تواطؤ دولي ونظمٌ لا شرفَ لها

07 أكتوبر 2016
+ الخط -
اختطّت منظومة الانقلاب في مصر سياسةً أمنيةً، تقوم على قاعدة فاشية. وعلى الرغم من ذلك، يتشدّق المنقلب كل ساعة، وفي كل حديث، بأنه يراعي حقوق الإنسان، ويحافظ عليها، فيما ترد من منظمات حقوق الإنسان الدولية كل فترة تقارير عن حالة حقوق الإنسان المصرية، أو بالتركيز على حالةٍ نوعية مثل الاختطاف القسري، أو القتل تحت التعذيب، أو مما يسمى تساهلاً الإهمال الطبي، وهو، في حقيقته ليس إهمالاً طبياً بالمفهوم الفني، وإنما قتل بطيء متعمّد، تقوم به السجون المصرية التي تجد في معتقلها فريسةً لأنظمتها الفاشية والبوليسية المتعنّتة، فهي لا تراعي الإنسان، ولا تراعي الحقوق، ولو أردنا تتبع هذه التقارير، في هذا الملف الأسود لحقوق الإنسان في مصر، لطال بنا المقام. ومع ذلك، نرى إنكاراً واستخفافاً بتلك التقارير، والحديث من المؤسسات الرسمية والأمنية وسدنة الانقلاب من إعلام الإفك، من أن تلك التقارير متحيّزة وتمالئ "الإخوان المسلمين". هكذا يقولون ويتبجحون.
ومن المؤسف حقاً أن النظم في الدول الغربية لا تزال تمارس دوراً متواطئاً ومنافقاً لحالة حقوق الإنسان في مصر. تتغافل هذه الدول، اعتقاداً منها أنها تراعي مصالحها، عن تلك الانتهاكات، على الرغم من خطورتها، في إطار نفاق معيب وخطير، يجعل من هذه النظم، ومنها النظام الانقلابي الفاشي في مصر، تنتهك حقوق الإنسان يومياً، ولا تحرّك الحكومات الغربية ساكناً، إلا ببعض بيانات هزيلة هنا وهناك، تطلقها ذراً للرماد في العيون، ما جعل هذه الأنظمة الاستبدادية تستمرئ هذا الحال، فتخرج من انتهاكٍ إلى آخر، ومن تعذيبٍ إلى قتلٍ، ومن اختطافٍ إلى إعدام... أشكال متعدّدة صارت تمارسها هذه النظم تصل إلى حدّ الإبادة لشعوبها، من دون أن تحرّك هذه الحكومات ساكناً. ونظن أن مأساة حلب تشكل أخطر الحالات الحقوقية في إطار حروبٍ من القتل بكل أنواع الأسلحة والإبادة، باستخدام أسلحةٍ محرّمة، ومن لم يمت بالسلاح يمت بالحصار والتجويع. هكذا تتواتر هذه الممارسات، فتجعل هذه النظم الفاشية في مأمنٍ من أي حسابٍ أو عقاب، بل وتستكثر هذه الدول أن تصدر حتى بيانات الشجب والإدانة من كثرة ما تطالعنا به الصحف من قتلٍ بالمئات، ومن تهديم منازل ومنشآت.
هذه الأحوال الحقوقية إنما تمثل عاراً على الإنسانية في ملف حقوق الإنسان، وتعلقها بالحق في الحياة باعتباره حقاً تأسيسياً. تتواطأ معظم الحكومات الرسمية في مشاهدة هذا القتل المتعمد، من دون أن يشكل ذلك أي تنغيصٍ لها، أو أي استنفارٍ للدفاع عن حقوق الإنسان ومعاني الإنسانية. لم يعد للإنسان في بلادنا ثمن، وأرواح الناس يستخف بها قتلاً وتواطؤاً، فتمارس متوالية القتل المستمر من دون توقف. صرنا نطالع أحداث الضحايا وكأنها أخبار يومية اعتيادية، لا تحرّك أي حالة إنسانية، يتواطأ كل هؤلاء على الإنسان في أوطاننا، فيكون القتل بالمئات، لا شجب ولا عزاء ولا إدانات.
هذا ما نراه يومياً في اليمن وسورية وليبيا ومصر، لم يعد ذلك خافياً على أحد، صار هؤلاء
الذين يستبّدون في أوطانهم، وبمواطنيهم، يمارسون لعبة القتل، يتلهون بها، بل ويتبارى كل منهم في المزايدة بأعداد القتلى الذين يقتلهم، ولا أحد يتحرّك. باتت حياة الإنسان في مأزق، وصار هذا التواطؤ يشكل عاراً على الإنسانية، وصرنا نشهد انتهاكاتٍ يندى لها الجبين، مشاهد دالة تعبّر عن حال القتل للإنسان، تمرّ هكذا مرور الكرام. يُقتل الإنسان أمام أعين اللئام، من غير إدانةٍ أو مجرد كلام. من هنا، نرى ذلك المشهد الذي يحدث على أرض مصر من نظامٍ لا شرف له، يستخف بالإنسان وروحه، ويقتل النفوس بدم بارد، في لعبة الترويع والتفزيع. وصار هؤلاء يمارسون كل أنواع التلذّذ والتشفي بالقتل لبعض شعوبهم، ولا يقيمون في بيئةٍ من التواطؤ ومؤامرة الصمت التي صارت سيدة الموقف.
قام النظام الانقلابي في مصر بمجموعة مشاهد، يجب أن نتوقف عندها، ونتفحّص مغازيها، ونتدبّر المعاني المرة الكامنة في مشاهدها ومراميها. هذا مشهدٌ لشابٍّ صغير، كل تهمته أنه أخرج كاميرا، وصوّر مظاهرةً، اعتُقل في سنه الصغيرة التي لا تتجاوز سبعة عشرة عاماً آنذاك، عُذّب بالضرب والسحل والصعق بالكهرباء، قاموا بكل أمر ينتهك إنسانيته. دبَّ في جسده الضعف، وتمكّن منه المرض، تمكّن منه سرطان الدم بأكثر من تسعين في المئة. أخرجوه إلى المستشفى، حتى وافته المنية. مات مهند، لا تقل مات، بل قُتل عن عمد وسبق إصرار وترصّد. قتله زبانية التعذيب، قتله الإغفال المتعمد بعدم تطبيبه، حتى افترسه المرض، قتله النظام الفاشي. وهَنَ جسمه، حتى أنه أوصى والده حينما تأتيه أمه أن يذكّرها بأنها لا تحتضنه بقوة. وقال لأبيه، لو احتضنتنه بقوة، فإنه لا يتحمل ذلك، لأن جسمه قد تكسّر. قتلوا مهند، قتلوه بدمٍ بارد، ولم يتحرّك أحدٌ لنجدته من نظام قاتل فاشي، يقتل شبابه وأبناءه، ثم يتحدّث بعد ذلك أنه يمكّن الشباب، نعم يمكّنه.. يمكّنه في القبور بعد قتله، مشهد خطير.
وهذا مشهد آخر لا يقل خطورةً. تتبّعت أجهزة الأمن وأجهزة الداخلية الدكتور محمد كمال، عضو مكتب إرشاد الإخوان المسلمين، ومعه الدكتور ياسر شحاتة، ثم أطبقت عليهما واعتقلتهما. بعد الاعتقال، ذهبت بهما إلى محل إقامتهما، ثم أطلقت عليهما الرصاص بدمٍ بارد، ثم ادّعت أنهما قتلا في تبادل لإطلاق النار. شهد الناس جميعاً أنهما كانا في قبضة الأمن الذي ساقهما إلى شقتهما أحياءً. ولكن، بعد ساعاتٍ قليلة نزلا ميتين. قتلتهم أجهزة الداخلية بدم بارد، صفّتهما تصفية جسدية، فعلوا ذلك من قبل، وصمت الجميع، أو يكاد، وفي كل مرة تُفلتُ الداخلية ببلطجتها بلا عقابٍ، بلا أدنى مسؤولية.
ومشهد آخر يتضمن أحكام إعدام شبابٍ من محكمةٍ عسكريةٍ، لا تقيم للنفوس وزناً، ولا للأرواح قيمةً، ولا للإنسان ثمناً. يبصم المفتي، ويوضع هؤلاء منتظرين حبل المشنقة، كلهم من الشباب الذي احتج يوماً، وقال: "لا"، يُروّعونهم بكل أنواع القتل؛ قتل تحت التعذيب، واختطاف قسري، وقتل أو تصفية جسدية وإهمال متعمد بالقتل البطيء. تعدّد الموت والقتل والقاتل واحد، فلا منظومة دولية تتحرّك، ولا منظمات حقوق الإنسان في الداخل تقوى على الكلام. وتمارس "الداخلية" القتل كلعبة يومية. عار الإنسانية يتراكم والقتل يتزايد والمستبدون باقون. ليس لهم من رادع، ماذا يمكن أن يفعل الإنسان، وقد تسلطت عليه عصابةٌ وبلطجية هذا الزمان، وتواطأ أهل الأرض على قتل الإنسان. هكذا ماتت البشرية، وماتت معاني الإنسانية، ولم يقيموا وزناً لقوانين إلهية أساسية "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا". عار الإنسانية في قتل الإنسانية، وفي صمت الإنسانية وتواطؤها.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".