السُّودان: طويل الحَـربِ يُغـرِي بالتأسّـي

16 يونيو 2024
+ الخط -

(1)

ليست الحرب في السودان مثل حرب روسيا على أوكرانيا، فتلك مبارزة مهما بلغت درجات القتل والدمار، فإنها تظلّ صراعاً بين ندّين، سينتصر الأقوى منهما على الآخر الأضعف، ويبقى الأقوى على قوّته والأضعف على ضعفه. كلا... ولم تكن حرب السودان كحرب إسرائيل على فلسطين، ينازع عبرها كيان مصنوع للبقاء على أرضٍ ليست له، ويستعجل إفناء سكّانها الأصليين بإلغاء وجودهم الثـقـافي قبل الاجتماعي، ومحو تراثهم الحضاري قبل إرثهم التقليدي، وإحلال لغتهم العبرية لساناً يقاتل اللسان العربي في عقر موقعه الجغرافي التليـد. كلا... وليست حرب السودان أهلية تدور رحاها بين السودانيين، طائفة ســودانية تصارع أخرى، أو جماعة عقائدية تخالف أخرى، أو عصابة تقاتل عصــابة ولا شـرعـية لكليهما.

تنظر إلى كلّ تلك الحروب من حولك، ثم ترى أن المجتمع الدولي، وهو كيان هلامي قد يصعب تصنيفه كياناً ناعماً أو صلباً، لا يحـتـار في تقيـيم الذي يجري من قـتال بين روســيا وأوكرانيا، كما لا يحتار في تقييم القتال الدائر بين إسرائيل، وهي كيان مصنوع يقاتل كياناً فلسطينياً أصيلاً في أرضه. غير أن الحرب في السودان، وقد كان أكبر بلدان القارّة الأفريقية، مساحة في الجغرافيا، وثراءً في خصوبة الأرض وفي الموارد الباطنة والظاهرة، هي التي شكّلتْ الحيرة الكبرى، فلا يعرف لها نهاية في الأرض، ولا سلاماً يهبط عليها من السماء. حملت حرب السودان وجوهاً من حرب روســيا ومن حرب إسرائيل، فكلتا الحربين تدوران حول وجهين رئيسين: الهوية والانتماء، فحملت حرب السودان الكثير منهما.

(2)

تدور الحرب في السودان ولا يرى المتابعون نهاية لها، في حين نسمع المناشدات والمبادرات والبيانات تترى، فكأنها جعجعة في أمكنتها فلا طحن يرى، بل هو طحن البشر وإفناء الناس ودمار الدولة ومحو إرثها تاريخياً، وتجزئة أرضها جغرافيّاً. ذلك أن تلكم النيات الطيبة والمناشدات الكريمة لا تتجاوز طبيعة نظراتها القاصرة، فلا يرى أصحابها إلا أن تقف الحرب ليبدأ السلام. تلك نظرات الغافلين، يبسّطون أمور ذلك الصراع من دون الولوج إلى أعماق جذوره. ليس لمعضلة السودان وأزماتها من حلٍّ، إلا نبش حقائق التاريخ، فيكون لعلماء التاريخ نظر في نشأة بلاد السودان في القارّة الأفريقية قروناً قبل القرون الميلادية في وادي النيل، ثم لعلماء الاجتماع نظر في تركيبة سكانه بأماني بعضهم الرغبوية لتجاوز اللسان والثقافة العربية المكتسبة، إلى الانتماء العرقي المتوهّم إلى عروبة متخيّلة ولا وجود لها، إلا على المستوى السياسي المحض. لربما يُغضب ما أكتب أطرافاً لا توافقني الرأي، من السودانيين ومن سواهم، لكن النظر الموضوعي يظلّ مربط التحليل وأسّ الكلام المنطقي.

الوكلاء داخل الســودان هُـم مَــن يتلقون الإمداد والعون العسكري لاستمرار حربٍ يقف المجتمع الدولي حائراً أمام مجرياتها

لا أطرح أسئلة من نوع: لماذا يظهر التعاطف كبيراً من دول عربية نحو حرب الفلسطينيين ضد إسرائيل، مقارناً بضعفه نحو حرب السودانيين مع أنفسهم؟ إذ ربما كانت لمثل هذه الأسئلة مشروعية ما ولها إجابات حاضرة، غير أن حرب السودان تحمل وجوهاً واضحة المعالم لمواجهات بين طوائف ومجموعات إثنية وتكوينات قبلية، ستعطي بعداً خطيراً يدفع أطراف حرب السودانيين فيما بينهم، إلى ما يشبه التصفية العرقية والإبادة شبه الجماعية والقتل على الهوية. لكني أطرح اسئلة أخرى هنا: هل لأصحاب المبادرات رغبات جادّة لإيقاف حرب جيش السودان، وهو جيش يتشكك بعضهم في قوميته، ضد قوات الدعم السريع التي يراها الجيش من رفعت رايات التمرّد ضد الوطن؟ هل لهم كامل المعرفة والإدراك بجذور الصراع الدائر؟ هل يرون جذور هذه الحرب الدائرة ومن يقف وراءها من محرِّضين والغين بطريق غير مباشر في القتال في الخرطوم وأم درمان، مثلما هو دائر في دارفور غربي السودان؟ هل يرونه محض صراع داخلي أم أن الصورة أبعد من ذلك؟.

دولة السودان الحالية، وإن كانت في قلب القارة الأفريقية، محاطة بسبعة بلدان، نالت استقلالها في الأعوام الوسيطة من القــرن العشــرين، من فرنسا وبريطانيا. ترى هل انقطعت كلّ الخيوط الكولونيالية مع هـــذه البلدان، أم ما زالت تحمل في حقائبها خيوطاً خفية في جيناتها لروبط تاريخية، تمثلها اتحادات وروابط ابتدعها الكولونياليون، مثل رابطـة دول الكومونولث ورابطـة البــلـدان الفرانكفونية؟

(3)

ثروات القارة الأفريقية هي ما تطمع في الحصول عليه أطراف من القـــوى الكبرى، ولها في ذلك من الخطط للسيطرة على دول أفريقــية كثيرة بالترغيب كـما بالترهيب. وهل لظاهرة الانقلابات العسكرية المتواترة في القارّة من تفسير غير نشاط أصابع التآمر الخارجي ومنافسات تلك الأطراف في الهيمنة الظالمة، خصوصاً في بلدان غرب أفريقيا؟ ولا تغفل عيون المراقبين أساليب التآمر والسيطرة غير المباشرة، أولاً عبر أســـاليب الترغيب في الرشاوى السياسية والاقتصادية، وثانياً عبر أســـاليب الترهيب بفزّاعــة الإرهـــاب الدولي والتلويح بخطر "الإسلاموفوبيا" المتوهّم. لا تتورّع دول كبرى أو متوسّطة النفوذ من لعــب أدوار السماسرة لأكل ما ترك السبع، والتقاط الفتات من موائد الكبار. ما أسهل أن يجد أصحاب المصالح من يشترون من وكلاء ضــعاف نفوس في بلدان العالم الفقير، فيحـــرّكونهم كالبـيادق، فاقدي الإرادة في لوحـة شطرنج السياسة.

لتقول دول الإقليم ومنظماته، مثل الاتحاد الأفريقــي وجامعة الدول العربية، لبعض أعضائها ممن صبّ الزيت في حـــرب السودان، أن يكفّ يديه

ولك أن ترى كيف تموّل أطراف خارجية حرب السودان، فتجد المؤن والذخائر والمدرّعات والطائرات والمسيّرات طرقها إلى أطراف الحرب، تنساب تســلّلاً من بعض بلــدان جـــوار السودان. لا يملك السودان حالياً مؤسّسة أو مصنعاً أو منشأة يمكن أن تموّل المقاتلين في حربٍ تبيد المدنيين في السّودان، وتدفع الملايين منهم إلى خارج حدوده، هروباً من قتالٍ لا ناقة لهم فيه لا جمل، بل لا بندقية لهم فيه ولا مسيّرة. الوكلاء داخل الســودان، ويا للأسف، هُـم مَــن يتلقون الإمداد والعون العسكري لاستمرار حربٍ يقف المجتمع الدولي حائراً أمام مجرياتها، فلا يكاد يرى جذور الأزمة في أكبر البلدان الأفريقية. تظل المبادرات والمناشدات للجمع بين أطراف تتقاتل في السودان وتوالي إرسال الدعوة تلو الدعوة للحوار في جدّة لإيقاف الحرب في السودان.

أيها المبادرون وأيها المناشدون: انظروا ملياً، إذ ليس أمراء تلك الحرب هم من ترون داخل السودان، بل هم خارج حدوده. أما المجتمع الدولي وممثليته التي أرهقها الاستخفاف، فلها أن تعالج تراجع إرادتها تجاه القوى الكبرى، وفيهم من ملك زمام القرارات في مجلس الأمن، وله يد والغة في حرب السودان. أما دول الإقليم ومنظماته، مثل الاتحاد الأفريقــي وجامعة الدول العربية، فلتفصح اللسان، وتقول لبعض أعضائها ممن صبّ الزيت في حـــرب السودان، جرياً وراء مصالح اقتصادية دنيوية ضيقة، أن يكفّ يديه، فلا يليق بدولةٍ عضو في أيٍّ من المنظمتين أن تمعن في التآمر لتمزيق دولة السودان التي شاركت في تأسيس هاتين المنظمتين، ولا يبقى للسودانيين النازحين عن بلادهم إلا التأسّي.