حسابات الدولة والجماعة في الأردن
اجتاز شابان أردنيان، في 18 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، الحدود الجنوبية مع فلسطين، ودخلا في مواجهة مع قوات إسرائيلية، واستُشهدا خلال العملية. أعلنت جماعة الإخوان المسلمين مباركتها العملية، ونعتهما، وأكّدت أنهما من أبنائها، ما أدّى إلى ردَّات فعل غاضبة شديدة من أوساط قريبة من الدولة، فأصدرت الجماعة بياناً آخر توضيحياً، نفت فيه أن تكون العملية قراراً داخل الجماعة، ووصفتها بالعمل الفردي، ثم حاولت أوساط قريبة من الحركة التأكيد على النهج السلمي لها، والتزامها الخطّ السياسي، والعمل تحت مظلّة الدولة ومؤسّساتها.
حدث ذلك كلّه بعد أسابيعَ قليلةٍ من الانتخابات النيابية، التي حقَّقت فيها الجماعة نتيجةً كبيرةً، وحصدت 31 مقعداً في مجلس النواب، وما يقترب من نصف مليون صوت (على صعيد القائمة الوطنية الحزبية النسبية المغلقة)، وهو ما اعتُبر أكبرَ نتيجةٍ "تصويتيةٍ" تحصل عليها خلال تاريخ مشاركتها النيابية. ومن الواضح أنّ إحدى الديناميكيات التي أوصلت الجماعة إلى هذا "الانتصار الانتخابي" هو التعاطف الكبير من الشارع مع حركة حماس الفلسطينية (بعد طوفان الأقصى)، والغضب الشعبي من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، خاصّة أن الحركة كانت محرّكاً رئيسياً في الشارع الأردني خلال العام السابق الذي تلا عملية طوفان الأقصى.
الجماعة حالياً عند مفترق طرق في حساباتها السياسية، وفي ترسيم خطوط العلاقة القادمة مع الدولة. فمن جهة، تأخذ القاعدة الشبابية والمجتمعية - الشعبية للجماعة موقفاً داعماً قوياً لحركة حماس وللفلسطينيين، وهنالك مساحة عريضة مشتركة كبيرة بين الجماعة والحركة، أيديولوجياً وسياسياً واجتماعياً، وهو ما يدفع بها لتتماهى في خطابها السياسي وحراكها الشعبي لتكون في صفوف متقدّمة في دعم حركة حماس، خاصّة أن قيادات الأخيرة وجّهت بيانات متعدّدة تدعو الشعب الأردني إلى التحرّك لدعم كتائب القسّام، وباركت "حماس" عملية الشابّين، وقبلهما أردني آخر (ماهر الجازي وهو ليس من الحركة) نفّذ عمليةً ضدّ المستوطنين الإسرائيليين، خاصّة أن كلّ المنطقة تموج بالصراع الإقليمي؛ العراق ولبنان واليمن وفلسطين، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتمثّل المواجهة الحالية لحظةً تاريخيةً فاصلة في تاريخ الصراع، وتتصدّر حركات الإسلام السياسي، بشقّيه السنّي والشيعي، المشهد في المواجهة.
من جهةٍ أخرى، الحركة هي حزب سياسي أردني يعمل ضمن شروط اللعبة السياسية الأردنية وقواعدها، وله كتلة كبيرة في مجلس النواب الأردني. وفي الوقت نفسه، تخوض الدبلوماسية الأردنية بقيادة الملك عبد الله الثاني، ووزير الخارجية الشرس، أيمن الصفدي، حرباً سياسيةً ودبلوماسيةً مع الحكومة الإسرائيلية، ويتقدّم الأردن الدول العربية في الموقف السياسي في مواجهة نتنياهو، في خطاب صلب، ولا يريد أن يواجه مشكلةً من زاوية الجبهة الداخلية، فمثل هذه العملية إذا تكرّرت فستعطي حججاً أكبر لحكومة نتنياهو، كما أنّها تتجاوز سيادة الدولة وقدرتها على إدارة حدودها وحماية المواطنين، وتعطي ذرائعَ للإسرائيليين لتدوير النقاش ليكون حول الحدود الشرقية وموقف الأردن.
ومن جهةٍ ثانية، تتجاوز مؤسسة القرار الأردنية الحالةَ العربيةَ، التي أخذت مواقفَ حادَّةً من جماعة الإخوان، التي أصبحت محظورةً في العديد من الدول، ووُصفت من العديد من الدول العربية بالإرهابية. ومن جهةٍ ثالثة، للأردن مشكلات كبيرة في حدوده الشمالية، حيث تنشط المليشيات العسكرية المؤيدة لإيران في تهريب المخدّرات، وهي ساحة مواجهة كبيرة مع حرس الحدود الأردني، وتختلف حسابات الأردن مع إيران، التي تقود حلف الممانعة في مواجهة إسرائيل، وتدير العمليات والمليشيات والحركات في أغلب مناطق الصراع في المنطقة، وهو ما يجعل الأردن يسير وفق حسابات سياسية دقيقة، لحماية أمنه الوطني ومصالحه الاستراتيجية في المعركة الدبلوماسية مع إسرائيل.
يجعل ذلك كلّه من الضروري تدشين حوار استراتيجي، بعيداً عن الأضواء، بين مؤسّسات القرار وقيادة الجماعة، لترسيم المساحة المشتركة في السياسات الداخلية والخارجية، والتأكّد من تمتين الجبهة الداخلية، في سياق (أيضاً) مشروع تحديث سياسي واقتصادي وإداري بدأ خطواته العملية مع الانتخابات أخيراً، ومع وجود خصوم لهذا المشروع إقليمياً وداخلياً. وبالتالي، تصبح عملية ضبط الحسابات ضمن منظومة المصالح الوطنية والأمن الوطني مصلحةً استراتيجيةً عُليا، ليس للدولة فقط، بل للجماعة أيضاً، حتى لا يتحوّل الصراع السياسي من صراع مع أجندة نتنياهو وجماعته إلى صراع وسجال داخلي، نتيجته لن تكون في صالح أحد.