الحوار الوطني ومأساة الحبس الاحتياطي في مصر
عندما أواجَه بسؤال في المنتديات الحقوقية الدولية عن أولوية الإصلاح المطلوبة لتحسين وضعية حقوق الإنسان في مصر يكون ردّي، بلا تردّد، هو ضرورة ضمان شعور المصريين بالحد الأدنى من الحقّ في الحرية والأمن الشخصي. في غياب الشعور بالحد الأدنى من الأمان والسلامة الشخصية في التعامل مع السلطات العامة والأجهزة الأمنية، لن يستطيع النشطاء المصريون المنفيون خارج البلاد العودة إلى مصر، حتى وإن دعتهم السلطة إلى العودة، وتصبح أيّ دعاية لحدوث انفراجة حقوقية مجرّد لغو فارغ وخداع للرأي العام الداخلي والدولي. يمكن أن يتعرّض أي شخص في مصر، ناشطاً سياسياً كان أم مواطناً عادياً، للاعتقال في أي وقت، ويخضع للحبس الاحتياطي في ظروف إنسانية قاسية لسنوات، من دون أي ضمانات جادّة للعدالة الجنائية. الأصل لعدالة الأنظمة الجنائية افتراض إخلاء سبيل المتهم على ذمّة التحقيقات، مع إمكانية وجود ضمانات مختلفة تلزمه بالتعاون مع جهات التحقيق. وتلجأ أجهزة التحقيق للحبس الاحتياطي فقط بشكل استثنائي وبشكل ضيق عندما يكون ذلك الإجراء ضرورياً لمنع متهم من الهروب أو حماية لآخرين أو منع وقوع جريمة أخرى. وفي كثير من البلدان يحق لأي محبوس التظلم الفوري ضد اعتقاله أمام القضاء المستقل والمحايد. التضييق في اللجوء إلى الحبس الاحتياطي هو أمر تقتضيه حماية حقوق المتهم وضمانات المحاكمة العادلة، في مقدمتها مبدأ افتراض براءة المتهم، وحماية الحق في الحرية والأمان الشخصي.
يمكن أن يتعرّض أي شخص في مصر، ناشطاً سياسياً كان أم مواطناً عادياً، للاعتقال في أي وقت
على النقيض من ذلك، الأصل في مصر، ومنذ عقود طويلة، تعرّض المتهمين والمشتبه بهم للحبس الاحتياطي. وعادة ما يتسم أسلوب النيابة العامة بالانتقائية وعدم الاتساق في قراراتها المتعلقة بإخلاء سبيل أو حبس متهمين على ذمة التحقيقات. وقد توحّشت ظاهرة الحبس الاحتياطي في السنوات الأخيرة مع إجراء عدة تعديلات لقانون الإجراءات الجنائية، وتبنّي قوانين مكافحة الإرهاب، والتي أمدّت الأجهزة الأمنية والنيابة العامة والمحاكم بصلاحيات أكبر في التحفّظ على الأفراد، وإصدار (وتجديد) قرارات الحبس الاحتياطي، والذي تحوّل إلى عقاب في حد ذاته بدون محاكمة. ويسهّل من التوسّع في استخدام الحبس الاحتياطي غموض تعريف جرائم عديدة في قانون العقوبات، والتي تستخدم فقط في مواجهة النشاط السياسي أو الحقوقي أو الإعلامي السلمي.
ولم يعد القانون، حتى بكل سوءاته، المعيار في خضوع المصريين للحبس الاحتياطي المطوّل مع ابتداع أساليب جديده لتحايل الأجهزة الأمنية على القانون، من أهمها ما تُعرف "بظاهرة تدوير المعتقلين على القضايا الجنائية"، والتي تضمن أن المغضوب عليهم سيستمرّون رهن الحبس الاحتياطي على ذمة كوكتيل من القضايا والاتهامات المفبركة التي تضمن فقط مدّ الحبس وتجديده طوال الوقت من دون انتهاء صلاحيته القانونية. ويعدّ استمرار اعتقال أستاذ العلوم السياسية أحمد التهامي أحد النماذج الفجة لاستخدام سلاح الحبس الاحتياطي. وقد جرى إلقاء القبض على التهامي في يونيو/ حزيران 2020، وظل قيد الاختفاء القسري لدى الأمن الوطني 17 يوماً، ثم خضع للتحقيق أمام النيابة العامة التي اتهمته بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار وبيانات كاذبة، ثم وضع رهن الحبس الاحتياطي للعام الرابع بتجاوز المدّة القانونية المسموح بها الحبس الاحتياطي في قضيته.
يدخل تفشّي الاعتقالات التعسفية والتوظيف غير المبرّر للحبس الاحتياطي في صلب الصراع السياسي الصفري في مصر بين السلطة ومعارضيها
وقد خصّص الحوار الوطني، أخيراً، جلسة حظيت بتغطية إعلامية واسعة في مصر، لمناقشة موضوع الحبس الاحتياطي وإصلاح منظومة العدالة الجنائية في مصر، شارك فيها معتقلون سياسيون سابقون مفرج عنهم حديثاً، وكانت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السياسي في سبتمبر/ أيلول 2021 قد اعتبرت أن التوسّع في الحبس الاحتياطي يشكل تهديدا للحق في الحرية الشخصية، وأوصت بإدخال تعديلاتٍ على نظام الحبس الاحتياطي. وفيما يهدف إجراء هذا الحبس إلى حماية سير التحقيقات في القضايا الجنائية، تخضع مصر لدورة جديدة للاستعراض الدوري الشامل لملف حقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في جنيف في يناير/ كانون الثاني المقبل، وقد يكون الإسراع حاليا في عقد جلسات جديدة للحوار الوطني مخصّصة لموضوعات حقوق الإنسان في إطار التمهيد لجلسة جنيف، ومحاولة إعداد مؤشّرات إيجابية يمكن تسويقها للمجتمع الدولي في الجلسة، خصوصاً أن الحكومة تعرّضت لانتقادات حادّة كانت بمثابة الفضيحة الدولية في دورة الاستعراض الدوري الشامل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. ومع التسليم بحسن النيات والجدّية لدى مشاركين كثيرين في هذه الجلسة، خصوصاً من أصحاب الخلفية الحقوقية، تبقى جدّية هذا المسار ونجاحه مرهوناً بمدى قبول السلطة الحاكمة والأجهزة الأمنية والسيادية واستعدادها للتفاعل معه، وخصوصاً أنه قبل يوم من انعقاد جلسة الحوار الوطني، اعتقل رسام الكاريكاتير أشرف عمر، ووجهت له الاتهامات المعتادة في مثل هذه القضايا، مثل "نشر أخبار كاذبة"، و"الانضمام لجماعة إرهابية"، و"سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي"، وقرّرت النيابة حبسه احتياطياً 15 يوماً. ما نشر عن وقائع الاعتقال نفسها لأشرف عمر من بيته ووسط أهله مروّعة، وكأن الدولة في مواجهة مجرم له سجل خطير في الإجرام.
ليس تعديل نظام الحبس الاحتياطي في السياق المصري الراهن مسألة تقنية تتطلب إصلاحات تشريعية وحسب بدون حد أدنى من المكاشفة السياسية والمصالحة المجتمعية. يدخل تفشّي الاعتقالات التعسفية والتوظيف غير المبرّر للحبس الاحتياطي في صلب الصراع السياسي الصفري الممتد منذ سنوات في البلاد بين السلطة ومعارضيها ومنتقديها، والتعامل معه كاشف عن مدى الإرادة السياسية لنخبة الحكم في تغيير النهج الأمني والسياسي في التعامل مع المعارضة والمجتمع المدني، والمجتمع المصري ككل.