مقولة "الغرب" ومسألة النهوض

14 يونيو 2024
+ الخط -

كانت النيّة معقودة على تتويج مقالات الكاتب عن النهضة باعتماد بعض المفاهيم الدالّة على النهوض والتغيير، إلا آنني وجدت أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أصدر ثلاثة كتب مهمّة عن الغرب وتعريفه من الناحية المعرفية والحضارية. "ما الغرب؟"، فيليب نيمو (ترجمة مراد دياني، 2023). و"فكرة الغرب: الثقافة والسياسة والتاريخ"، ألاستير بوينت (ترجمة أحمد مغربي، 2018). و"ماذا تبقى من الغرب"، ريجيس دوبريه ورينو جيرار (ترجمة مراد دياني، 2023). ورأيت من المناسب الإشارة إليها في دراسة لمفهوم النهضة في الغرب، باعتباره حضارة مهمّة وأساسية حملت نموذجا جاذبا في عمليات النهوض؛ وكانت محلّاً لاهتمام ومقارنة من عديد من المفكّرين من حضارتنا. ويظل إسهام هذا النموذج مسألةً في غاية الأهمية لكل مشاريع النهوض في حضارتنا، سواء الناتجة من المشروع والنابعة من تصوّراته؛ أو تلك التصوّرات؛ بطبيعة الحال؛ التابعة لهذا النموذج الحضاري الغربي الطاغي الذي توقفت مقالات سابقة عنده، في استعراضها سؤال النهضة ووقوفها على صياغاته ومآلاته.

من المهم التوقّف عند هذه المعالجات، فلربما يُماط اللثام عن الحضارة الغربية والموقف منها، خاصة في ما يتعلق بنموذجها النهضوي، وما يستبطنه من أفكار تأسيسية لهذه الحضارة وصعودها. وذلك التوقف حريٌّ بدراسة تشريحية في عالم مفاهيم أساسية تؤكّد على سؤال الغرب، الذي قد يعالجه مقالٌ لاحقا ضمن منظومة الأسئلة بشأن الغرب، مبناه ومعناه ومغزاه الحضاري. ما يهمّ هنا هو ذلك التشريح الذي يعيننا على التوقف عند مضمون هذه المفاهيم، وتأثيرها في بناء النهضة الأوروبية والغربية، وهو ما يفيد في ناحيتين: بناء (وتصور) مفهومنا في النهوض، والمفهوم الغربي في النهضة.

هل نحن أمام حضارة التجاوز بلا حساب والانفلات من دون ناظم، والتشظّي من دون جامع؟

من المهم في هذا المقام أن يُشار إلى معضلة الغرب مع تأكيد أن الغرب ليس كتلة مُصمتة واحدة وهو يشهد تنوعات أساسية ثقافية ومجتمعية. ويمكننا في الوقت نفسه التأكيد أن الغرب ضمن تصوراته الكلية يمثل تيّارا رئيسياً غالبا وتيارات أخرى تمثل تياراتٍ على تنوّعها، إلا أنها تمثل تيّارات هامشية. تكمن هذه المعضلة في ما يمكن أن تقع من مناقضة؛ إذ يريد الغرب المتحكّم والغالب أن ينطلق بهما معا، "الغرب الفريد المتفرّد" بذاته وتكوينه، بصفته وسماته، والغرب الهادف نحو تنميط نموذج هيمنة، في ما سماه في مرحلته المتأخّرة "العولمة"، فهو بين غوايات التفرّد ووعود العولمة. ولعلّ هذا يشير أيضاً إلى أن المبشّر بنهاية التاريخ هو الذي يخشى انفتاحه، ضمن حديثٍ عن أفول أو تدهور أو تداول أو استبدال، وغالبا ما يبشّر هؤلاء بالنهاية التي هي علامة ضعف لا قوة، على عكس محتوى رؤية فوكوياما "نهاية التاريخ".

غرب المصالح وأزماته هو الذي يجعل الحضارة الغربية على المحكّ، تنوير الغرب إنما يؤشّر على هؤلاء الذين صنعوا المصباح وقرّروا ترويجه وبيعه، فقاموا بعرض قصير يوافق الإعلان الغربي التنويري، ثم قالوا إننا لا نستطيع تركه لكم، ولكن إن أردتم، فلتشتروه واصطحبوا مصباحهم يروّجونه، فمن طلب التنوير لا بد له أن يدفع، فصار التنوير بضاعة تُباع وتشترى، فإن عطّل المصباح على الرغم من شرائه، فطلبوا من الغرب إصلاحَه فدفعوا، فبدا الأمر وكأنه سلعة إنتاج التنوير على حدّ علمهم وعملهم. ومن الناحية الأخرى، كان ثمن تنويرهم هو "الدفع المستمر" من المال لتمويل التنوير المستمرّ ضمن عمليات استهلاكٍ لا تنتهي، وكأننا أمام السلع التنويرية لا نستطيع إنتاجها، ولكن نستطيع استهلاكها، وربما مع شهوة اقتنائها صارت تؤسّس لعقلية تكديس كما أشار إلى ذلك مالك بن نبي الذي فرّق بين حضارة التكديس وحضارة الإنتاج وحضارة الاستهلاك وحضارة التجارة، فحقّ بذلك أن يتحوّل التنوير إلى فكرة وثن، العبودية لحقتها من خلال عبودية التنوير، وأصنامه التي ابتدعها في "الفكرة الوثن".

عملية الانهيار أو عدمه ليست هي المهمّة؛ بقدر ما نحن بحاجة إلى وجود عقل استراتيجي للأمة يكون قادراً على فهم اللحظة التاريخية التي تمرّ بها الحضارة الإنسانية

تنازعني الكتابات في "الغرب" وحول "الغرب" وعن "الغرب" و"للغرب" وكلها مثلت اتجاهات حول النظر إلى الغرب فكرةً ونموذجاً. ولعل ذلك يجعلنا في "غمار الغرب" نتعامل مع كمٍّ من الكتابات ينظر إلى الغرب (وهو ليس قليلا) بروح الأماني، ويتعامل معه كما تصوّره هو نفسه، وما وقر في مخياله، خصوصاً تلك الكتابات عن انهيار الغرب، أو أفوله، والتي غالبا مع سياقات حالة تمنّت أفول الغرب بعد غلبته وسطوته، إلا أن الأهم من التخلّص الرغبوي بالتفكير بالأماني من الغرب، هو التخلّص من إغراءاته وإغواءاته التي تتراكم والتخلّص من روح الانبهار والولع التي سكنت نفوساً كثيرة وعقولاً ليست قليلة. ومع هذا السكن، يأتي الموقف السليم والخيار الرشيد. وقد أورثت هذه الأحوال في التفكير وطرائقه، في جملتها، مواقف مَرضية لا مُرضية في هذا المقام، وبدت تعاملاتها كأنها خارج دائرة المنهج الصواب والاستقامة على الطريقة العلمية والمنهجية.

وأخيراً، دعنا نتساءل عن هذا الوضع الحضاري المأزوم: هل نحن أمام حضارة التجاوز بلا حساب والانفلات من دون ناظم، والتشظّي من دون جامع؟ إننا بحقّ أمام منظومة فكرية، يبدو أنها وصلت إلى غاية سقوفها، فاستغرقت في هدم ما بنته ضمن سياقات التجاوز بلا حدود. وهذا جعلهم في "عداد النموذج "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا"؛ فباتت الأحاديث والمسارات والاتجاهات والبوصلة والوجهة شديدة الاضطراب، بين نهايات صيغت ووجهة فتحت أبوابها بلا انضباط في سياقات الصراعات الفكرية والمعرفية، وبين ما بعديات اخترعت لتفيد عدم التحديد في سياقاتٍ تتدثّر بدعاوى الجديد المزعوم والنقد المهمّش المكتوم.

ليس الغرب كتلة مُصمتة واحدة وهو يشهد تنوعات أساسية ثقافية ومجتمعية

وغاية أمرهم أنهم نصبوا آلهة، ثم قرّروا في النهاية موتها المحتوم، فصدّرت طبعات لمفاهيم كثيرة يسبقها الموت "موت الفلسفة" و"موت الأيدولوجيا" و"موت الإله" و"موت الإنسان"، والأموات في جعبتهم الفكرية والمعرفية والحضارية حتى أن نبوءة روجيه غارودي، في كتابه المهم "حفّارو القبور"، صارت تشير إلى حضارة الموت في ثوب الحياة، وحضارة الحياة في ثوب الموت المحتمل والمنتظر ذلك كله ضمن حالة معرفية تسودها تعدّدية أقرب إلى فوضى الفكر وفوضى المعرفة وفوضى الفعل، ففقدت الحياة وجهتها وبوصلتها، حضارة تخرج من عقالها ومعقوليّتها، وتخسر كل يوم من رصيد معاييرها وإنسانيتها.

ورغم ذلك، من الأهمية بمكان أن يُشار إلى أساس استمرار هذه الحضارة وبقائها إلى حين، وهو امتلاكها جهازين خطيرين؛ التنبه والتكيّف. ولذلك كلما زاد الحديث عن انهيار حضارة الغرب، نجده لا يزال قادراً على معالجة ذلك من خلال التكيّف، وهو إن دلّ يدلّ على وجود مراكز رشد في هذه الحضارة تحاول، بشكل أو بآخر، أن تعطي لهذه الأفكار وزناً. لكنْ هناك إشكال في هذا الأمر، وهو ملتصقٌ بطبيعة مفهوم التكيّف وجوهره، فالتكيّف قد يحفظ عليك البقاء، ولكن هذا البقاء يصبح مسكوناً بالتآكل والتحلّل، خاصة وأن التكيّف لا يواجه الأسباب الحقيقية للمشكلة بوعي وسعي متكافئ معه، ولكنه يوفر لها قدرة على التعامل معها بشكل مؤقّت، ما يجعل المشكلات مستمرّة، وإن كان هناك قدرة باقية على التعامل معها، مثال ذلك مرض الإيدز، فمواجهته كانت من خلال التكيف معه والالتفاف عليه بأشكال كثيرة، ليس منها معالجة الظواهر التي سبّبته، فالانحرافات لا تزال كما هي، ولكن خيار التكيّف قد يوفر الأطر والأساليب التي قد تخفّف من بعض أخطاره وانتشاره، وتخترع طرق (وأساليب) التعامل الآني مع هذه الظاهرة، إلا أن هذا التعامل مع العرض لا أسباب المرض لا يقلّل من وجودها واستمرارها. إلا أن عملية الانهيار أو عدمه ليست هي المهمّة؛ بقدر ما نحن بحاجة إلى وجود عقل استراتيجي للأمة يكون قادراً على فهم اللحظة التاريخية التي تمرّ بها الحضارة الإنسانية، ويعمل على الاستفادة واستثمار هذه التطوّرات، ويستفيد من قصر نظر تلك الحضارة الغالبة الطاغية؛ ويبني ما يسعُه من بناء يكون قادراً على استثمار هذه اللحظة الفارقة في استنهاض الأمة وصناعة سياقٍ قادرٍ على استيعاب المتغيرات والاستفادة من التطوّرات على طريق التغيير والنهوض.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".