عن اللاحقيقة.. أورويل الذي رأى فاشيات أوروبية جديدة

04 ديسمبر 2022
أورويل مع اقتباسات من "1984" في جدارية بساوث وولد، جنوب شرق بريطانيا (Getty)
+ الخط -

وجودي في دولة ديمقراطية متقدّمة مثل بلجيكا، أراحني من بعض أشباح الماضي، ومنها الرقابة العسكرية الصارمة، التي كانت تُمارس على كتّاب الوطن المحتلّ، طوال عقود.

لكنّ اندلاع الحرب على أرض أوكرانيا، بين روسيا وأميركا، وبدفعٍ من الأخيرة، جعل بعض تلك الأشباح تعود، ومنها شبح شمولية الإعلام الغربي الآن، في وقوفه الصارخ والدعائي ضد روسيا، بلداً وحكومةً وشعباً. وكأنه يعمل، بالفعل، على تعليمات شيخ واحد، هو "الأخ الأكبر"، في "وزارة اللاحقيقة"!

ثمّة إجماع شمولي، يُنذر بفاشيّات جديدة، ستولد عمّا قريب في الغرب، ليس فقط في ذلك الإعلام، بل بين سواد الناس هنا، على شيطنة روسيا كبلد وحضارة وثقافة. وهو أمرٌ أراه للمرّة الأولى، منذ بلغتُ هذه الأراضي، قبل نحو أربع سنوات.

لقد تيسّر لي وقرأت تحفة جورج أورويل المرعبة، "1984"، في بغداد، أيّام حصار العراق، بأقصى القسوة، لتركيع المنطقة. اشتريته ضمن مجموعة كتب من شارع المتنبي الشهير، وكان دليلي الصديق النبيل، الشاعر سهيل نجم.

ثمّة إجماعٌ شمولي يُنذر بفاشيّات جديدة ستُولد في الغرب

قرأت الكتاب، بورقه المصفرّ، وإخراجه الفنّي المتواضع، في "فندق المنصور ميليا"، على شاطئ نهر دجلة، الدفّاق آنذاك.

قرأته فوراً، ما إن وصلت إلى غرفتي بالفندق، لأنني طالما سمعت عنه، ولم أعثر عليه، رغم البحث، في القدس وحيفا، وباقي بلادي المحتلة ــ التي كان مثقّفوها وأدباؤها يقعون حينذاك تحت طائلة الرقابة اللامتناهية لجهاز حكم عسكري فاشي، يحاسبهم على الكلمة، التي ترد في مقال، قصيدة أو قصّة قصيرة، بأجلى وأبشع معاني الكلمة.

ولقد أحسست حينها، رغم جوّ الفندق المنكسر في ذكريات بقايا ترفِه، أنني أعيش جوّ الرواية بالحواسّ الخمس، وليس فقط عن طريق القراءة والخيال.

واليوم، في أواخر العام 2022، ها تعودني ذكرى قراءة تلك النبوءة الديستوبية، هنا في إقليم فلاندر، الأكثر ثراء واستقراراً وتقدّماً وطمأنينة في طول وعرض البلاد.

لقد كتب أورويل تحفته الخيالية في جزيرة غورا في اسكتلندا، في منزل كان يقترضه من صديقه ديفيد أستور، الصحافي في "ذا أوبزيرفر".

كان يدخّن كثيراً أثناء قيامه بالعمل، رغم تهالك وضعه الصحي، بسبب التهاب الشعب الهوائية، الذي تحول في النهاية إلى مرض السلّ.

وكان احتفظ أيضًا بمسدّس في متناول اليد، أثناء الكتابة، لأنه كان مقتنعًا بأن عضوًا ما في "الحزب الشيوعي" الإنكليزي، قد يظهر هناك، ليقتله!

قاتَل أورويل خلال الحرب الأهلية الإسبانية مع الماركسيين

وكما يعرف المهتمون، فإن أحداث الرواية تدور في لندن، لكنّ غالب مَن قرأها لا يعرف أن بذورها زُرعت في شوارع برشلونة، خلال الحرب الأهلية الإسبانية (17 تمّوز/ يوليو 1936 ــ 1 نيسان/ إبريل 1939). وأن تلك الحرب كانت القوة الدافعة وراء إنشاء الكتاب.

كان أورويل قد وصل إلى كتالونيا، مع عشرات من كبار الفنّانين، من كل حقول الفنّ، مليئًا، مثلهم، بالتفاؤل الثوري، وبحلم إنقاذ إسبانيا من قبضة جنرال لن يُبقي على أية فكرة مضيئة، ولن يذر.

ولكن بعد مرور عدّة شهور، وقد أدخلته يدُ الحرب في التجربة (حدثَ هذا بالتحديد على جبهة أراغون)، رأى أورويل جوّ الرعب الذي عاشه في برشلونة في أيار/ مايو 1937، وهو ما نقله لاحقًا في أجواء الرواية.

لقد حدثت اللحظة الحاسمة (والقاسمة) عندما ثار الشيوعيون، باتباع أوامر من "كرملين" ستالين، ضدّ جميع حلفائهم الأناركيين السابقين.

تبعتْ ذلك خمسةُ أيام من العار ومنتهى العنف، ممّا أسفر عن مقتل ألف مناضل جمهوري.

شهد أورويل تلك الأحداث بشكل مباشر، لأنه قاتل في صفوف "حزب العمال الماركسي الموحّد" (مجموعة شيوعية إسبانية مناهضة لستالين).

في تلك الأوقات العصيبة، كان الشكّ يُلقي بظلاله على كلّ تحيّة بسيطة تجري بين عامة الخلق، حتى بين الجيران والمعارف، في الشوارع والأزقة والبيوت.

كان أورويل يتابع الأحداث، بقلب مذهول، ويعلم عن اضطهاد وقتل رفاقه، أوّلًا بأوّل.

لقد فهم أيضًا أن حياته وحياة زوجته، إيلين أوشوغانسي (التي كانت معه في المدينة)، معرّضتان لخطر الاغتيال. 
وفي الأخير، وبتدبير من الرفاق، فرّ الزوجان من برشلونة، عبر جبال البرانس، يرافقهما الحظُّ الكبير، بعد اختباء في مبنى أعرفه، ما يزال إلى اليوم قائماً هناك، في آخر شارع الرمبلا ــ لكن وظيفته اختلفت.

وهكذا، بمعجزة، نجيا من القمع، لكنّهما أبداً ما نسياه.

لقد اشتعل الفتيل بالضبط في 3 أيار/ مايو، عندما استولى حرّاس الاعتداء، الذين أرسلهم الشيوعيون، على مبنى تليفونيكا الذي يسيطر عليه الأناركيون.

وهناك، على مقربة، كان يقع فندق كونتينينتال ــ وهو مركز للمقاتلين والصحافيين والمحتالين والجواسيس ــ في شارع الرمبلا القريب.

في ذلك الفندق، استمع أورويل إلى "تقرير" من عميل للشرطة السرّية التابعة لستالين (ملقّب بـ تشارلي تشان)، يفيد بأن اندلاع العنف نتج عن انقلاب أناركي ضدّ الجمهورية، في محاولة لمساعدة قوات الديكتاتور!

كتب الرجل في كتابه "تحيّة إلى كتالونيا": "كانت هذه هي المرّة الأولى التي أرى فيها شخصًا مهنته هي الكذبُ الصراح". 

ولاحظ الكاتب دوريان لينسكي، أحد أبرز من كتبوا عن أورويل، أنّ "التوتّرات بين المجموعات السياسية المختلفة لم تفاجئ أورويل، لكنّ الكذب المحسوب فعلَ ذلك".

كانت إحدى تلك الأكاذيب أن الشيوعيين تمكنوا من "تفكيك" شبكة من الخوَنة الأناركيين، الذين يتواصلون ــ عبر محطّات إذاعة سرية ورسائل مكتوبة بالحبر غير المرئي ــ مع الفاشيين، بشأن اغتيال قادة جمهوريين.

وكان مناخ برشلونة مرعبًا خلال هذا التطهير الشيوعي: الرفاق يوغلون في دم الرفاق، والحلمُ الشيوعي نفسه، بالتحرّر من نُذُر دكتاتورية اليمين القادمة، وإعلان الجمهورية، يتحوّل إلى رماد.

لقد كانت برشلونة مكانًا خلق فيه جنونُ العظمة والافتراء والشائعات بين الرفاق الأفرقاء، جوًّا سامًا، لدرجة أنه حتى أولئك الذين لم يشاركوا في المؤامرات، اعتبروا أنفسهم متآمرين!

نُشرت الرواية للمرة الأولى عام 1949. حتى يومنا هذا (لم يتغيّر العالم كثيرًا كما كنّا نظن)، يظلّ كتاب جورج أورويل، "1984"، مرجعاً نلجأ إليه عندما يتمّ تشويه الحقيقة، وتشويه اللغة، وإساءة استخدام القوّة. ولهذا السبب فإن الكتاب صالحٌ في أيّ وقت، وبالخصوص في الغرب الآن، حيث لا قيمة سوى للدعاية ومهنة تصنيع وتخليق الأكاذيب، في دهاليز المنصّات والشبكات، وعلى ألسنة قادة تلك الدول، من بايدن حتى أصغر تابع له في الغرب الأوروبي، والشرق!


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون