* تترجّل ماريا من سيارتها الـ"بيجو" الفرنسية، لتسأل العامل في المحطة إن كان لديهم "وقود حكومي". تقول إنّه يمكنها أن تملأ خزان الوقود لسيارتها بأقل من نصف السعر إن نجحت في شراء الوقود الحكومي بدلاً من ذلك المتوفر لعامة الناس.
ماريا حصلت على سيارتها بعدما زوّدها عملها (هيئة دبلوماسية) ضمانات للشركة الفرنسية، التي تملك فرعاً في الجزيرة، وأنزلت أخيراً إلى السوق دفعة جديدة من سياراتها. عادة تحصل على تلك السيارات الحكومة لاستثمارها في القطاع السياحي، أو العاملون معها، أو المستثمرون الأجانب المقيمون هنا، أو الهيئات الدبلوماسية وموظفوها.
سوق سوداء
لكن ماذا تعني بالوقود الحكومي؟ تجيب ماريا أنّ العاملين مع الحكومة يحصلون على حزمة وقود مجانية كل شهر، ويقوم سائقو هؤلاء المسؤولين أو العاملين معهم، ببيع ما يفيض عن استهلاكهم بالسوق السوداء بأسعار أقل من سعر السوق.
يقول أحد المستثمرين العاملين في الجزيرة، إنّ السوق السوداء تعدّ سوقاً رديفة لا يستهان بها، تنشط بعلم السلطات التي تغض النظر عنها، بل تشجع أحياناً على توسيعها، كوسيلة للتنفيس عن الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي الذي يحيا في ظله الكوبي.
في معظم المحلات التجارية، تُلحظ ندرة السلع. لكن المصدر نفسه يشرح أنّ السلع ليست نادرة، وهي متوفرة نسبياً، غير أنّ المحتكرين يقومون بشرائها مع بداية الأسبوع الأول من الشهر، فور طرحها من قبل الحكومة بالأسواق (تُطرح بأسعار زهيدة في المتاجر الحكومية)، ثم يعودون لبيعها بأسعار مرتفعة في المحلات التجارية الموجهة لغير الكوبيين، وهذا هو سبب ارتفاع سعر هذه السلع في تلك المحلات، على حدّ قوله.
تجارة الجنس
حيث تنشط السياحة، تصبح تجارة الجنس أمراً تلقائياً. في كوبا، هذا القطاع غير شرعي، لكن ذلك لا يعني أنّه غير منتشر. قد يصعب على زائرة للمرة الأولى سبر أغوار هذه التجارة، لكن أرييل، عند حديثه عن معيشة الكوبيين، يخلص إلى القول إن الفتاة بكوبا قد تضطر لبيع جسدها بغرض تأمين قوتها. أليخاندرو يردّد الخلاصة نفسها. وتلك الفتاة الجامعية التي أشار إليها سائق سيارة الأجرة حين استشاط غضباً عند حديثه عن أحوالهم المعيشية، تؤكّد انتشار هذه التجارة بوفرة.
أحد المستثمرين الأجانب في كوبا، يروي أيضاً قصصاً صادفته مذ جاء إلى الجزيرة قبل خمسة أعوام، عن عروض متنوعة تقدّم للزوار الباحثين عن ملذاتهم. الكوبي خوسيه يؤكّد أنّ تجارة الجنس غير قانونية في كوبا، بل هي أحد الأمور الأساسية التي عمل نظام الثورة على القضاء عليها، بعدما كانت كوبا جزيرة "الدعارة والقمار"، كما يقول. وفيما كانت تجارة الجنس قبل الثورة منظمة وقانونية، يديرها الأميركيون وأعوانهم الكوبيون، فإنّها تتم اليوم بشكل فردي، ونتيجة العوز والفقر.
ما ظهر للزائر خلال الرحلة الكوبية، لم يكن إلا السطح؛ فتلك المشاهد جاءت من العاصمة هافانا وضواحيها، أي من الواجهة التي تلمّعها كوبا للزوار.
نحو الولوج بالعولمة
لم تكن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة إلى الجزيرة الكوبية، سوى حلقة من حلقات الانفتاح الذي بدأه الرئيس الحالي راوول كاسترو منذ سنوات. التغييرات تسير ببطء، ربما تفادياً للصدمة، لكن الولوج بالعوملة آت لا محالة؛ لم يعد بإمكان الجزيرة أن تحيا خارج الزمن والمنظومة العالمية، خصوصاً أن تجربتها لم تكن تقدّم بديلاً ناجحاً عمّا قارعته بالدم والنار عقوداً.
يضع أحد الدبلوماسيين العرب في هافانا جدولاً زمنياً للتغيير في كوبا. يرى أن التجربة الكوبية فشلت، ولم توفر عيشاً كريماً لشعبها وتكفل حريته. ويرجّح أن تتغيّر الأحوال في كوبا في غضون ثلاثة أعوام، مشيراً إلى وجود خطط للانفتاح الاقتصادي.
المشروع الأبرز الذي يجسد هذا الانفتاح يتمثل في مرفأ مارييل، الذي يبعد حوالي 30 ميلاً عن العاصمة هافانا. بدأ العمل بالمشروع منذ أكثر من عامين. ويتم إعداده ليكون منطقة حرّة، ترسو فيها السفن المحمّلة بالبضائع. على أن تُنشأ فيها مصانع ومشاريع استثمارية أجنبية حرّة لا تخضع للضرائب.
ولمنطقة مارييل خصوصية تاريخية وسياسية وجغرافية؛ فهو المرفأ الأقرب إلى الولايات المتحدة، وكان رجل العصابات الأميركي لوكي لوشيانو يخطط كي يبني عليه كازينو قبل أن تقطع مشاريعه ثورة 1959، بحسب ما يشير صحافي "ذا غارديان" جوناثان رايتس، أثناء رحلة له إلى المرفأ في يناير/كانون الثاني 2014.
وفي مارييل، رست السفن الروسية لتفريغ حاملات الرؤوس النووية، التي نُصبت في كوبا، في ما عُرف إبان الحرب الباردة بأزمة الصواريخ الكوبية، والتي كادت تودي إلى حرب نووية بين العملاقين الأميركي والسوفييتي. ومن مارييل، غادر أكثر من 120 ألف كوبي نحو الشمال الأميركي، بعدما سمحت لهم سلطات هافانا بذلك، وهو ما شكل صدمة للأخيرة، وكشف عن امتعاض شعبي واسع.
بعيداً عن مارييل، معظم الاستثمارات والمرافق والمصانع في كوبا، ملك للحكومة (أكثر من 80 في المائة منها)، وهناك بعض الاستثمارات المشتركة بين الحكومة وشريك أجنبي (الإسبان يعدّون المستثمر الأكبر بحكم الاستعمار السابق للجزيرة)، ولكن تُفرض على المستثمر شروط شراكة قاسية.
في هذا الشأن، يقول قنصل تجاري عربي، عمل فترة طويلة في دول أميركا اللاتينية، ويقيم حالياً بهافانا، إنّه في الاستثمارات المشتركة، تقدّم الحكومة للمستثمر الأرض والترخيص إضافة إلى اليد العاملة الكوبية الرخيصة (لا يتعدى الراتب الشهري لعامل الفندق الـ10 كوك، أي ما يعادل 8.7 دولارات أميركية)، في المقابل يتحمل المستثمر بقية التكاليف، وتكون النسبة الأكبر من ملكية المشروع وأرباحه في النهاية، للحكومة.
ورغم المشروع الحرّ في مارييل، فإنّه غير كاف لإغراء الاستثمارات الأجنبية. يقول أحد الدبلوماسيين العرب المطلعين عن كثب على التطورات الاقتصادية الأخيرة في كوبا، إنّ المستثمر يحتاج أولاً إلى أن يشعر بالأمان، عبر تنظيمات وقوانين، وهو أمر غير متوفر حالياً في البلاد. لكنه لا يُخفي وجود نهم للرأسمال الخليجي. يشير بهذا الإطار إلى رأس المال القطري، الذي يرغب بالاستثمار، خصوصاً في القطاع السياحي والبنى التحتية، التي تفتقر إليها البلاد.
يقول إنه مع الانفتاح التدريجي، سيزداد عدد السياح تلقائياً (تستقبل البلاد في الشهر ما بين 300 إلى 400 ألف سائح)، وسط عجز المرافق الحالية، سواء شبكة الفنادق والمطاعم أو المطارات، عن استيعاب هذه الأعداد، ما يضطر الحكومة بالنهاية إلى بناء المشاريع والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية.
وإذا كان الانفتاح الاقتصادي للجزيرة يسير وفق خطط بدأت الحكومة بتطبيقها بالفعل، فإنّ المصير السياسي يبقى معلقاً وغامضاً. تبقى كوبا أحجية، ستكون السنوات القليلة المقبلة كفيلة بحلّ ألغازها وسبر أغوارها، خصوصاً أنّ حاكمها عجوز، وزعيمها طريح الفراش بسبب العجز والمرض.
ولا يُستبعد أن تكون للأميركي خطط بديلة، لانتشال حديقته الخلفية عندما تقع، شأنها بذلك شأن الدول الحليفة، حيث لا توجد آلية انتقال واضحة وسلسة للسلطة.