كوكب فيديل [5/9].. واستحال الحلم كابوساً

20 مايو 2016
الحدّ الأدنى للأجور يعادل ثمن سيجار واحد (العربي الجديد)
+ الخط -
* في الطريق إلى حقول فيناليس الساحرة في جزيرة كوبا، يشير أليخاندرو إلى مفترق طرق. يقول: "من ناحية اليمين، تتجه إلى قصر راوول، وإلى اليسار يقودك الطريق إلى قصر العجوز فيديل". أكثر من مفترق الطرق لن ترى. ولن تستطيع التقدّم فيه كثيراً، سيكون لك الأمن بالمرصاد لمنعك. "لا فرق هنا بين كوبي أو أجنبي"، تقول جيني، "كل ما نعرفه أنها قصور، ومساحات شاسعة محصنة ومحاصرة، لا يدخلها إلا من يعملون مع الحكومة".

تضيف جيني أنها حاولت مرّة أن تسترق النظر إلى قصر فيديل، بجولة بسيارتها الحديثة مع صديقها، لكن الأمن منعها من ذلك.. إنه واحد من "الأسرار القومية".




* في منطقة تقع وسط طبيعة خلابة، تتوزّع قصور ضخمة يمنة ويسرة، يسكن غالبيتها دبلوماسيون عاملون لدى هافانا وعائلاتهم. لكن هناك أخرى تعود لعاملين في الحكومة الكوبية، يمكن ملاحظة ذلك من خلال السيارات الفارهة التي تصطف أمام المنازل. لوحات السيارات التي تحمل الحرف ℗ تعني أنها تابعة لموظفي الحكومة، تشير جيني إلى تلك القصور فيما تتحدث عن "حلمها" بأن تمتلك منزلاً مع صديقها؛ هما يخططان بعد شرائه لمشاركته مع السياح عبر تحويله إلى "فندق" صغير شبيه بما يعرف بـ"سرير وفطور". تضيف بسخرية بينما تنقل نظراتها الحالمة إلى تلك القصور "ألم أقل كلنا متساوون!"

"الأحياء الناجون"

* أمام فندق حكومي، تصطف سيارات أجرة صفراء اللون، صينية الصنع، تعدّ حديثة نوعاً ما مقارنة بالسيارات الأميركية المنتشرة في الشوارع. في الطريق إلى وسط هافانا، يقول السائق، الذي يجيد الإنجليزية، وهو أمر نادر في كوبا، إن السيارة التي يعمل عليها ملك الحكومة، شأنها بذلك شأن بقية سيارات الأجرة الحدثية والحافلات السياحية. تُسلمها الحكومة للسائقين مقابل دفع مبلغ يصل إلى 1200 "كوك" (واحد كوك يساوي 0.87 دولار أميركي). يدفع الراكب مبلغا يراوح بين 10 و20 كوكاً.




يتبقى لخوليو، السائق الستيني، بعد أن يدفع مستحقات الحكومة مبلغ 300 كوك تقريباً. خوليو يعدّ من الطبقة "الغنية" في كوبا، شأنه بذلك شأن بقية العاملين في القطاع السياحي، كما يؤكد غالبية الكوبيين. لكن كيف ذلك؟ وكم يتقاضى الطبيب إذا؟  يتحوّل الرجل الستيني مع السؤال، من شخص هادئ يتحدث عن عمله كسائق وحكاياته اليومية مع السيّاح، إلى غاضب، لا يخشى أي عواقب لحديثه، يجيب: "كيف نعيش؟ نحن نأكل من لحمنا. ابني محام كالديناصور (في محاولة منه للتعبير عن شباب وقوة بدن ابنه)، يتقاضى 20 كوكاً في الشهر، أعطيه المال كل يوم سبت، كي يخرج مع صديقته إلى ناد ليلي. شبابنا تسرح في الشوارع وتضطر للسرقة. انظري إلى تلك الفتاة (يشير إلى امرأتين، تقفان إلى جانب طريق ضيق في وسط هافانا القديمة)، هي بائعة هوى. درست الحقوق مع ابني في الجامعة، هي اليوم تبيع الحب ليلة لعابر سبيل، لتحصّل قوتها وقوت ابنتها جوليا الجميلة". 

جاءت تلك الواقعة بعد أيام من الرحلة إلى الجزيرة الكوبية. تبدّد معها سحر الحلم الوردي؛ اعتادت العين على رؤية الأشجار العتيقة المترامية الأغصان، التي تُخفي بين أوراقها وجوه الثوار وحكاياتهم وأحلامهم من أجل الفقراء والمساواة؛ قصص جيني وخوليو وأنا وخوسيه عرّتها. لم يعد لملامح وجه غيفارا، الذي رسم على الجدران، أي وقع. لم يعد أكثر من صورة تباع للسياح، داخل الفنادق، أو في الساحات. ولم يعد أكثر من تمثال في وسط سانتا كلارا، لالتقاط الصورة إلى جانبه، مع رفع شارة النصر. 

كوبا وحلمها الوردي انقلبا كابوساً. الكوبيون يرقدون على بركان آيل للانفجار، يقول أحدهم. هناك من يصرخ عمداً في وجه غريب كي يروي له كيف يعيشون. وهناك من يشير إلى الكاميرا كي تلتقط ما أُخفي عن أعين الغرباء. وهناك عجوز، حمل فيديل مرة على أكتافه حين انتصرت الثورة، صار اليوم ينتظر الأميركي كي يأتيه بالتغيير. "نحن الأحياء الناجون"، هكذا يصف هارولد حياتهم.

بحسب ما يتفق غالبية الكوبيين، فإن الحدّ الأدنى للأجور يبلغ 10 كوك، والأقصى 50 كوكاً، قد يتقضاه الطبيب. والدة جيني، استاذة جامعية برتبة "بروفيسور"، تخلت عن عملها في التعليم الجامعي منذ فترة، كي تعمل في مجال مستحضرات التجميل والتدليك. تتقاضى من عملها هذا 60 كوكاً، وهو مبلغ أفضل من 30 كوكاً التي كانت تحصل عليها كاستاذة جامعية.

أنّا ترافق الأجانب في جولات إلى الأماكن السياحية، وتتقاضى على الجولة الواحدة، 50 كوكاً؛ مبلغ يعادل راتبها الشهري كممرضة في إحدى المستشفيات الحكومية، وكمعالجة فيزيائية. أرييل، ينهي قريباً دراسته الجامعية، يرتقب أن يحصل بعدها على وظيفة مدرّس، على أن يتقاضى مبلغا لا يتجاوز 20 كوكاً.

راوول، عامل في مصنع للسيجار، يجلس إلى جانب عشرات العمال لتحضيره يدوياً. يصفّ على طاولته السيجار بشكل هرمي. يدخل السياح تباعاً إلى المعمل للاطلاع على كيفية تحضيره يدوياً، يفصل بين الزوار والعمال حاجز خشبي، التصوير ممنوع هنا بأمر الحكومة.

راوول يعمل لعشر ساعات يومياً، ويتقاضى 10 كوك شهرياً، أي ما يقارب ثمن السيجار الواحد، الذي أعدّه في غضون دقيقتين أمام الزائرين.

.. يتبع

دلالات