كوكب فيديل [4/9].. نِعمُ الحصار

هافانا
شهيرة سلوم
شهيرة سلوم
صحافية لبنانية، مديرة موقع "العربي الجديد". حاصلة على إجازة في العلوم السياسية والإدارية وماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية، تعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 18 عامًا.
18 مايو 2016
6391C140-F855-44E3-AFC1-7E7E0005C1CE
+ الخط -
أخرج الحصار الأميركي الجزيرة من الزمن. يقول دبلوماسي عربي "حين أتيت لكوبا أوّل مرة، شعرت للوهلة الأولى أنني خارج الزمن. عدت إلى ستينات القرن الماضي". هذا الشعور يختلج أي زائر إلى كوبا للمرّة الأولى، ولعلّه يبدأ مذ لحظة الحصول على تأشيرة، من داخل سفارة تقع في منطقة هولبورن، وسط لندن.

مكتب السفارة يقع في مبنى وسط منطقة تجارية مزدحمة، بينما تستحضر أشياؤه وموظفوه وإجراءاته الإدارية مشهداً من فيلم بالأبيض والأسود. صورة فيديل بزيّه العسكري مرفوعة على الجدار. موظفة أربعينية تضع النظارات وترتدي سترة كحلية، تجلس على مكتب وراء حاجز زجاجي، تشير إلى الزائر كي يملأ ورقة بخط اليد (هي طلب التأشيرة)، وأن يكون حاملاً ثمن التأشيرة نقداً، لأنّ الدفع بالبطاقة غير مقبول. من هنا، يبدأ سحر العودة بالزمن. 

المباني في الجزيرة قديمة، لا عمران جديد، بل ترميم. بعض ألوانها فاقعة؛ زهري وأصفر وأخضر. تبعث شعوراً ربيعياً بالتفاؤل والحياة. 

السيارات الأميركية القديمة تغزو الشوارع، "فورد" وشيفروليه، وكاديلاك وبويك، رغم وجود السيارات الحديثة، لكن أعدادها ضئيلة مقارنة بتلك القديمة. يقول سائق سيارة أجرة من نوع "شيفروليه"، إنّ السيارة الأميركية الأخيرة التي دخلت البلاد كانت في العام 1959، تاريخ الثورة. الكوبيون اعتنوا بتلك السيارات، ولا تزال تسير بشكل جيد. البعض أعاد ترتيب شكلها الخارجي، وأضفى عليها ألواناً ربيعية ليغري السيّاح بركوبها. وطبعاً حرص على الاعتناء بمظهره، فارتدى قبعة قش وبنطال جينز وحزاماً وقميصاً فضاضاً.






مع العلم أن في كوبا، وأميركا اللاتينية إجمالاً، يتمثل الزيّ الرسمي بقميص فضفاض وبنطال من القماش القطني المتين؛ ولهذا يرتدي المسؤولون قمصاناً أثناء لقاءاتهم الرسمية، وليس تلك السترة المترافقة مع ربطة عنق.

جميع وسائل الرفاهية المتاحة غير متوفرة في كوبا. لن يلتقط الزائر جهاز التحكّم عن بُعد كي يُشغّل جهازاً موسيقياً، ويحتار في كمّ الألحان التي تحويها أقراص إلكترونية، كي تعدّل تقلّب المزاج. لكن سينفرد وسط لوحة طبيعية، على إيقاع أنغام يمتزج فيها حفيف أوراق الشجر ودقات مسامير معدنية نُصبت في غصن شجرة "الكوكونات"، تتحرّك على إيقاع نسيم يعلو ويهبط، مع تغريدات طيور تحمل مقامات صوتية مختلفة.

 الكمبيوتر غير متاح، واستخدامه محصور بفئات معينة. الإنترنت أيضاً غير متوفر، باسثتناء الفنادق العامة (جميعها ملك الحكومة). منذ نحو شهرين، خصصت بعض الساحات العامة لالتقاط إشارة "وي في"، كما يلفظ الكوبيون إشارة الـwifi. 

القنوات التلفزيونية أيضاً غير متاحة، باستثناء تلك المحلية الموجّهة. نتيجة القيود المفروضة على وسائل الاتصال الحديثة، يصعب التواصل مع العالم الخارجي، أو إدراك ومتابعة ما يجري من أحداث. لكن أيضاً لن ينتهك حرمة بيتك ضيف تلفزيوني ثقيل دون استئذان، ولن يجالسك صديق فضولي بالعالم الافتراضي عند منتصف الليل. ولن تُنتهك حرية الحركة، التي كرّسها لك "العالم الحرّ"، من خلال استباحة أماكن تواجدك، أو حرية وخصوصية اتصالاتك في الخاصيات المتوفرة في وسائل الاتصال الحديثة. 

ناهيك عن ذلك، فإنّ الحرمان الذي عاشه الكوبي خلال سنوات الحصار، من سلع أساسية وأدوات حديثه، دفعه إلى تحويل ما تقع عليه يداه إلى إبداع وقطع فنية تشهدها في الساحات والأسواق وداخل المنازل؛ هذه حال هارولد الذي حوّل خرضوات قديمة رماها كوبيون، إلى طاولات وكراس ومجسمات فنية زيّنت حديقة منزله الخلفية. وهو حال المنتوجات المعروضة للسيّاح وسط هافانا، وهي عبارة عن علب معدنية للمشروبات الغازية حُوّلت إلى مجسمات للسيارات القديمة الموجودة في الجزيرة، أو إلى هيئة آلة تصوير. 

كلّنا ملك الحكومة

في "كوكب كاسترو"، كلّ شيء ملك الحكومة، الأرض والسماء وما بينهما، حتى أرييل نفسه ملك الحكومة، يقول الشاب الكوبي معلّقاً على الملكية العامة لكلّ شيء. على الرغم من أن الحكومة قررت في السنوات الثماني الأخيرة، الانفتاح على القطاع الخاص، وسمحت بممارسة بعض النشاطات المرتبطة بالسياحة. 

يقول صاحب منزل حوّله إلى فندق لاستضافة السياح، إن الفنادق الكبيرة ملك الحكومة بشكل أساسي، وكذلك الأمر بالنسبة للأراضي والمزروعات والمصانع والمعامل. لا تتعدّى منتجات كوبا السلع الغذائية والكحولية، الرام تحديداً، إضافة إلى السيجار. لكن هناك بعض الاستثمارات المشتركة، بين الحكومة والقطاع الخاص، بشروط قاسية.

السياحة تدرّ أموالاً طائلة على  كوبا، وقد عوّضت التراجع في إنتاج السكر، بعدما كانت من أكثر الدول المنتجة لقصب السكر في القرن الماضي. تستقبل كوبا ما بين 300 إلى 400 ألف سائح شهرياً، يأتون إليها من أوروبا وكندا، ومن الدول اللاتينية القريبة كالمكسيك وفنزويلا، ومن الصين واليابان كذلك. البلد غني أيضاً بمعدن النيكل، واكتُشفت فيه أخيراً حقول من النفط.

الانتماء للوطن يأسر الجميع هنا. سيليا ترتدي زيّاً تقليدياً، وتضع على خاصرتها سلّة لحمل الخضار والفاكهة، تتجوّل في شوارع هافانا القديمة، كي يلتقط السائح الصورة معها مقابل كوك واحد. سيليا تشرح "عليك أن تدفع لبلدي. أعمل هنا بترخيص من الحكومة. أدفع شهريا 50 كوك للحكومة، والباقي أنفقه على إطعام عائلتي".

غيتار وموهيتو.. وهمنغواي

ليست سيليا وحدها من تتنقل بين السيّاح. في الشوارع الواسعة والضيقة وسط هافانا، يتراقص الكوبيون على إيقاع "تشاتشا تشا" و"الرومبا"، ويلهون بالأزياء الملونة والتنكرية؛ يعزفون الألحان الكوبية القديمة على آلة الغيتار، ويردّدون أغاني "غواتيمالا" و"شان شان" و"كومانتدانتي غيفارا"، ويستحضرون "بوينا فيستا سوشيال كلوب"، النادي الذي اشتهر بالأغاني والموسيقى الكوبية ـ الأفريقية (أفرو كيوبان) والرقص على أنغامها، وأغلق في أربعينات القرن الماضي. تُقدّم النوادي الليلية في هافانا عروضاً متواصلة لهذه الموسيقى، يؤدّيها، غناءً ورقصاً، طاعنون في السنّ.

في المنطقة نفسها أيضاً، يوجد النادي الذي اعتاد الكاتب الأميركي أرنست همنغواي على ارتياده: "فلوريديتا"، مقصد لكلّ زائر أوروبي وأميركي. المبنى الزهري يعجّ بالسيّاح، وتمتزج داخله أصوات الموسيقى مع قرع الكؤوس، فيما يقف همنغواي تمثالاً معدنياً عند مدخل بابه، وتعلو حيطانه صور الكاتب إلى جانب فيديل كاسترو.



ليس "فلوريديتا" وحده، ما كان خليّة لهمنغواي كي يبسط حكاياته، ويُسقط خياله لقصّ "العجوز والبحر"، الرواية التي حصّلت له جائزة نوبل للآداب (عام 1954). بل يقع على بعد شارعين، نادي "لا بوديغيتا"، حيث اعتاد همنغواي أن يتناول مشروب "دايكيري".

يردّد الكوبيون مقولة شهيرة له مع هذين الناديين: "موهيتو في لابوديغيتا، ودايكيري في فلوريديتا".

My mojito in La Bodeguita, my daiquiri in El Floridita.


في كوبا، التي أحبّها همنغواي وغادرها منتحراً، هناك منزل للكاتب في فينسا فيجيا، قضى فيه معظم حياته، تحوّل إلى متحف لعرض أوراقه وأقلامه وكتبه والآلة الكاتبة الخاصة به، وصوره وحاجاته.

للكاتب منزل آخر في فلوريدا الأميركية القريبة، قطنه في ريعان شبابه، حوّله الأميركيون أيضاً لمتحف، نجحوا أخيراً في نقل بعض محتويات منزله في كوبا إليه.

يقف عاشق للسيجار الكوبي على شرفته التي تطل على لوحة خلابة من طبيعة كوبا، يصفها بأنّها الجنّة، ثم ينظر إلى أسفل الشرفة، حيث بركة السباحة، ويقول: "عليّ أن أنتظر أشهراً بعد حتى أكمل تعبيد الأرضية بالبلاط في جوار المسبح، ريثما أجلب بقية المواد اللازمة من الخارج".

 يتبع…

دلالات

ذات صلة

الصورة
تحطم طائرة في كوبا ADALBERTO ROQUE/AFP/Getty Images

أخبار


ذكر التلفزيون الرسمي الكوبي أن "أكثر من مئة شخص لقوا حتفهم إثر تحطم طائرة ركاب من نوع بوينج 737 في كوبا اليوم الجمعة". وقال الرئيس الكوبي إن "هناك ثلاثة ناجين من الحادث من بين 110 من الركاب وأفراد الطاقم".
الصورة
كوبا/سياسة/18/4/2018

سياسة

بعد 62 عاماً على تلاحم 82 رجلاً لإسقاط نظام فولخنسيو باتيستا بكوبا، يقف الرجل الأخير من بين الثوار لتسليم الراية إلى خلفٍ جديد. اليوم الخميس تستيقظ كوبا من دون راوول كاسترو رئيساً، في ظلّ بدء عهد ميغيل دياز ـ كانيل.
الصورة
إعصار إيرما/ فلوريدا/ Getty

أخبار

تستعد العاصمة الكوبية هافانا للفيضانات خلال الساعات القادمة، بعدما اقتلع الإعصار إيرما الأشجار ودمر أسقف المنازل، اليوم السبت، في وقت ضربت رياح قوية سلسلة جزر فلوريدا كيز.
الصورة
رماد كاسترو يزور ضريح تشي (ADALBERTO ROQUE/AFP)

منوعات

بعد يومين من التكريم في ساحة الثورة في هافانا، ينقل رماد كاسترو، الذي وُضع في صندوق صنع من خشب شجر الأرز ولُف بعلم كوبا، وحُفظ في علبة من زجاج لحمايته، في الاتجاه المعاكس لرحلته عند انتصار الثورة عام 1959.
المساهمون