في الأردن الدكتور هايل عبيدات، وأنتج توقف وصول الكمامات المستوردة إلى السوق الأردنية حالة من الاحتكار، وفقاً لقوله، لكن الصيدليات والمستودعات ومؤسسات المستلزمات الطبية جميعها خاضعة لرقابة فرق تفتيش المؤسسة العامة للغذاء والدواء، كما يؤكد عبيدات لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى اتخاذ قرار إيقاف مؤقت بحق 16 صيدلية ومستودعاً بالغت في سعر بيع مواد الوقاية وخاصة الكمامات منذ بداية فبراير/شباط 2020 وحتى منتصف مارس/آذار الجاري، وتبين أن هذه الجهات قامت بشرائها من مصدرها بسعر مرتفع من الأصل، واضطروا لبيعها بهذا السعر، لتعويض النقص لديهم بالكمامات، لذلك وجهتهم فرق التفتيش إلى عدم الشراء من التجار الذين يغالون في سعر البيع، وفقاً لقوله.
لجأت الحكومة إلى مواجهة السوق السوداء، عبر دعم إنتاج الكمامات محلياً بترخيص 3 خطوط إنتاج، حتى لا يتاح للمتلاعبين بالأسعار والمحتكرين التحكم بالسوق في ظلّ زيادة الطلب وشحّ المستورَد، وفقاً لعبيدات، وتنتج الخطوط المحلية ما بين 100 ألف كمامة و120 ألف قطعة في اليوم الواحد من الكمامات الجراحية العادية، بالإضافة إلى 13 ألفاً يومياً من نوع N95، وتعطى الأولوية لتغطية احتياجات المشافي الحكومية والخاصة من الكمامات المحلية، وتخصص كميات لبيعها لسلاسل الصيدليات الكبرى، كما حُصر بيعها للأفراد من خلال المؤسسات الاستهلاكية المدنية والعسكرية (مؤسسات استهلاكية حكومية) منعاً للتلاعب بالأسعار وضبطاً للرقابة، وتنفد جميع كميات الإنتاج يومياً، كما يؤكد عبيدات الذي يقرّ بأن الطلب أعلى بكثير مما يُصنّع بشكل يومي محلياً، فالإنتاج المحلي لا يوازي الكميات التي كان الأردن يستوردها من الصين والبالغة 4.5 ملايين كمامة سنوياً، ما يدفع تجاراً إلى الاحتكار والتلاعب، وخاصة أن الكمامات والمعقمات هي من السلع غير المسعَّرة، فهي تسجل لدى المؤسسة العامة للغذاء والدواء فقط، وفقاً لتوضيح عبيدات.
ورغم هذه الإجراءات فما زالت الصيدليات تعاني من شحٍ شديد في الأقنعة الطبية، ما يؤثر على توفيرها للمواطنين الذين باتوا يطلبونها يومياً عقب تزايد الإصابة بالفيروس في المملكة، لكنهم من النادر أن يجدوا مطلبهم في الصيدليات، وفقاً للكيلاني الذي يؤكد أن الصيادلة أنفسهم لا يجدون مستلزمات وقاية لحماية أنفسهم في ظل مواصلتهم العمل من أجل خدمة الناس في هذه الظروف، محيلاً المسؤولية إلى المؤسسة العامة للغذاء والدواء، التي جرى الاتفاق معها على تخصيص 20% من الكمامات المنتجة محلياً للصيدليات، لكنها منحتهم الكمية المتفق عليها لمرة واحدة فقط، ثم توقفت عن ذلك.
ويقرّ مدير دائرة المستلزمات الطبية في وزارة الصحة الأردنية ماهر الزيود أن 400 ألف كمامة خصصت للمواطنين، عبر الصيدليات الكبرى والمؤسستين الاستهلاكيتين المدنية والعسكرية مطلع مارس الجاري، لكنها نفدت بشكل سريع بسبب الطلب الهائل، وفي الوقت ذاته لا يمكن تزويدهم بكميات إضافية لأن الأولوية تعطى للطواقم الطبية ومقدمي الرعاية الصحية في المشافي الحكومية والخاصة، مشيراً إلى أن الكمامة من نوع N95 خصصتها وزارة الصحة للمصابين ومن يتعامل معهم بشكل مباشر، كونها لا تلزم الشخص السليم.