إذا كانت الجزيرة الكوبية خارج المكان والزمان بسبب انقطاعها مع العالم الخارجي، فإنّها تنافس أكثر الدول تطوراً في أنظمة التفتيش والرقابة. أمر يمكن ملاحظته فور هبوط الطائرة في مطار خوسيه مارتي الرئيسي الضيّق والقديم؛ نظام التفتيش للمغادرين أيضاً يتقاطع مع ذلك الأوروبي، سواء للمسافرين أنفسهم أو للأمتعة، ما يجعل منك مسافراً "آمناً" عندما تهبط بمطار عاصمة كموسكو مثلاً.
عند الانتقال إلى مبنى المطار، تقف في خط انتظار طويل لأكثر من ساعة، بعد سفر لما يقارب العشرين ساعة؛ لا يهم، الحماسة البادية على وجوه السيّاح والحكايات التي سمعوها وما ينفكّون يقصّونها عن سحر الجزيرة، تجعل الانتظار مسليّاً.
سيّاح أوروبيون وأميركيون ويابانيون وصينيون؛ تنشّط سمعك المضغوط بالارتفاعات الجوّية كي تلتقط كلمة عربية وتستدرج ألفة ما، فيعود إليك خائباً. يبدو أنّ المسافة الطويلة قلّصت من حماسة السيّاح العرب، ومنهم الخليجيون، لزيارة الجزيرة الأميركية.
ألينا من جمهورية التشيك، تحمل ورقة وقلماً وتدوّن أسماء الأماكن التي ينصح بزيارتها فريديريك الكوبي، الذي يعمل في الصين.
يأتي الدور لألينا كي تمرّ على موظفة أمن الحدود. غالبية الموظفين من الجنس اللطيف، لكن طبيعة عملهن، أبعدت عنهن اللطافة، رغم التنانير القصيرة اللاتي يرتدينها، فبدون أشبه بزميلهن العابس. موظفو الأمن يرتدون زيّاً عسكرياً بنيّاً، لكن هناك آخرين يتجوّلون بين خطوط الوافدين بزيّ مدني.
تتقدّم ألينا نحو الموظفة، وتدفع إليها جواز سفرها وتأشيرتها. تقف منتصبة لتلتقط لها الكاميرا بصمة العين. تستعيد جوازها وتدخل كوبا. يا لحظها. دقائق ويأتي الدور لكاتبة السطور. يطلب "العابس" التقدّم. يدقق بالجواز، ويطلب الانتصاب أمام الكاميرا. الأمور تسير على ما يرام. لكن فجأة يكرّر الاسم ويقول "لبنان". ويطلب العودة إلى خط الانتظار ويحتفظ بوثيقة السفر ويبدأ اتصالاته. الأمور حتى اللحظة طبيعية، فجواز السفر اللبناني لا يستدعي اليُسر.
الجميع يتقدّم ويدخل الجزيرة بيُسر، لكن الانتظار يطول. بعد ساعة يبدأ الاحتجاج. تتقدّم فتاة بزيّ مدني وتطلب الاستراحة على مقعد في الرواق.
على المقعد، يجلس أيضاً رجلان سوريان. انفرجت الأسارير. أيعقل لأننا عرب؟ يجيب أحدهما، وهو استاذ جامعي "على الأرجح نعم. أتيت إلى كوبا سائحاً، والسفير السوري ينتظرني بالخارج، وقلت لهم ذلك، وما زلت انتظر منذ أكثر من ساعة". يأتي بعدها بساعة تالية، موظف كوبي بزيّ مدني حاملاً الجواز، ويبدأ التحقيق. يدوّن كل المعلومات الموجودة على وثيقة السفر، الاسم والرقم وتاريخ ومكان الولادة واسم الأب والأم والزوج، والتأشيرات الموجودة وأرقامها وتاريخها ومدتها. الرجل لا يتقن الإنجليزية، ولا يكاد يجيد التواصل. أشير إليه إلى الإقامة البريطانية، من المؤكّد ستساعد، عندها تتبدّل ملامحه ويُظهر تسامحاً. فيدوّن كل تفاصيل الإقامة؛ مدتها ورقمها حتى إنّه يدوّن تاريخ الدخول والخروج في كل ختم أمني. ثم يعود للسؤال عن العمل ومكان السكن في المملكة المتحدة، والدخل السنوي، والبطاقات الائتمانية.
ينتقل لسبب زيارة كوبا ومدة ومكان الإقامة وتاريخ العودة. بعد تحقيق لأكثر من ساعة ونصف الساعة، يعيد الجواز ويرافق الزائرة إلى الخارج، ويطلب سيارة أجرة لإيصالها إلى الفندق المذكور. أسأل عن سبب التحقيق، وهل أنّ السبب جوازي السفر السوري أو اللبناني؟ فيجيب "نعم، وأيضاً لحاملي جوازات سفر أفغانستان والعراق" والشرق الأوسط إجمالاً. وهل زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما (كانت مرتقبة بعد أيام) سبب في التدقيق؟ فيجيب نعم، الجزيرة تخشى هجمات محتملة.
أتحايل عليه للتملّص منه، بحجة تبديل العملة، فيشير إلى صف انتظار أمام مكتب للصيرفة. أدخل الصف وأحاول الغرق بين الجموع كي يصرف النظر عني، انتظر لساعة ليأتي الدور، ولم يأت بعد. فجأة يأتي سائح مكسيكي يعرض على المنتظرين تبديل العملة بسعر أقل من مكتب الصيرفة، لأنه يغادر الجزيرة، والعملة الكوبية التي بحوزته غير معترف بها في المكسيك. عندها يتجمع حوله السيّاح. أسبقهم إليه، أبدّل ما تيسر معي، وأهرب.
بعد أيام، تبين أنّ السلطات رحلت أردنياً كان في زيارة سياحية لمدة شهر إلى الجزيرة. قيس شاب مولع بالثورة الكوبية، وجلّ ما يريده كان أن يقصد جزيرة العجوز فيديل "الشيوعية" مع كتاب "دون كيخوته" ليبتعد عن الأرقام والحسابات التي يغرق بها بحكم عمله.
بعد مشقة سفر طويلة، تم التحقيق معه لساعات، ثم ترحيله عبر إسبانيا، كما أتى. وهناك سُجن ليوم، لأنّه لا يملك تأشيرة دخول، وكان عليه انتظار موعد الطائرة المقبلة للعودة إلى عمّان. وما أن وصل عمّان، حتى تلقفه عناصر من المخابرات الأردنية، للتحقيق معه حول سبب توقيفه في إسبانيا، وقبلها ترحيله من كوبا "قل الحقيقة، ماذا فعلت للكوبيين كي يرحّلوك"؟ وضع الشاب المزري، بعد يومين متواصلين من السفر، دفع المحققين إلى صرف النظر عنه والسماح له بالمغادرة.
عند سؤال دبلوماسيين عرب في هافانا عن سبب هذه الإجراءات الأمنية المشدّدة، كانت واحدة من الإجابات مرتبطة بزيارة أوباما، وثانية مرتبطة بأزمة اللاجئين؛ يقول أحدهم: "الكوبيون لا يريدون أن تكون بلادهم ممرّاً للاجئين إلى الولايات المتحدة. ميامي لا تبعد أكثر من 80 ميلاً بحرياً عنهم". جاءت هذه الإجابة خلال حديث عابر مع دبلوماسي سوري. كان يتحدث عن اللاجئين وكأنها أزمة غريبة عن نظامه، ويمدح بالإجراءات الكوبية التي تحصّن أمن الجارة الشمالية!