النهضة الغربية وأخواتها

31 مايو 2024

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

في البداية، لا بدّ من التأكيد، وبلا مواربة، أنّ الحضارة الغربية الغالبة لم تخض معارك وثورات في امتداد تاريخها ومحاولاتها للتحرّر والهيمنة معاً؛ التحرّر داخل الحضارة الغربية ذاتها، والهيمنة على خارجها بكلّ ما أُوتيت من قوة، مثل تلك الثورات التي ألهمت الغرب بعضاً من شعاراته؛ الثورة الفرنسية، والثورتين الإنكليزية والأميركية. الأمر المُهمّ الذي يراد هنا لفت الانتباه إليه أنّ تلك الحضارة شهدت ثورات أخرى غير التي ارتبطت بجغرافيات أو قوميات. يمكننا، على الأقلّ، أن نرصد أربع ثورات لا يمكن لأحد إنكار وجودها أو أن يتغافل عما أحدثته من آثار. الأولى، الثورة الصناعية وما ترتّب عليها من حركة ونشاط تجاريَين واقتصاديَين. الثانية، الثورة التكنولوجية في سياقات تطوّر الآلة تطوراً كبيراً وواسعاً. والثالثة، الثورة الاتصالية، التي أوجدت عالما اقتربت فيه أطرافه، حتَّى لو تناءت أو ابتعدت المسافات. والرابعة، والأخيرة، الثورة المعلوماتية والمعرفية، التي تطوّرت حتَّى اتخذت من المعطيات الرقمية مجالاً تبشّر فيه بما سمّته "الذكاء الاصطناعي". إلا أنّ تلك الثورات المُتجدّدة، التي اصطنعتها الأيديولوجية الرأسمالية وتمويلها، ظلّت مسكونة باستراتيجيات صناعة التبعية، وسياسات الهيمنة ومسالك السيطرة.

في ظلّ هذه المعطيات، من المُهمّ تقدير "سؤال النهضة"، وتنوّعاته، وصياغاته المختلفة، التي وقعت بين التحديد النابع والتعريف التابع، وهو ما جعل السؤال محاصراً ومحصوراً. أمّا أنّه محاصَر، فبين أفقين؛ أفق الانحطاط الراهن، وأفق التقدّم التابع. أمّا أنّه محصور؛ فبجعله محدّد الوجهة والاتجاه. ومن ثمّ، امتد هذا السؤال ليعالج أموراً عدّة، منها: سؤال العلاقة بالغرب، وسؤال الحداثة والتحديث و"الحدثنة"، إن صحت تلك الترجمة، وسؤال التخلّف والتقدم، وسؤال الهُويّة والعلاقة بالغير، وسؤال المعاصرة. وافتراضنا الأساس، حينما بدت لنا الضرورة المنهجية في سؤال النهضة، أن يُطرح نقيّاً محايداً لتكون الإجابات التي تخرج من رحمه نابعة من تحديد موقفٍ واعٍ من مسألتي المرجعية والهوية. أمّا السؤال، بتنوّعاته، فقد اقترن، منذ البداية، بحديث وخطابات مفعمة بالتحيزات، مسكونة بالإجابات والاستجابات، التي وضعت زاوية النظر ضمن زاوية واحدة ومُحدّدة، وهو أمر، لعمري! قد يُحدّد للمهام النهضوية مستوى واحداً في التفكير والتغيير يشكل الغرب فيه البوصلة والقبلة. وبدت نقلة نوعية بأسئلة مُلحقة، مثل: ما الغرب؟ وما هو الشرق؟ وما هو السبيل؟ وبدت الإجابات تُمهّد لحالة استقطاب جديدة ضمن عقلية سجالية تفضي إلى "اغتيال العقل"، كما وصفها برهان غليون؛ النهضة ما جاء به الأولون؛ النهضة ما جاء به الغرب والغربيون. قد أؤكّد أنّني لست من هؤلاء الذين يتحفّظون على من يقومون بمنهاجية المقارنة بين أحوال وخبرات في شتَّى أنحاء الدنيا وأحوال العالم، ولكن يجب أن تجرى هذه المقارنات وفق الأصول المرعية للمقارنة، التي لا تُؤدّي إلى مزيد من أخطاء في الحكم والتقدير، أو توحي بأمور دافعة إلى تحيّزات، أو تسمح بالآراء المُسبقة وليست الدراسة العليلة في سياقات علمية تتوسّل منهاجية المقارنة أو المقارنة المنهجية.

 سؤال النهضة محاصَر بين أفقين؛ أفق الانحطاط الراهن، وأفق التقدّم التابع

كان أستاذنا حامد ربيع يحذّرنا ويتحفّظ على أمرَين، أحدهما في عالم المفاهيم، وهو ما يتعلّق بمفهوم "الثقافة السياسية" أو "الثقافة المدنية"، والثاني في عالم المساقات والمقرّرات الدراسية، وما نتج عن ذلك من تأسيس فرع يتعلق بـ"التنمية السياسية". لفت انتباهنا إلى التنمية السياسية المسكونة بمفهوم "التحديث" (modernization)، وما قد يتركه ذلك من أخطاء ومخاطر في تبنّي ما يسمّى بنظرية الانتشار، وتوجيه الأمور في هذا المسار، وهذا الأمر مسكون بالتحيّزات، خاصّة أنّ هذا المفهوم قد اعتمد خصّيصاً لدراسة الدول النامية أو دول العالم الثالث، يخصّها من خلال منظور غربي في هذا المقام. هناك موضوعات جزئية يمكن الاستفادة منها، إلا أنّ فلسفة هذا المساق، وتحت هذا العنوان، مليئة بالمخاطر، خاصّة حينما يقترن بعمليات تتعلّق بكيفية التعامل مع الثقافة التقليدية، وأنماط السلوك العرفية والثقافية والحضارية. من المهم، هنا، أن نلفت الانتباه إلى ملاحظة جوهرية ربما فطنت إليها عند حضوري مؤتمراً للجمعية الدولية للعلوم السياسية (IPSA)، ومؤتمر الجمعية الأميركية للعلوم السياسية (APSA)، إذ كان موضوع المؤتمر: "Globality and political science"، ولفت نظري الحديث عن "Globality" بصيغة المصدر، التي ما فتئت أن تحوّل الاهتمام معها إلى "Globalism" بصيغة المذهب، ثمّ تحوّل الأمر إلى تبني "Globalization" بصيغة عملية من مداخل التطبيق. وإذا كانت "العولمة" أعلى مراحل الحداثة، التي اتخذت هذا الشكل المعولم الطاغي، فإنّ ذلك يحاكي ذات الثلاثية الحداثية، فقد اتخذت هذا المسار على التتابع في تلك المتوالية: كيف يتحوّل المصدر إلى مذهب، وكيف يتحوّل المذهب إلى مجموعة من العمليات تكرّس المفهوم إدراكاً وحركة وممارسة على الأرض، ضمن عمليات مقصودة ومؤثرة. فمن المصدر (modernity)، إلى المذهب (modernism)، إلى صيغة العمليات (Modernization).

يمكن الاستفادة من هذه القصّة في كثيرٍ من الآليات المهمّة للحضارة والثقافة الغربية "الغالبة"، وقانون الغلبة الحضارية ارتبط لديهم بـ"المركزية الغربية" من جانب، والعمل في سياقاتها وسقوفها بما يكرّس حال "التبعية" الحضارية، وبدت هذه السردية تمتدّ في مساحاتها وساحاتها في استخدام مفردات أكثر تحديداً، مثل مفهوم "Westernization"، أي "الغربنة"؛ من الغرب، إن صحّ هذا التعبير وصحّت هذه الترجمة، الذي اشتق منه الشعار الطاغي "West and the rest" (الغرب والباقي)، ضمن رؤية مركزية حضارية واضحة تقترن بالحضارة الغربية، وأوروبا في القلب منها "Eurocentrism". استبق هذا المفهوم بشعار الكشوف الغربية الجغرافية، التي لم تكن أبداً كشوفاً بل أرض لها أصحاب وشعوب قطنت تلك البلاد منذ قرون، ولم يكن إلا شعاراً يخصّ تلك المركزية؛ "أرض لا صاحب لها"، الذي تحوّل مع الحقبة الكولونيالية إلى شعار دعائي؛ "عبء الرجل الأبيض" (The white man's burden).

الكلمات لا تأتي فُرادى. ومن هنا، كان لنا أن نتدبّر مفردات نشأت ونُظّمت داخل الحضارة الغربية، وأهم نماذجها مفردة النهضة وأخواتها

أمور بعضها من بعض وجب فيها التحقّق والتدقيق والتبصّر؛ كلّ تلك الكلمات كان يربط في ما بينها ناظم واحد في صورة تحوّلات اخترقت كلّ الحدود الحضارية والإنسانية في أوصاف كثيرة تتعلق بالحالة العولمية، بوصفها آخر طبعة للحضارة الغربية "العولمة" (Globalization)، وهو أمر حرّك الأفكار الغربية إلى أهداف نابعة من ترويجها هذه الحالة ضمن حالة التنميط؛ "Standardization"، المرتجاة.

المركزية الغربية، التي يمكن تعريفها كما قدّمتها نسيبة تامة، في مقال لها، بأنّها "الممارسات التي تركّز على فرض الحضارة والمصالح الغربيّة عموماً في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثّقافات والحضارات والشّعوب، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة"، والتّمركز الغربي يعتمد على نظامين، هما: الغزو العسكري، والغزو المدني. والغزو العسكري المراد به استخدام القوة الحربية لفرض المركز لأجندته ورؤاه، أما الغزو المدني فهو توظيف التقنيات المدنية الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والفكرية في التغيير الحضاري، الذي يريد المركز أن يحدّثه. ولذلك، نجد بينها من التنسيق والترابط ما قد لا يخطر في البال، لأنّها تصدر عن إرادة واحدة. بين المركزية الغربية والاتجاه الانتشاري الهادف منذ منتصف القرن الماضي، القاصد إلى عملية ترويج شاملة للنظرة الغربية حول التنمية والثقافة (التنمية السياسية والثقافة السياسية)؛ انتقل الأمر إلى عملية افتراس ممنهجة ضمن مفهوم "العولمة"، ضمن شعار اللحاق بقطار العولمة أو التخلّف الحتمي أو الموت الحضوري وأنّ مفهوم النهضة استدعى كلّ تلك المفاهيم، وهو أمر يزكّي النهج الذي أكّدنا عليه، ألا وهو المدخل المنظومي/ الشبكي؛ سؤال النهوض والنهضة ليس سؤالاً مصمتاً أو منفرداً أو متفرّداً، بل هو أبعد من ذلك، إنّه "مفهوم قاطرة"، إنّ صحّ هذا التعبير، ومن ثم علينا أن نتعرّف إلى وجهة نظر تلك القاطرة من أين بدأت وإلى أيّ اتجاه تنطلق، وما هو المسير والمسار؟... أسئلة غاية في الأهمية، وجب علينا أن نستقصي الأمر، ولا نتخذ من مقولة "اللحاق بالركب الحضاري" مقولة مفتاحية في هذا المقام. إنّها تذكرني بشخص لحق بالحافلة أو القطار، الذي للأسف، لا يمكن أن يوصله إلى وجهته التي قصدها، ولكن غالباً سيوصله إلى وجهة أخرى، لأنّه كان مهموماً باللحاق، وسؤال اللحاق، لا سؤال الوجهة والقصد؛ نعم، "الكلمات كالجيوش"، كما وصفها مصطفى صادق الرافعي، لا تأتي فُرادى. ومن هنا، كان لنا أن نتدبّر مفردات نشأت ونُظّمت داخل الحضارة الغربية، وأهم نماذجها مفردة النهضة وأخواتها.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".