أدوات الانقلاب تكذب وتتحرّى الكذب

12 ديسمبر 2014

قوات الأمن المصرية تقمع متظاهرين ضد الانقلاب في الإسكندرية(22نوفمبر/2013/الأناضول)

+ الخط -

تقوم منظومة الانقلاب في مصر بكل ما من شأنه أن ينقل الواقع على غير حقيقته، خصوصاً حينما ترتكب أجهزته الأمنية القمعية مجازر واضحة وفادحة، رآها الناس بأعينهم والعالم من مشاهد مروعة، إلا أن الانقلاب كان له رأي آخر، إنه يستطيع أن يكذب ويكذب، ويمارس تشويهاً للصورة وتزويراً للمشاهد. الانقلاب محاولاً بذلك، وبأذرعه الإعلامية، أن يقنع الجميع بأن يكذّبوا أعينهم، ويتهموا أبصارهم، وما عاينوه من أحداث، فيؤكد، وبتكرار ممل، الكذبة تلو الكذبة، ويتحرى التزوير بعد التزوير، فيصنع صورة تحاول الطمس وتزوير الأسباب، في محاولة للإيهام بأمور لم تقع على أرض الواقع، أصلاً، وترويج رؤى ومواقف تحاول تسويقها في إطار إخفاء معالم جرائمها، وما ارتكبته من فضائح ومجازر، ولا زالت أدوات الانقلاب تكذب، وتتحرّى الكذب.

في هذا الإطار، ربما يكون هذا المناخ الدولي الذي شكل عنصراً ضاغطاً على المنظومة الانقلابية، بعد أن صمتت منظمات حقوقية كثيرة في مصر، وباتت تروج بعض مقولات منظومة الانقلاب، وتتحرك وفق تأشيراته، وإن شئت الدقة، أوامره، ذلك أن منظومة الانقلاب وزعت بينهم الكلام، وكذلك وزعت السكوت والصمت الرهيب، وسوقت الأوصاف بالعنف والإرهاب والاعتصام المسلح. وسيق فيض من الاتهامات، وفائض من التجريمات، صارت تصدرها تلك المنظمات، في محاولة للتعتيم على الصورة، والتغييم على الموقف، ولكن، في أماكن أخرى، تخرج منظمات حقوقية عالمية غير حكومية، تقدم روايات أخرى مناقضة. وتقدم مجالس دولية لحقوق الإنسان إدانات وتحفظات ومطالب وتوصيات، وصل عددها إلى ما يزيد عن 315 توصية، فضلاً عن الاتهامات التي وجهت إلى حالة حقوق الإنسان في مصر، من مؤسسات حكومية وغير حكومية، وكذلك المؤشرات حول قبول الاتهامات التي تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام قضاء ثلاث دول، هي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. والبقية تأتي، تحت هذه الضغوط، تحاول سلطات الانقلاب، بأدواتها المختلفة، أن تتفادى هذه الاتهامات والمطالبات بلجان تقصّ للتحقيق مستقلة ودولية، ومع ذلك، لازالت أدوات الانقلاب تكذب وتتحرّى الكذب.

حاول التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق رسم صورة زائفة، فاعتصام ميدان رابعة كان مسلحاً. أول قتيل من الشرطة. وجماعة الإخوان المسلمين نقلت جثثاً من المرج والسلام والنهضة إلى رابعة.. 8 قتلى من الأمن، .. 860 قتيلا فى أحداث رابعة والنهضة والمنصة. الأربعاء، خطط "الإخوان" تضمنت مواجهة الدولة بتعطيل أجهزتها وإنشاء حكومة موازية وإرهاق الأمن وكسر وزارة الداخلية. قتلى في الاعتصام، بعضهم قتلوا برصاص مسلحى التجمع. و88 قتيلا و366 مصاباً في "النهضة". الشرطة أخفقت في التركيز على مصادر إطلاق النار المتحركة بين المتجمعين، ما أدى إلى زيادة أعداد الضحايا. ولا تزال لجنة الانقلاب غير المستقلة تزيف وتكذب، وتتحرى الكذب.

أخطر من ذلك، تسمي سلطات الانقلاب اللجنة "اللجنة القومية المستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصّي الحقائق لـ30 يونيو". هكذا باسم مطول، يمتلك من كلمات الفخامة بما يوحي باستقلال هذه اللجنة، وهي ليست كذلك، وادعائها قوميتها، وهي ليست كذلك، وأنها ستتحرى جمع المعلومات، ولم تفعل ذلك إلا في سياقات انتقائية، أرادت بها أن تصنع الصورة، كما تهوى سلطات الانقلاب وتمرره، بل إنها ذهبت إلى هؤلاء القتلة، لتجعلهم مراجعها الأولى في إثبات رواية كاذبة خاطئة، تحاول، فيها، أن تجعل هذه اللجنة غطاء لجهات مدانة، شهد القاصي والداني أن هؤلاء قد ارتكبوا القتل والقنص على نطاق واسع، وأسرفوا في استخدام السلاح، بشكل أفرط في الاستعمال، وأوغل في الدماء، وأوقع مئات من الشهداء، ولكن أدوات الانقلاب ولجانه لا زالت تكذب، وتتحرّى الكذب.

وغاب، وربما مع سبق الإصرار والترصد، غُيبت عن التقرير عدة أحداث مهمة، في نطاق المدة الزمنية لعمل اللجنة: أحداث رمسيس الأولى: 16 يوليو/تموز 2013، أدت إلى مقتل 7 أشخاص، وفقاً لوزارة الصحة، وإصابة أكثر من 261 آخرين. أحداث رمسيس الثانية (مسجد الفتح): 16 أغسطس/آب 2013 أسفرت عن مقتل 173 شخصاً، وفقاً لوزارة الصحة، وإصابة أكثر من 1330 آخرين. سيارة الترحيلات: 18 أغسطس/آب 2013 خلال ترحيل الشرطة محبوسين من قسم مصر الجديدة إلى سجن أبو زعبل، لقي 37 منهم حتفهم، حسب وزارة الصحة. أحداث 6 أكتوبر/تشرين الأول 2013: مقتل 57 شخصاً وإصابة 391، حسب وزارة الصحة. أحداث ذكرى الثورة: 25 يناير/كانون الثاني 2014، تزامناً مع الذكرى الثالثة للثورة، ما تسبب في وقوع 49 حالة وفاة و247 إصابة، حسب وزارة الصحة.

إن غض الطرف وصرف النظر عن لواحق فض اعتصامي رابعة والنهضة، على الرغم من خطورتها وإثبات أحداث رُبطت تعسفاً بالفض، مثل حرق الكنائس وخلافه، ليعبر عن كذب متعمد مارسته اللجنة، من دون خجل، بإخفاء ما تريد، وتسليط الضوء على ما تريد، اتهاماً لقوى بعينها، ومن دون تحقيق قضائي منضبط لتزييف الحقائق، وصناعة الصور الكاذبة، تعتيماً وتزويراً على الحق والحقيقة، ولا زالت أدوات الانقلاب تكذب، وتتحرى الكذب. بل إن هذه اللجنة عرضت أكثر من نسخة من تقريرها على سلطات الانقلاب، وأعلنت انتهاء تقريرها أكثر من مرة، لكنها، بعد استعراض مجمل التقرير مع المنقلب الرئيس، صارت تروج أنها لم تنته بعد من الصياغة النهائية للتقرير، وأنها قد طلب منها ـ وقد أثبتت في مسودة تقريرها أن الجيش شارك الشرطة في فض الانقلاب ـ استبعاد عبارات تدل على مشاركة الجيش في فض الاعتصامات، على الرغم من رؤية الناس جميعاً هذا الأمر، بما يعد موافقة صريحة وواضحة على تزوير التقرير لمصلحة من أسهم، مباشرة، في قتل هؤلاء، والمشاركة في إزهاق أرواحهم وقنصهم وخنقهم وحرقهم. تؤكد كل هذه الأمور على أنها لجنة لإقصاء الحقائق، وليس تقصيها، لا زالت أدوات الانقلاب تكذب، وتتحرّى الكذب.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".