مصر: النقاش بشأن العدالة الجنائية في سياق اللاقانون
عبّرت نقابة الصحافيين، ومحامون وحقوقيون، في مصر في الأسابيع القليلة الماضية عن رفضهم مشروع قانون الإجراءات الجنائية المطروح حالياً على البرلمان، لما يمثله من إهدار خطير لمقومات حكم القانون والعدالة الجنائية. كان الحوار الوطني قد أعلن بعد عدة جلسات رؤيته بشأن تحجيم الاستخدام المنهجي للحبس الاحتياطي، إلا أن السلطة أخذت منحىً آخر، وطرحت مشروع قانون الإجراءات من دون مناقشة أو تنسيق مع أعضاء الحوار الوطني. إذ يعبّر طرح هذا المشروع عن عدم اكتراث السلطة القائمة بنقاشات هذا الحوار، وانفصال أجندتها التشريعية عن مخرجاته. وطبقاً لتحليلات قانونية رصينة، نشرها محامون بارزون داخل مصر، فإن مشروع القانون المقدّم من الحكومة يتعدّى، بشكل صارخ، على حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة وحقوق المتهم المقرّرة في الدستور، ويوسّع من صلاحيات الأجهزة الأمنية في التدخل في الحريات الشخصية للمواطنين، ويحدّ من رقابة القضاء على الصلاحيات الواسعة للأجهزة الأمنية وأعضاء النيابة العامة. يتيح المشروع، على سبيل المثال، للسلطات اتخاذ إجراءات احترازية، مثل المنع من السفر مدة طويلة من دون رقابة من القضاء، ويتيح تنفيذ التحفظ على الأموال والممتلكات الناتج من الأحكام الغيابية من دون انتظار صدور حكم قضائي نهائي بعد حضور المتهم وإبداء دفاعه.
وعلى قدر أهمية الوقوف ضد مشروع القانون، لا بد أيضاً من التذكير بأن معظم التخوّفات التي تتردد بشأن القانون المطروح تمثل الممارسات المطبقة فعلياً في البلاد على مدار أكثر من عشر سنوات، رغم الضمانات الواردة في الدستور والقوانين الحالية. ويهدف مشروع القانون، بالأساس، إلى إضفاء مشروعية على تلك الممارسات. ورغم خطورة نقل بعض الصلاحيات من القضاة إلى أعضاء النيابة العامة أو من نقل صلاحيات من الجهتين إلى أعضاء الأجهزة الأمنية من الناحية النظرية، فإن ذلك لا يمثل جديداً في السياق الحالي الذي مورست فيها كل الانتهاكات والجرائم تحت عين (وإرادة) المحاكم والنيابة العامة، سواء بتفويض من القانون أو بخلاف القانون.
لم تتحرّك النيابة العامة في التحقيق في قضايا الاختفاء القسري، رغم تقدّم الأهالي عادة بشكاوى متكرّرة للنيابة العامة للتحقيق في ملابسات اختفاء أبنائهم
يتمثل جوهر مشكلة العدالة الجنائية في مصر حالياً بالتحالف الضمني بين الأجهزة الأمنية، أعضاء النيابة العامة والمحاكم، وهي الأعمدة الثلاثة لأي نظام للعدالة الجنائية، على تسهيل عمل وإعادة إنتاج ماكينة القمع. تستطيع المحاكم والنيابة العامة تسوية كثير من ملفات انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة في مصر، مثل الاعتقال التعسّفي طويل المدة، والاختفاء القسري، وإنهاء القضايا ذات الدوافع السياسية بتنفيذ القوانين الراهنة. لكن مؤسّسات العدالة شهدت تحولات عميقة في بنيتها خلال العقد الأخير، افتقدتها مساحة الاستقلالية المحدودة التي تمتعت بها خلال عصور سياسية سابقة. وقد كان للجنة الدولية للحقوقيين تقريرٌ مهمٌّ صدر عام 2016 تحت عنوان "القضاء في مصر: أداة للقمع وغياب ضمانات استقلالية القضاء والمساءلة"، خلص إلى تأثير التدخّل طويل الأمد من السلطة التنفيذية في النظام القضائي في مصر، ما أدّى إلى تقويض قدرة القضاء على العمل هيئة مستقلة ونزيهة للفصل في العدالة وحماية حقوق الإنسان.
وقد تجلت مسؤولية القضاة والنيابة عن هشاشة العدالة في مصر في مضمون أحكام كثيرة في حقّ حقوقيين ومعارضين بارزين، تضم لغة اتهام سياسي وتخوين لا تتصل بدعاوى قضائية من المفترض أن تتسم بالنزاهة واحترام الدستور. على سبيل المثال، لجأت محكمة جنائية في منطوق حكمها الغيابي ضد الحقوقي البارز بهي الدين حسن بالسجن 15 عاماً في أغسطس/ آب 2020 على خلفية إبداء آراء في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى اتهامه بالعمالة والخيانة للوطن. الأمر نفسه في حكم آخر صادر عن محكمة القضاء الإداري في ديسمبر/ كانون الأول عام 2021، وأيدت فيها الفصل التعسفي للفنانين خالد أبو النجا وعمرو واكد من نقابة المهن التمثيلية نتيجة مشاركتهما في أنشطة حقوقية مع منظمات حقوق الإنسان المصرية في أوروبا والولايات المتحدة. ولم تتحرّك النيابة العامة في التحقيق في قضايا الاختفاء القسري، رغم تقدّم الأهالي عادة بشكاوى متكرّرة للنيابة العامة للتحقيق في ملابسات اختفاء أبنائهم.
تجلّت مسؤولية القضاة والنيابة عن هشاشة العدالة في مصر في مضمون أحكام كثيرة في حق حقوقيين ومعارضين بارزين
على سبيل المثال، تحدّثت أخيراً محامية مصرية عن اختفاء أخيها أحمد حسن مصطفى أكثر من ألفي يوم منذ قبض عليه في أحد شوارع القاهرة من دون أي تحرّك من النيابة العامة، رغم تقديم بلاغات متكرّرة إلى النائب العام منذ 2019. من ناحية أخرى، تُجدَّد قرارات الحبس الاحتياطي ضد كثيرين بقرارات من القضاة، رغم انتهاء مدة حبسهم الاحتياطي، كما ينص عليه القانون الحالي، مثل استمرار حبس الأكاديمي أحمد التهامي والناشط السياسي شريف الروبي. كذلك إن قرارات المحاكم بوضع مصريين، بينهم إعلاميون وحقوقيون وسياسيون على قوائم الإرهاب لسنوات، بما تحمله تلك القرارات من تداعيات جسيمة على حياتهم اليومية، وتصرّفاتهم في ممتلكاتهم، وحرية تنقلهم، تستند فقط إلى تحريات الأجهزة الأمنية من دون تقديم أدلة ملموسة تشير إلى انخراط الأفراد في تنظيمات إرهابية أو المشاركة في أعمال عنيفة. علاوة على أن كثيراً من قرارات المنع من السفر أو ترقب الوصول التي استُهدف بها آلافٌ من السياسيين اتُّخذت من خلال النيابة العامة والقضاة.
كشفت إحدى سوابق المحاكمات الجنائية الشهيرة لأعضاء النظام الألماني النازي في نورمبرغ عام 1947، والمعروفة "بمحاكمة القضاء" أو "قضية العدالة"، عن آليات تحويل النظام القانوني والقضائي لخدمة نظام استبدادي وقمعي، وإضفاء مشروعية لما يرتكبه من جرائم. وقد ركّزت تلك المحاكمة على القضاة والمسؤولية في النظام القضائي الألماني الذي ساهم في تنفيذ سياسات نظام الحكم النازي. وما كان للقمع والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان أن تستفحل بهذا الشكل في مصر منذ نهاية عام 2013 من دون مباركة أو تغطية من الأجنحة المختلفة للنظام القضائي في البلاد وبالمخالفة لنصوص أو روح نصوص القوانين والدستور القائم. تبقى مقاومة مشروع قانون الإجراءات الجنائية الموجّهة بالأساس ضد العدالة مسألة ضرورية وواجبة، لكن ضمان العدالة وحرية الأفراد وسلامتهم في مصر حالياً ستظل مهدّدة من دون توافر رغبة وإرادة سياسية من أعلى مستويات الحكم، وفي إطار ضمانات الفصل بين السلطات، وحماية مهنية أجهزة السلطة القضائية واستقلالها.