نحو إعادة التفكير في حالة العلوم السياسية عربياً
يقدّم هوارد فيرادا في كتابه المهم "اتجاهات جديدة في السياسات المقارنة" إطاراً مفاهيمياً ونظرياً مهماً للمناهج المستخدمة في حقل السياسة المقارنة، سابقاً ولاحقاً. وفيرادا هو أحد أبرز علماء السياسة المقارنة، شارك في ورشة عمل مهمة في بداية الثمانينيات مع نخبة من أساتذة العلوم السياسية البارزين في الولايات المتحدة، بدعوة من جامعة كامبريدج ومركز الشؤون الدولية، والكتاب الذي بين أيدينا هو حصيلة هذه اللقاءات المهمة والعمل الدؤوب من المؤلف مع الباحثين البارزين في هذا الحقل.
قيمة الكتاب تكمن في أنّه جمع بين مجموعتين من الباحثين والأكاديميين البارزين في العلوم السياسية، تتمثل الأولى بكبار المنظّرين والعلماء الذين انخرطوا وأسّسوا وساهموا في الثورة السلوكية ومحسوبين على هذا الاتجاه، ومنهم، على سبيل المثال، سيدنا فيربا، وآخرين ممن مثّلوا الاتجاهات الجديدة في السياسة المقارنة، وكانوا نقديين تجاه مركزية المدرسة السلوكية وتأثرها الشديد بالتجربتين، الأوروبية والأميركية، ومن أبرز هؤلاء فيرادا نفسه ومعه جويل مجدال وبيتر لانغ وغيرهم. ومعروف أنّ المناهج التي استخدمت في المدرسة السلوكية خلال مرحلة الفورة لها، أي في عقدي الخمسينيات والستينيات، أصبحت المناهج الأكثر رواجاً وانتشاراً واعتماداً في دراسات السياسات المقارنة، مثل مساهمات كل من ديفيد أيستون وجبرائيل ألمون وفيربا وباي وغيرهم.
ينطلق فيرادا في كتابه من الاعتراف الرئيس بوجود "أزمة" بنيوية في حقل السياسة المقارنة، مع بروز انتقاداتٍ شديدةٍ للمدرسة السلوكية التي هيمنت على هذا الحقل خلال عقدين، إلى أن ظهرت أدبيات عديدة وجيل جديد من العلماء والباحثين الذين يشكّكون بالنظريات والأدوات والمفاهيم التي تأسّست عليها السلوكية التي اقترنت، بدورها، مع مدرسة التنمية السياسية والتحديث، ومقولاتها التي جعلت من التحديث الاقتصادي والنمو الاقتصادي ومستويات التقدّم والثقافة السياسية المدنية شروطاً رئيسية مسبقة لعملية التحوّل الديمقراطي.
فكرة بناء نظرية سياسية كلية وشمولية لتحليل النظم السياسية تراجعت كثيراً، وبرزت محلها تصورات لإمكانية بناء نظريات وسطى
منذ السبعينيات، إذاً، بل قبل ذلك مع الكتاب الشهير لصموئيل هنتنغتون "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة" بدأت علامات الاستفهام والشكوك تتزايد في مدى نجاعة المدرسة السلوكية وقدرتها على تحقيق أهدافها. ومما عزّز هذه الأزمة القناعة المتزايدة لدى نسبة كبيرة من الدارسين والباحثين أنّ المدرسة السلوكية كانت سبباً في إخفاق علماء السياسة من القيام بأي دورٍ فيما يتعلق بالحرب الفيتنامية وفي فضيحة ووتر غيت، وبرزت لاحقاً أفكار وآراء لما سمّيت المدرسة ما بعد السلوكية.
صحيحٌ أنّ الاتجاهات الجديدة لم تقدّم نظرياتٍ كليةً بديلةً عن تلك المحاولات التي قامت بها المدرسة السلوكية، ونجد ذلك واضحاً في اعتراف فيرادا نفسه في الكتاب، ومعه فيربا، بأنّ فكرة بناء نظرية سياسية كلية وشمولية لتحليل النظم السياسية تراجعت كثيراً، وبرزت محلها تصورات لإمكانية بناء نظريات وسطى، تقوم على دراسة الأنظمة والمجتمعات السياسية المتشابهة، في تطوّرها التاريخي وأنماطها وثقافتها ومؤسّساتها الاجتماعية والسياسية، من دون محاولة التعميم والادّعاء ببناء نظرية سياسية كلية، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، تلك التي تأثّرت بها المدرسة السلوكية في بداياتها ومحاولاتها في الوصول إلى قوانين تحكم العلوم السياسية أسوةً بما حدث في الفيزياء والبيولوجيا وغيرها من العلوم.
يحتوي كتاب فيرادا على أبرز المقتربات المقترحة لدراسة الأنظمة السياسية، بخاصة التي تقع خارج إطار أوروبا والولايات المتحدة، ومنها المقاربة الكوروبوراتية (كتب فيها بتفصيل فيرادا نفسه ودوغلاس تشالمرز)، ومقاربة علاقة الدولة بالمجتمع، وتخصّص فيها جويل ميغدال، ومقارنة الاقتصاد السياسي لكل من هودسون ميدويل وبيتر لانغ، كما يحتوي الكتاب فصولاً أخرى لمقاربات بديلة في التنمية السياسية، لا تقوم على المركزية الإثنية الغربية لفيرادا نفسه، ونحو مقارباتٍ بديلة في السياسات المقارنة لرونالد تشيلكوت.
للأسف، ما تزال أغلب الجامعات العربية تقوم على تدريس السياسات المقارنة من منظور المدرسة السلوكية
للأسف، ما تزال أغلب الجامعات العربية تقوم على تدريس السياسات المقارنة من منظور المدرسة السلوكية، وهي مدرسة مهمة، وساهمت كثيراً في تطوير العلوم السياسية في العالم، وفي بناء مفاهيم ونظريات وفي تعزيز المعرفة بالنظم السياسية المقارنة في العالم، وأدّت إلى قفزة كبيرة في مجال المعرفة السياسية. ولكن من الواضح أنّها عجزت كثيراً عن بناء نظريات لفهم تجارب العالم الثالث وأنظمته السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو التحدّي الذي تحاول المقاربات الجديدة أن تواجهه من خلال مراجعة المفاهيم والفرضيات الرئيسية التي قامت عليها المدرسة السلوكية، ومن ذلك مفهوم الدولة نفسها والمؤسّسات المجتمعية، مثل العشيرة ودور الجيش والجماعات المحلية والثقافات المحلية، ومراجعة مسار التقدّم نحو الديمقراطية خارج أسوار مدرسة التحديث، وهو الأمر الذي انعكس بدوره من خلال مدرسة الانتقال الديمقراطي التي تتوازى في مقولاتها وبروزها مع المدرسة ما بعد السلوكية في توجيه النقد للمدرسة السلوكية وقرينتها مدرسة التحديث والتنمية.
ثمّة محاولات عديدة برزت، أخيرا، في مجال تطوير حقل السياسة المقارنة ومراجعة أزمته الداخلية. وإذا كان كتاب فيرادا قد ظهر قبل قرابة 40 عاماً (بالرغم من ذلك ما تزال الجامعات العربية محكومة بالمناهج السلوكية وكأنّها تمثل المناهج العلمية الوحيدة في العلوم السياسية)، فهنالك كتب عديدة جديدة ومقاربات مختلفة، ولعلنا نقدّم لاحقاً عرضاً لأحد أهم هذه الكتب وهو "العلوم السياسية في الشرق الأوسط" وحرّره أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن مارك لينش.