بقايا إنسان

07 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنان الفلسطيني بشار الحروب
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الكاتب يصف تجربته الشخصية بعد نجاته من مجزرة، حيث فقد جزءاً من عائلته ويبحث عن معنى لحياته وسط الدمار.
- بعد ستة أشهر، يلتقي بشخص آخر في مقهى حزين، حيث يتبادلان الأحاديث عن مآسيهم الشخصية، ويعبر عن قلقه من استمرار الحرب.
- رغم الألم، يعبر الكاتب عن حبه للحياة ويصف كيف أن الحرب جعلته مشرداً، متنقلاً بين المدن بحثاً عن الأمان والسلام لأسرته.

في الحرب لا فرق بين الموت والحياة سوى أنّ هناك أُناساً قد نجوا من الموت، وهناك آخرون يحاولون النجاة من الحياة المأساوية. أن تكون قد نجوت من مجزرة وبينك وبين الموت مسافة صفرية لتخرج إلى حياة الحرب مجدداً، ستتحول إلى بقايا إنسان. في الحقيقة، النجاة من الحياة هي الأقرب إلى النجاة من الموت رغم التناقض الكبير بينهما.

لقد مضت ستة أشهر على نجاتي من مجزرةٍ مروّعة أصبت فيها وفقدت جزءاً من عائلتي، كنت أبحثُ خلالها عن بقايا إنسان في شوارع المدن الحزينة، بحثتُ وسط دمار المنازل وفي الطرقات، سألتُ أكوام الحجارة عن بقايا إنسان، وسألت الهواء عن الذين فقدتهم ولم أجد الإجابات، لقد سألتُ نفسي وسألت الله كثيراً حتى علمت بأنّ هناك إجاباتٍ مؤجلة علينا أن ننتظر الحصول عليها، وربما لن نحصل عليها أبداً، كان عليّ أن أصمت لفترة أطول للحصول على بعض الإجابات.

مضى على الحرب نصف عام حين سرتُ مسرعاً، في أحد أيامها، أحملُ حقيبتي بيدي مرتدياً معطفي الأسود الطويل وحذائي البنيّ، كان يوماً جميلاً من أيام الشتاء، لديّ موعد مهم كنت أنتظره... أخيراً التقيتُ مع بقايا إنسان.

في الحقيقة، النجاة من الحياة هي الأقرب إلى النجاة من الموت رغم التناقض الكبير بينهما

في المقهى الحزين جلسنا معاً، أحضر الجرسون قهوتنا، عينها كانت تلمع، طاولة المقهى بيننا وحصلتُ على نصف سيجارتها، ابتلعت ما تبقّى من الريق، كنت أتمنى لو لم تنته سيجارتها، لقد تبادلنا الأحاديث وتشاركنا السيجارة باهظة الثمن، لقد اختلط الحزن بالفرح وبدأنا نبحث معاً عن بقايا إنسان.

الجميع فقد جزءاً كبيراً من آدميته، حياة الحرب قاسيةٌ جداً ولكننا قد لممنا أجزاءً من كائناتٍ بشرية، وجلسنا على طاولة المقهى البائس، الجميع في المقهى تحدثوا عن مأساة أصابتهم، روّاد مقهى الحرب لم يجتمعوا مصادفةً لسماع الموسيقى أو من أجل أحاديث الثقافة، العشاق جاؤوا من أجل لملمة ما تبقى من إنسانيتهم، والمواعيد غالباً ما تحكمها الصدفة، لم تكن في المقهى رواية رومانسية يناقشها المثقفون، ولم تكن ورود حمراء أو شعر وشعراء، فقط كان أُناس قد نجوا من الموت، ويأملون النجاة من الحياة.

لم ألتق بأصدقائي منذ أشهر ولم يكن لدي عنوان سوى الشارع، حتى اخترتُ المقهى الحزين عنواناً لي، جلسنا وتحدثنا ثم غادرنا. لقد رحلتُ من المقهى الآن، تاركاً خلفي ذكرى وبقايا إنسان... ثم رحلنا جميعاً من المدينة الحزينة. يا إلهي، جاء موعد الحرب من جديد، وغادر الروّاد المقهى وشوارع المدينة التي أصبحت خاوية وحزينة. لقد افترقنا منذ شهرٍ تقريباً، وأصبحت وحيداً، كنتُ قلقاً لأني متأكد من أن الحرب لن تتوقف، وستعود نارها لتشتعل كما اشتعلت سيجارتنا في المقهى، ضجيج الدبابات مخيف وأصوات القذائف مرعب، حتى صوت الهواء وحركة الأشجار باتت مخيفة.

الحقيقة تخرج عادةً في النهايات، الجميع يصمت عن قولها في البدايات حتى لو كانت إعلان حب

وداعاً يا جميلتي. لقد تركتُ الذكرى خلفنا، ونسيت الموعد الجديد بيننا، لقد نسيتُ أنكِ خرجتِ من البلاد وأن الموعد الجديد لم نحدده بعد، المقهى الآن فارغ، الجيش طلب من سكان المدينة الإخلاء الفوري، وتحوّلت المدينة إلى مدينة أشباح، لقد نزحتُ للمرة الخامسة، الظروف قاسية وبالكاد أستطيع تذكر المواعيد والأسماء والأرقام، علينا أن نخرج بسرعة قبل وصول الدبابات.

عليّ البدء برحلة خامسة للبحث عن المكان الآمن والطعام والماء لأُسرتي، علينا تأسيس خيمةٍ جديدة، ما زلتُ مشرّداً مع أُسرتي بفعل الحرب، ولم أُكمل علاجي بعد الإصابة، حتى اليوم مضت ثمانية أشهر منذ إندلاع الحرب في قطاع غزّة، أتذكّر المأساة، وفراق طفلتيّ، وأفراد من عائلتي، فضلاً عمّن غادروا البلاد هرباً من جحيم الحرب...

حقاً أنا أحببتُ حياتي بعد أن خسرتها، وأحببت أصدقائي الذين غادروا بحثاً عن النجاة أيضاً، وقلبي يعتصر ألماً على فراق أطفالي.

لا تصدقوا ذلك الكاتب الذي يجلس على الأريكة ليكتب مذكراته أو قصة مع من أحب من النساء، هذا ليس حقيقياً، لا يمكن أن تتعامل مع كل النساء الجميلات بمبدأ الحب وعن أي حب في زمن الحرب، الجميع يبحث عن النجاة الآن...

نعم الحب يكون صادقاً عندما نحب الحياة...

حقاً الكاتب قد يكون أكثر صدقاً عندما يجوب شوارع المدن الحزينة، قد يتحوّل إلى فيلسوف إذا نام على قارعة الطريق، ربما تُعذب الأقلام حاملها... الكاتب لديه جانب مخفي من حياة الحقيقة، غالباً أصحاب القلم خرجت أقلامهم من قلب مأساة.

في الحقيقه كنت أود أن أُكمل نصاً جميلاً، أحياناً قد تُصبح الكلمات سيفاً مسلطاً على رقبة صاحبها.

ذات يوم سأقول الحقيقة وأدفع ثمنها عندما أكون مستعداً، الحقيقة تخرج عادةً في النهايات، الجميع يصمت عن قولها في البدايات حتى لو كانت إعلان حب...

لقد أخطأ أولئك الذين اختزلوا الحب في امرأة جميلة يلاحقها أخرق ظناً منه أن الحب يتعلق بالنساء فقط، حقاً يجب أن نحب الحياة وفقط الحياة، فالحياة أحب إلينا جميعاً من الجميلات، وحين نحبها سنجد الجميلات حولنا بأشكال مختلفة. هذا لا يمنع أن تحب امرأة قد تكون نصفك الآخر أو زوجتك وأمك وغيرها من النساء، الحب ليس عيباً وليس نقصاً، يقول المتدينون في أي دينٍ يؤمنون به، إنهم يحبون "الله" والعكس، هذا يكفي للاقتناع بأن الحب شامل ويبدأ من حب الإنسان لنفسه ليتسع إلى حب الحياة الأعم والأشمل.

ربما يبدو غريباً أن أختار في نصوصي المكتوبة حبّ الحياة من زوايا مختلفة، حقاً رؤيتك للموت سوف تجعلك محباً للحياة رغم الألم، أنت سترى التناقض الحقيقي في مكونات الكون وسترى حجم التناقض في داخل الإنسان نفسه، ستحاول البحث عن بقايا إنسان. ربما تتأخر كلماتي قليلاً فأنا مشرد بفعل الحرب، حقاً الحياة أصبحت بائسة وقد اكتشفت مؤخراً أن الحياة القاسية تصنع الكارهين للحب، إنه لأمر محزن، إنه التناقض، البحث عن النجاة باستمرار أمر متعب للعقل والجسد والقلب.

للأسف عقلي مشوش وكلماتي بالكاد أستطيع جمعها، العقل والجسد منهكان للغاية وقلبي مهشّم. منذ قليل، حصلت ُعلى هاتفي بعد إتمام شحن البطارية، عليّ أن أمضي إلى المكان الجديد لنصب خيمتي في نزوحي الخامس من مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، إلى دير البلح، وسط القطاع، وقبلها من شمالي القطاع إلى جنوبيه، وهكذا عدنا للوسط وتحديداً بالقرب من ساحل قطاع غزّة.


* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون