طهران في المنطقة... ملاك أم شيطان؟
يخلط كثيرون من السياسيين والمعارضين للمشروع الإيراني في المنطقة ما بين المسألتين الطائفية والسياسية، وهو خلط ٌغير مفيد وضار، ليس فقط على صعيد ترسيم "تقدير موقف" من السياسات الإيرانية في المنطقة، بل أيضاً على صعيد البنيتين، المجتمعية والثقافية، والسلم الأهلي في المجتمعات العربية، وفوق ذلك عدم إدراك أنّ ما يحرّك إيران فعلاً في تصميم السياسة الخارجية بدرجة رئيسية هي المصالح القومية بوصفها غايات وهدفاً، بينما يجري توظيف البعد الطائفي لخدمة هذه المصالح وتعزيزها.
إذاً، من الضروري أن يكون هناك تمييز كامل ما بين سياسات التعامل مع الشيعة العرب وما بين إيران، وهو تمييز يساعد كثيراً على تطوير مفاهيم احترام التعدّدية والمواطنة والعيش المشترك وتغليب المشتركات والمصالح الوطنية على الاعتبارات المذهبية والطائفية والجهوية، لأنّ من أخطر مصادر التهديد لمستقبل العرب السياسي اليوم هي الطائفية وانهيار الدولة الوطنية واضمحلال الجماعات الوطنية لصالح الجماعات الفرعية والمحلية والجهوية.
إذا كانت هنالك مشكلة مع المشروع الإيراني فتتمثّل في أنّه مشروع هيمنة إقليمية يقوم على تعزيز الجماعات ما دون الدولة وتقويتها، على حساب الدولة الوطنية. وإذا كانت الورقة الطائفية هي إحدى هذه الأوراق، فذلك لا يعني أنّ الشيعة عموماً يغلّبون العلاقة مع إيران على حساب أوطانهم ومجتمعاتهم، بل التحالف بين الشيعة العرب وإيران وتحويلهم إلى مليشيات وقوى موالية لإيران "فوق قومية" نتيجة مرتبطة بشعور نسبة كبيرة منهم، في غياب الأنظمة العادلة والحريات والتعامل معهم بمنطق تهميش وإقصاء، خلال العقود السابقة من عمر الدولة الوطنية العربية، خاصة مع بروز تيارات سياسية كبيرة حكمت دولاً عربية عديدة، مثل حزب البعث الاشتراكي والتيارات السلفية، والخشية العربية من "تصدير الثورة الإيرانية"، ما جعل الشيعة بصورة عامة في مساحة الاتهام والتخوين مسبقاً.
في هذه الزاوية من صحيفة العربي الجديد نشر كاتب هذه السطور سابقاً، مقالين لملاحظاته عن زياراته إلى العراق، ولقائه مع نخب شبابية، جميعها شيعية، في بغداد والنجف (عائد من بغداد (2-10-2022)، عائد من النجف (5-3-2023)). وكان من الواضح تماماً أن هناك أزمة حقيقية بين جيل من الشباب العراقيين- الشيعة وإيران، وشعورا عارما برفض منطق الهيمنة والوصاية على العراق. لكن إيران، ضمن المعادلات السياسية الداخلية في عدة دول عربية ومعادلات إقليمية، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، تمكّنت من بسط نفوذ واسع في مساحة واسعة من الدول العربية، ما يجعل الشيعة العرب عموماً أمام خيارات محدودة وضيقة.
إذا كان هنالك منطق يدفع إلى استدخال المسألة الطائفية في الحوار مع إيران، فمن الضروري أن يكون ذلك ضمن مشروع حضاري استراتيجي يجمع العرب وإيران، ويتم من خلاله التوافق على القيم والمبادئ الديمقراطية المفترض أن تحكم هذه العلاقة. بمعنى أن المسألة ليست مرتبطة بتأييد إيران الشيعة العرب أو تأييدهم لها، بل في السياسات الإيرانية والعربية التي لا تستند إلى احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات العامة، فالمشكلة لدى غالبية السوريين مع إيران وكثير من العراقيين واللبنانيين واليمنيين وغيرهم أن النظام الإيراني، بذريعة الممانعة وفلسطين، أذلّ شعوباً وساهم في مذابح وقتل وتدمير ودعم أنظمة استبدادية وفاشية، وتسهيل تجارة المخدرات التي أصبحت كارثة حقيقية في مجتمعات ودول عربية عديدة!
صحيح أنّ إيران دعمت حزب الله في مواجهة إسرائيل وسلّحت حركة حماس في السياق نفسه، لكن ذلك ضمن استراتيجية إيران لبناء قوة إقليمية وقادرة على الجلوس على الطاولة لمفاوضة الأميركيين والعرب، وتحقيق مصالح إيران القومية، وهو أمر لا ينفي الجانبين الأيديولوجي والطائفي، لكننا نجد إيران دوماً، عند التضارب بين هذه القيم الثلاثة تنحاز للجانب الأول (المصالح القومية)، وهو أمر يمكن الإطالة والشرح فيه كثيراً، حتى على صعيد ما يحدُث في الحرب على غزة حالياً.
في السياسة الواقعية Real Politics لا يوجد ملائكة وشياطين، ولا قيم ديمقراطية ولا حرّيات، ولا حتى أيديولوجيات متصلبة، بل مصالح وحروب وصراعات، لتحقيق أهداف معينة أو صفقات وتسويات. وضمن المعايير الحالية، أيضاً، لا يوجد شيء اسمه نظرية أمن قومي عربي، للجلوس وبناء الحوار الاستراتيجي مع طهران حول مصالح مشتركة وقيم حاكمة، إنّما هنالك إيران وإسرائيل وساحة عربية للتنافس والصراع.