تشارلز تايلور وبايدن والعدالة الدولية
يعاقب نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية في ماده 26 مرتكبي الجرائم التي تختصّ بها المحكمة، وكل من يقدّم "العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل آخر لغرض تيسير ارتكاب الجرائم أو الشروع في ارتكابها، بما في ذلك توفير وسائل ارتكابها". ومحاكمة الرئيس الليبيري السابق، تشارلز تايلور، من أهم السوابق القضائية التي أثيرت فيها هذا النوع من المسؤوليات الجنائية الفردية، والتي تعلقت بتقديم العون والمساعدة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سيراليون، شملت القتل والاغتصاب وتجنيد الأطفال. كانت قضية تايلور من القضايا التي تعاملت معها المحكمة الخاصة بسيراليون، والتي شكلت بقرار من مجلس الأمن عام 2000. تولّى تايلور رئاسة ليبريا منذ عام 1997 وحتى استقالته في أغسطس/ آب 2003، وقد قدّم دعماً مالياً وعسكرياً وسياسياً للمتمرّدين في سيراليون طوال فترة الحرب الأهلية هناك. واجه رسمياً عدّة اتهامات من المحكمة في مارس/ آذار 2003 خلال توليه الرئاسة. اعتُقل في نيجيريا في مارس/ آذار 2006، ثم نقل الى لاهاي لمثوله أمام المحكمة. وقد أُدين وحكم عليه بالسجن 50 عاماً في إبريل/ نيسان2012، ويقضي عقوبته حالياً في سجن فرانكلاند في دورهام بإنجلترا. ومثلت سابقته تطبيقاً عملياً، لكنه غير متكرّر، لمحاكمة مسؤولين في دولةٍ عن جرائم شجّعوها ودعموها في دولة أخرى.
لا يتصوّر في النظام العالمي الراهن أن يخضع الرئيس الأميركي، جو بايدن، أو أي مسؤول رفيع في الدول الغربية الكبرى، مثل تشارلز تايلور، للمحاكمة الدولية، عن الدعم المباشر العسكري والسياسي الذي قدم منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 للاحتلال الإسرائيلي. ومن المستحيل، في ظل الضغوط والتهديدات التي تتعرّض لها المحكمة، بما فيها التهديد بفرض عقوبات أميركية، أن يُقدم المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان على فتح تحقيق يتعلق بالمسؤولية الجنائية لمسؤولين في دول أخرى عن الفظائع التي تُرتكب في غزّة. لكن المقارنة تبقى مشروعة، ولو على المستوى النظري، بين ما قام به تايلور في سيراليون، وما أخذه بايدن سياسات وأفعالاً في غزّة.
اتّخذت الولايات المتحدة موقفاً عدائياً وانتقائياً من المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها
لقد اتّخذت الولايات المتحدة موقفاً عدائياً وانتقائياً من المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها، وأضعف رفضها مثول قادتها العسكريين والسياسيين أمام أي محكمة دولية المحكمة. لكن الولايات المتحدة، وفي تناقض صارخ لموقفها، كانت من الداعمين لتحرّك المحكمة الدولية عام 2023 ضد المسؤولين في روسيا، والرئيس بوتين جرّاء مسؤوليتهم عن الجرائم في أوكرانيا. وكانت أحد الانتقادات التي وُجّهت إلى المحكمة الجنائية الدولية أن نشاطها في السنوات التالية على تأسيسها تركّز على اتهام مسؤولين رسميين ومحاكمتهم في القارّة الأفريقية. اتسع نشاط المحكمة، ومؤسّسات العدالة الدولية الأخرى، في عقد التسعينيات. ولتركيز "الجنائية الدولية" على القارّة الإفريقية ما يبرّره نظراً إلى السياق السياسي الدامي في دول القارّة، مثل سيراليون، ورواندا، والسودان، والكونغو الديمقراطية، وكينيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا، خلال تلك الحقبة. وقد أعطى الموقف الأميركي تجاه المحكمة الجنائية الدولية شرعية لسياسة دول الاتحاد الأفريقي، بما فيهم جنوب أفريقيا، لتأسيس جبهة مناهضة للمحكمة، متهمة إياها بأنها تمثل ذراعاً للاستعمار الجديد من الغرب ضد دول الجنوب، وهي الحجة نفسها التي استخدمها دفاع تشارلز تايلور، عندما كان يخضع للمحاكمة في لاهاي. وقد ساعد تشكيل هذا الخط الدفاعي في القارّة الأفريقية الرئيس السوداني (المخلوع)، عمر البشير، على تلقّي دعم وتضامن أفريقيين، في مواجهة مذكّرة الاعتقال الصادرة في حقّه في لاهاي بتهم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور في السودان.
لا يتصوّر في النظام العالمي الراهن أن يخضع الرئيس، جو بايدن، أو أي مسؤول رفيع في الدول الغربية الكبرى، مثل تشارلز تايلور، للمحاكمة الدولية
تتعامل حالياً المحكمتان، العدل الدولية والجنائية الدولية، مع المسؤولية الدولية والجنائية لجرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والبعد الذي تكشف عنه هذه القضايا هي مسؤولية الأطراف الثالثة عن الجرائم الجسيمة التي تُرتكب في سياقات النزاعات المسلحة. وعادة ما يضم تخطيط الجرائم الدولية الواسعة النطاق وتنفيذها، مثل الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية أطرافاً ثالثة تقدم الدعم والمساعدة والتشجيع على ارتكاب هذه الجرائم بأشكالٍ مختلفة، بخلاف الأطراف الأولية المرتكبة لها، لكن من النادر تحريك المسؤولية الدولية أو المسؤولية الجنائية الفردية ضد هذه الأطراف الثالثة. أثيرت هذه المسألة في الدورة العادية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة في إبريل/ نيسان 2024، فقد طالب المجلس لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة بالتحقيق في مسؤولية الأطراف الثالثة المترتبة على نقل (وتصدير) الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية التي تُستخدم في الانتهاكات والجرائم في فلسطين، وستُعرض نتائج هذا التحقيق على المجلس العام المقبل.
وقد كان لنيكارغوا السبق في الخطوة التي اتخذتها بداية هذا العام، عندما بدأت بمقاضاة ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بادّعاءات دعم ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جريمة الإبادة الجماعية، وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزّة. ورغم أهمية هذه القضية، للمسؤولية الدولية عن مساندة أفعال بالمخالفة للقانون الدولي، هي تواجه عقباتٍ شكليةً تتعلق بالاختصاص، وعقبات أخرى موضوعية تتعلق بتوفر الأدلة الملموسة عن استخدام السلاح الألماني في ارتكاب الجرائم في غزّة. وقد رفضت المحكمة بالفعل إصدار أوامر وقتية عاجلة في نهاية إبريل/ نيسان نتيجة عدم وجود أدلة قوية معروضة أمامها تبرّر إصدار هذه الأوامر في حق ألمانيا. لكن هذه القضية ما زالت مطروحة أمام "العدل الدولية"، ومن المبكر الحكم علي نتائجها. وبصرف النظر عن جدّية القضية، ودوافع نيكارغوا السياسية في اللجوء إلى "العدل الدولية" ضد ألمانيا، أثار مثل هذا التحرّك جدلاً داخل ألمانيا وفي أوروبا يتعلق بأخلاقية تقديم الدعم العسكري للاحتلال الإسرائيلي وقانونيّته، ويفتح الباب أمام تحرّكات أخرى مشابهه ضد دولٍ أخرى في المستقبل. ستستمر هذه القضايا القانونية سنوات حتى تنتج آثارها، لكن تحريك هذه القضايا والاشتباك معها بكل الوسائل يمثل نقلة جديدة في النضال الحقوقي والقانوني من أجل فلسطين، ومن أجل مستقبل العدالة الدولية، وسلامة النظام الدولي ونزاهته لحماية حقوق الإنسان.