برلمان القراطيس في نظام الفناكيش

16 أكتوبر 2015
+ الخط -
نظام "الفناكيش" ومشروعاته الوهمية لا يمكن أن ينتج إلا برلمان "القراطيس"، وعلى الرغم من أننا من الفريق الذي يؤكد أن برلمان انقلاب العسكر لا يمكن، بأية حال، أن يملك شرعية، فإن غصب السلطة المنتخبة، وقطع الطريق على مسار ديمقراطي، من الكبائر السياسية التي لا يمكن الحديث معها عن أية شرعية. صحيح أنه، بما يمتلك من قوة باطشة ومحاولة فرض أمر واقع لتمكين سلطانه، ولا بأس عنده من أن يحاول إضفاء "شرعنة" على نظام انقلابه من كل طريق، بالتبرير أو بالتزوير أو بالتمرير. وقلنا من قبل إن محاولات الشرعنة الزائفة غير مسالك اكتساب الشرعية الحقيقية، وسلطانها القائم على الرضا. ولكن، من بعض أفعال تلك المنظومة أن تحاول صناعة صورة من الرضا الكاذب والاستقرار الزائف من جرّاء ممارسات استبدادية وقمعية وفاشية، وذلك كله في إطارالتمكين لعقلية القطيع عن طريق سياسات التخويف والترويع، ودخول بيت الطاعة الانقلابي والترويع.
إنها قصة المستبدين الماضية ومسرحياتهم العبثية والهزلية في التلاعب، والتعاطي بمسألة الشرعية، فيموه عليها ويطمس معالمها، ويقوم بكل عمل لإخفاء جريمته ودفن فعلته، ووأد أية مقاومة تفضح أصل سلطانه وغصبه وقبيح مواقفه وسياسته. هؤلاء المستبدون يحملون، في جعبتهم، كل صنوف الكذب والتزوير والتبرير، يقلبون المعاني، ويقلبون وظائف المؤسسات والمباني، لتكون أدوات ظلمهم وطغيانهم. أقسى من ذلك وأشد أنهم يحاولون أن يتجهوا إلى الخارج، لاكتساب شرعية، وما هي كذلك، في إطار سلوك طريق يقوم على التبعية والانبطاح.
ومن هنا، يجب رؤية القصة الانقلابية من جذور ذاكرتها، ومن قبح عملها وفساد أمرها، فهي تحرك كل مكامن الاستخفاف بشعبها ومقام إرادته. ولا بأس من أن تتحدث في فائض خطابها وكلامها عن روح الشعب، وهي تزهقها، وإرادة الشعب، وهى تتلاعب بها، وربما تقتلها في ميادين الاحتجاج والتظاهر وحرية التعبير. في قاعدتهم الفرعونية "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". ولكن، هذه الرؤية التي لا يجب أن تنطلي على أصحاب الوعي والبصر والبصيرة، وجب عليهم فضح هذه السياسات المقيتة وأفعالها القبيحة، فادعاء الرشاد ومحاولة تمريره من الأمور التي يجب أن يكشف المستور فيها، وأن يفضح عمل الظلم والفساد والطغيان منها، "وما أمر فرعون برشيد".
إنها قصة الشرعنة الكاذبة الزائفة، حينما تزهق خمسة استحقاقات استفتائية وانتخابية بعمل انقلابي فاجر، ارتكب من عصابة جنرالات من قطاع الطريق على الديمقراطية وأصول الحرية، وتنتهك كل ما يتعلق بالحقوق الإنسانية. ثم تتكلم العصابة نفسها عن شروعها في عمل ديمقراطي، والقيام بعمل ما تسميها استحقاقات انتخابية، فكيف بالله عليكم يمكن للص والسارق والغاصب وقاطع الطريق أن يقوم، فضلاً عن أن يؤتمن، على مسار ديمقراطي قطع الطريق عليه متربصاً مترصداً، أو انتخابات يمكن أن تمت إلى ظل حقيقتها، إلا أن تكون مزورة مفبركة، مصنوعة على عين سلطة الاستبداد، وفي ظل تواطؤ دولي، يقر ذلك كله تحت بصره، ويتغافل عن أصل الانقلاب وغصبه، بل هو دافعه إليه، ومساندة في حال شرعنته الزائفة الكاذبة، طالما أدى ما عليه بانبطاحه، وحقق مصالحه الدنيئة بغير حساب، وسلك الطريق الذهبي نفسه، بالنسبة له في إرضاء الخصوم والأعداء، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني، جواز المرور لرضا الشرق والغرب، لا رضا الرب.
قصة الشرعنة الكاذبة تقوم بها وعليها منظومة الانقلاب، في تصورها الشعب بنظرة دونية دنيئة، فتصفه بالشعب "الجعان المتنيل بنيلة"، المتلاعبون به أسلوباً ثابتاً في التعامل معه، "يقوّمونه حينما يريدون، ويقعدونه كلما يريدون، ويحشدونه حين يرغبون"، ثم "يأخذون اللقطة"، لقطة الرضا الكاذب التي يزوّرونها ويبرّرونها، ثم "يلبسونه العمة" سخريةً به وضحكاً عليه، تعبيراً عن أن فعلتهم تلك خالت على الجميع، وأتت بأثرها في اللعب والتلاعب بالشعب. نادى انقلابيون، في مسار شرعنتهم الزائفة، على هذا الشعب، أكثر من مرة في صناعة دستور بالهوى، من خلال لجنة معينة سميت لجنة الخمسين، وقد قاموا بالأمس بالاعتراض على جمعية تأسيسية منتخبة، ونادوا على شعبٍ في استفتاء مزور قاطعه الشباب، ثم كانت الانتخابات الرئاسية الهزلية، والتي اتضح فيها موقف معظم هذا الشعب بوعي فطري، فلم ينزل، فنادوا عليه وصرخوا يدعونه، ومدّوا له أيام التصويت مداً، وما وجدوا إلا طريق التزوير، فهذا ما يجيدون.
دستور على الرغم من هزلية صناعته لم يطبق، ولن يطبق، وانتخابات هزلية رئاسية مكّنت
لمستبد جمع كل السلطات في يديه، حتى التشريع، وأصدر من القرارات والقوانين ما يفوق ما تصدره برلمانات مجتمعة. مشاهد أتت بدستور لا قيمة له، وانتخابات رئاسية هزلية أتت بالمنقلب نفسه بالنسب التسعينية المعهودة، ليقود مشهد الثورة المضادة والدولة العميقة بتحالفاتها، للدفاع عن مصالحهم الدنيئة بطغيان استبداد وسياسات فساد، في ظل هزلية الانتخابات وسياقات الانقلاب. عدنا إلى أخطر ما كنا عليه من ممارسات السياسة، فقد كنا نتحدث عن نظام "كأن"، للدلالة على أن المؤسسات لا تمثل إلا حالة ديكورية، من باب الزينة وسد الخانة، فإذا كان للدول برلمان، فليكن لدينا برلمان، ولكنه كأن "كده وكده يعني"، لا يقوم بوظائفه، أو بأيٍّ من أدواره المعهودة والمتعارف عليها، لكننا اليوم، وفي زمن الانقلاب، نتحدث عن برلمان الضد المحتمل، ليقوم بمقلوب وظائفه، فالمنقلب هو الذي يراقب البرلمان ولا يراقبه البرلمان، وهو لا يشرّع، بل يكتب ما يملى عليه، وسيكون المنقلب فيما أصدره من تشريعات أصدرها عمداً، وليس استثناءً في غيبة البرلمان. وعلى البرلمان أن يبصم عليها في "برلمان القراطيس".
لا لزوم للبرلمان، وكذا الدستور، فالحكومة التي شكلها المنقلب قبل أيام ستستمر بأمره. يا هذا، ألم تقرأ الدستور؟ دستور إيه؟ إنه دستور كتب بحسن النيات. مال العسكر والدساتير، إنهم فقط، وحينما يرغبون ويقررون ينقلبون عليها. أما الانتخابات فصورة وغطاء، يلغون منها الجوهر، ويقصون منها الحقيقة، ويبقون على المزوّر. وصف المسؤول القانوني في المجلس العسكري عملهم في التزوير "إنه على ودنه وعلى مية بيضة وما تقلقش من الناحية دي"، فالشعب لعبتهم، والبرلمان سيكون من صنعتهم، برلمان قال المنقلب يوماً كيف نذهب للبرلمان، كمؤسسة عسكرية ده أمر خطير جدا". وعلى الرغم من صناعتهم البرلمان على أعينهم، وإنه لا يمثل إلا قوى الثورة المضادة وتحالفاتها. ومع ذلك، إنه يخاف البرلمان، ولو صنع على يديه، وفي طاقة تحكمه تشكيلا وتكويناً. و"البرلمان المقرطس" مهمته الدستور الذي كتب بحسن النية، وتعديله بما يوافق هواه وأحلامه وأوامره على طريقة "أحلام سعادتك أوامر"، أو في تطوير مبتكر "أحلام بيادتك أوامر". إنها زفة تعديل الدستور، أولى مهام برلمان القراطيس.
ماذا يعني برلمان القراطيس بعد دستور المراويش ومشاريع الفناكيش وسياسات "مفيش" "معنديش"؟ البرلماني القرطاس هو المنافق المزايد في نفاقه للعسكر، في كل عمل يوافق من غير كلام، أو سلام، على عسكرة المجتمع ومساحاته، بل هو الذي يتمنى أن يعسكر الكافة، فالأطفال يجب أن يعيشوا حياة كالجيش، وسلوكاً كالعسكر. هكذا قال أكاديمي في الطب النفسي، فما بالك بالبرلماني القرطاس، الذي سيكون في خدمة العسكر وقياداتهم، وتمكين بيادتهم الذي سيكون من دعواهم عسكرة المجتمع، بعد عسكرة البرلمان، ومصادرة كل مشاهد الاجتماع المدني.
البرلماني القرطاس هو الذي سينام في البرلمان بالأمر، ويتكلم بالأمر، ويسكت بالأمر، ويحوّل إلى لجنة القيم بالأمر، ويصفق بالأمر ويهلل بالأمر، برلمان مصنوع مهدور، مجرور بكل أدوات الجر، منصوب عليه، ونصاب بكل أدوات النصب، مرفوع من الخدمة، كلما أراد صاحب الأمر. يفعل البرلماني القرطاس ذلك كله تحت شعار "تحيا مصر"، أو في حب مصر. إنه برلمان القراطيس في زمن الفناكيش، ليكمل منظومة المراويش والطراطير والصراصير واختراعات المداهيش من جهاز الكفتة. والقرطاس هو الوصف الجامع بين قرطاس بمزاجه "عشان الإخوان ما تشمتش"، وقرطاس على الرغم من أنفه، فالمهم، وفق الاختيارات المنضبطة من الأجهزة الأمنية وأجهزة المخابرات التي قامت بترشيح الداخلين إلى عتبات البرلمان، وبعد فرزهم، فمن توفرت فيه كل صفات "القرطسة" مرّ بسلام إلى برلمان العسكر والجنرالات.
يبشر أحدهم الناس بأن لجنة الأمن القومي في البرلمان المحتمل، برلمان القراطيس، ستكون من شخصيات عسكرية وأمنية سابقة. وبهذا، سينعدل ميزان البرلمان، وفي الحقيقة ينقلب الميزان ولا يعتدل. ولا بأس بدخول قراطيس مدنية منتقاة من المتعسكرين، ومن تفانوا في خدمة العسكر وبيادتهم.
ألا قبحاً لبرلمان قراطيس مناكيس، ستأتي الثورة عليهم جميعا من نخبة، وما هي كذلك، من قراطيس وطراطير وصراصير ومراويش وفناكيش.. هذا هو برلمانهم المحتمل.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".