بين الغرب والشرق... مُقدّمات لسؤال الاستشراق

12 يوليو 2024

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

يستحضر الغرب الشرق بأشكال مختلفة، الناظم بينها، مع اختلافها، هو الخصومة في الحدّ الأدنى، أو المخالفة في الوجهة والعداوة في حدّها الأقصى، والاستراتيجيات القابعة في عقل الغرب الباطن والظاهر هي الحفاظ على مسارات التبعية وعلى حالات التجزئة، وتأكيد إضعاف الشرق وحراسة تخلّفه، فالشرق يحمل منافسة الصين وروسيا وتابعيها في حالة الاتحاد السوفييتي شرقاً، فسمّاها الكتلة الشرقية، وظلّ ردحاً من الزمن يُصنّف أوروبا أنّها شرق أوروبا وغربها، والشرقان الأوسط والأدنى اختراع أميركي غربي، احتفظ لنفسه بمهمّة تضييقه وتوسعته في مقاسه، وتجديده على قاعدة تَجدّد أهدافه ومراميه.

فكان الشرق الأوسط الكبير، والمُوسّع، والجديد، ضمن طبعات تُحرّك معاني إعادة تشكيل المنطقة، ومحاولات الفكّ والتركيب، ضمن رؤية كولونيالية مُستقرّة ومُستمرّة حتّى بعد نهاية تلك الحقبة، ولو شكلاً أو اسماً، وصارت أُمَّتنا في الحقيقة بين مشارقَ ومغاربَ، ولكنّ الحضارة الغربية ظلّت متمسّكةً بأنّ الغربَ غربٌ والشرقَ شرقٌ، ولا بأس لديها أن يتحوّل الشرق غرباً ضمن عمليات "تغريب" و"غربنة"، مسخاً وتبعية. إنّها محاولة تغريب العالم، كما أشار إلى ذلك سيرغ لاتوش، ضمن رؤية الغرب للعالم منظوراً إليه وناظراً. ظلّت المسألة ضمن تمايز "الشرق والغرب" (The West and The East)؛ التي تحوّلت بعد ذلك بفعل المركزية الغربية "The West and The Rest".

لقد استخدم الغرب مصطلح الضفّة الشرقية ليعني الثقافات والشعوب والبلدان، والسجاد الآسيوي والبضائع القادمة من الشرق. "المشرقية؛ Oriental" تعني عموماً "الشرقية؛ Eastern". إنّها تسمية تقليدية (خاصةً عند الكتابة بالأحرف الكبيرة) لأيّ شيء ينتمي إلى الشرق أو "شرق العالم"، وخاصّة ثقافته الشرقية. على سبيل المثال تحظر ولاية واشنطن كلمة مَشرِقِي "Oriental" في التشريعات والوثائق الحكومية، مُفضّلة كلمة آسيوي "Asian" بدلاً من ذلك. غالباً ما يُستخدَم مصطلح الشرقي لوصف المواضيع والأشياء التي تأتي من المَشرِق. ومع ذلك، وبالنظر إلى دلالاته في المركزية الأوروبية، وفي التعريف المُتغيّر وغير الدقيق عبر العصور لهذا المصطلح، فقد يُعتبَر وصفاً مُسيئاً للناس القادمين من شرق آسيا في علم التأريخ الأوروبي. لقد تغيّر معنى "المَشرِق" في نطاقه مرّات عدّة. المصطلح المقابل "Occident" أي "المغرب"، وهو مُشتقّ من الكلمة اللاتينية "Occidens"، وتعني الغروب (حيث تغرب الشمس)، ولكن هذا المصطلح أُهمل باللغة الإنكليزية وحلّ محلّه مصطلح "العالم الغربي" أو "Western World".

ظلّت الحضارة الغربية متمسّكةً بأنّ الغربَ غربٌ والشرقَ شرقٌ، ولا بأس لديها أن يتحوّل الشرق غرباً ضمن عمليات "تغريب" و"غربنة"، مسخاً وتبعية

الطيّب تيزيني على حقّ: "كان ذلك على أيدي مجموعات من علماء الشرق (المستشرقين). لكنّ هؤلاء قدّموا جهودهم أو بعضها مع تطور المجتمعات الغربية، التي تبلورت فيها فكرة الاستشراق، واتضح لاحقاً أنّ هذه الفكرة الاستشراقية نشأت في قلب مجتمعات غربية اقتربت من منظومة الاستشراق، ما راح ينتج وهم الاستشراق القائم على أنّ الطبيعة والمجتمع في العالم العربي يرتبطان معاً على أساس أنّه لا يكفي أن يكون المجتمع العربي أو الشرقي طعاماً سائغاً لذوي المصالح الغربية، وإنّما يقتضي الأمر أن تتم عملية تشابك مصلحية لمصلحة الغرب الاستشراقي، الذي وصل إلى مرحلة التهام (الآخر) اقتصادياً وثقافياً" (صحيفة الاتحاد: 4/3/2019). أصبح انقسام الغرب - الشرق هذا جزءاً مقبولاً من النظرية السياسية الغربية.

ربّما كان في التاريخ خبرٌ وعِبَرٌ، وتجاربُ وآياتٌ، وشواهد وبراهين، تُثبت مثل هذه الحقائق أو تُعمّق من دلالاتها، فالتاريخ وما يحمله من نماذج تاريخية معمل تجارب. إنّ الفكرة الرئيسية التي يمكن أن نلتمسها من عِبرَة التاريخ ونماذجه الواضحة تتمثّل في أنّ الاحتكاك الإسلامي (الشرق) بالغرب كانت له سمات ودلالات مُهمّة أنموذجية تنبع من الطابع اللازم والملازم لأصول هذَين الطرفَين الحضاريَّين؛ تنبع من المُركَّب الأصيل المُحفّز لبناء كلّ منهما ابتداءً، والمُوجّه لتطوّر كلّ منهما ولمساره انتهاءً، والمُؤثّر في تفاعلات هذَين الكيانَين عبر تاريخ العلاقة بينهما، وعلى امتداده زماناً ومكاناً؛ هذه السمات والدلالات يمكن استخلاصها من المرور في مراحل أو حالات ثلاث سابقة، مثّلت لحظات فارقة مُعبّرة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة.

"الحالة الأندلسية" حالة عجيبة، برزت فيها إرهاصات ظهور "الدولة - القومية" في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلفٍ هو "ملوك الطوائف"

الحالة الأولى، ويمكن تسميتها "الحالة الأندلسية"، وهي حالة عجيبة، إذ برزت فيها إرهاصات ظهور "الدولة - القومية" في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلفٍ هو "ملوك الطوائف" أو "طوائف الملوك". تلك الدويلات التي كرّست حالة التشرذم كاشفةً عن القابلية الأساسية لتحقّق الاستئصال، الذي تمّ بعد ذلك للوجود الإسلامي في الأندلس، وما تبعه من وحشيات تنصير إجباري ومحاكم تفتيش. لقد قَدِم المسلمون إلى هذه البقاع ومعهم مشروع فكري (فكرة)، فاستطال وجودهم إلى أن ذبلت الفكرة، ثمّ جاءهم الغرب بفكرته قويّةً، فكان لا بد أن يَستأصِل الشأفة؛ هكذا كان دخول المسلمين شبه جزيرة أيبيريا، وهكذا كان دخول الغرب بعدهم أو حلوله في مكانهم.

الحالة الثانية، يمكن تسميتها "الحالة الصليبية"، وهي اللحظة الثانية الكُبرى للاحتكاك بالغرب، كان التنازع فيها في جوهره، على خلاف ظاهره، فكرياً رمزياً؛ تنازعاً على رمز "بيت المقدس". في هذه الحالة أيضاً، كانت دويلات "شرقنا" الإسلامي تمثّل تكراراً لنموذج طوائف "غربنا" الأندلسي، وكانت طبائع هذه "الدول - القومية" تفرز ذات ميولها وقابليّاتها للتشرذم والانفصال. لكن، مع تميّز قد يبدو ضئيل القيمة، هو الاعتراف الاسمي والرمزي بمظلّة الأمّة والخلافة. هو الذي ولّد سراعاً خمائر مقاومة وتجميع، فكان "النوريون" و"صلاح الدين" و"الأيوبيون"، ممّا أحدث حالة من المدّ والجزر، لم تزل تتدافع فيها قابليات الوَهْن المُفرِّقة مع خمائر عزّة مُجمِّعة، فيستردّ المسلمون بيت المقدس (صلاح الدين وأخوه العادل)، ثم تُؤخذ منهم بصورة عجيبة زمن الكامل أبي بكر بن العادل، إلى أن يجتمع العدوّان، من الشرق المغول، ومن الغرب الصليبيون. وتستمرّ القابليّات تعالجهما وتدافعهما.

الحالة الثالثة، "الحالة العثمانية"، التي شهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا – القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب في صورة الاستعمار والكولونيالية، والاحتلال، والحلول، وتنفيذ المشروع الاستلابي بين يَديِّ الآخر وعلى عينه. لقد طرح الغرب مشروعه واضحاً إبّان هذه المرحلة متمثّلاً في "المسألة الشرقية"، وفي "عبء الرجل الأبيض"، وفي "مسألة الرجل المريض"، فكيف واجهنا هذا المشروع؟... إنّ الثورة العربية الكُبرى لم تكن تمثّل إلّا الغفلة العربية الكُبرى، التي أفرزت قواعد "الشرق الأوسط" الفسيفسائي وأُسسه، ونقل الصراعات الأوروبية الأوروبية إلى تقسيم "مناطق نفوذ" في أرض العالم العربي والإسلامي، قَضَم منها الاستعمار ما قَضَم، وتنافس المتنافسون في الحصول على أكبر نصيب.

"الحالة الصليبية" هي اللحظة الثانية الكُبرى للاحتكاك بالغرب، كان التنازع فيها في جوهره فكرياً، تنازعاً على رمز "بيت المقدس"

الحالة الرابعة، وهي الراهنة؛ "الشرق الأوسط، من رحلة المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير". هذه المرحلة هي خُلاصة ما سبقها. إنّ الحالات السابقة كلّها إنّما قامت على مشروع فكّ وإعادة تركيب للمنظومة، ومن ثمّ، لم تكن لتمضي قُدماً من دون قابليات لهذا الفكّ ولإعادة التركيب، فكان لا بدّ أن تستقبلها قابليات الدولة - القومية، أيّاً كانت صورتها؛ ملوك طوائف (طوائفية)، دويلات مستقلّة (شعوبية)، ولايات مستقلّة (دولة محمّد علي وخلفائه، الباشوات، البايات، الدايات، وانفراط أوصال حياة الرجل المريض)، أو دول تُدعى مُستقلّةً حالياً (قُطرية).

ضمن هذا التداخل بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والحضارة والمعايير والقيم، بدا مفهوم الشرق يشير إلى أكثر من دائرة تعيد تشكيل التصوّر الغربي؛ الشرق مفهوماً حضارياً وثقافياً يُميّز بين الشرق والغرب، بين عالم الشمال وعوالم الجنوب، كلّ ما عدا حضارة الغرب القابعة في الشمال شرق أو جنوب، وبات في الوقت ذاته مسكوناً بالخصومة والعداء؛ الشرق الأوسط مفهوم جغرافي استراتيجي غامض وغائم؛ المستعمرات الشرقية التي كانت حجر زاوية في حقبة كولونيالية طويلة كوّنت ما يُسمّى الكشوف الجغرافية تزويراً للجغرافيا وللتاريخ؛ المسألة الشرقية التي حُمِلَت مع ضعف الدولة العثمانية وإمبراطوريتها، حينما وصفتها أوروبا بالرجل المريض. في ظلّ تلك المُقدّمات يمكن طرح سؤال الاستشراق ضمن تلك السياقات؛ وارتباطه بسؤال الغرب وسؤال النهوض.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".