أين موقع حرب السودان في المناظرات الأميركية؟

06 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

(1)

حينما ودّع المجتمع الدولي في العقد الأخير من الألفية الثانية كياناً مصنوعاً من عدة دول اسمه الاتحاد السوفييتي، كان ذلك إيذاناً بتحوّلٍ كاسحٍ في الساحة الدولية، وبات واضحاً أن الساحة الدولية قد ودّعتْ، وقتها، حقبة مهمّة استمرّت منذ انتهاء الحرب العالميـة الثانية، وحتى تسعينيات تلك الألفـية، هي ما ظلتْ توصف بحقبة الحرب الباردة.

وليس غائباً على المتابعين أن الحرب العالمية الثانية شكلت محطّة تغيير كبير في تثبيت حق الشعوب في تقرير مصائرها، فكانت المنظّمة الأممية التي أنشئت بهدف أساسي، هو حفظ الأمن والسلم الدوليين، بهدف أن لا تقع أي حرب عالمية ثالثة. واقتضت تلك السياسة إقرار نظام للتعايش السلمي تنال بمقتضاه كل الشعوب حقها في الحرية والاستقلال، وإنهاء الاستعمار الكولونيالي، والعمل على الحدّ من التسلح وتعزيز الحقوق العامة للإنسان. على أن مثل هذه المفاهيم لم تمنع التنافس السياسي والاقتصادي بين مختلف القوى الكبرى التي أنشئت ودعمت ذلك النظام الدولي، من أن تبدأ تنافساً خفياً في تلك الحقبة، حمل اسم حقبة الحرب الباردة.

(2)

غير أن تناقص الموارد الطبيعية، مع الانفجار السكاني في العالم، شكّلا مع قضايا أخــرى بعد ذلك، تحدياتٍ، برزتْ معها نوازع للتنافس في السيطرة الاقتصادية والسياسية، بين عناصر وأطـراف في المجتمع الدولي لم تفلح معه كوابح للحـدِّ من جنوح الأطراف الأقـوى للســيطرة على قوى أخرى، فجرى استضعاف ممنهج بعد ذلك، كثر الحديث عن عالم أول وثالث، ولم يتم تعريف كتلته الثانية. إلا أن العالم بدأ يدخل، بعد حقبة الحرب الباردة، إلى حقـبة من الكولونيالية الاستعمارية بلبوس مختلف، وبمواصفات جديدة، ومسمّيات في الساحة الدولية، أساسها مبدأ رعاية الأكبر للأصغر والأقوى للأضعف. ولعلك ترى وتسمع لطبيعة التعاون الدولي وقد نشــأت في جنباته منظماتٌ وتكويناتٌ دولية وشبه دولية وإقليمية، تحت مظلة الدبلوماسية الجماعـيـة المشروعة، مثل الكومـونولث والفرانكفــونية، تنظـم الاقتصــاد والتجــارة والثقافـة، وتعنى بقضــايا التكنولوجيا والاتصالات والمنــاخ والبيـئـة وســــواها.

يبقى الأقوياء هم الأقوياء القادرون على السيطرة المستوحشـة أو الناعــمة

(3)

من الطبيعي أن تعمد الدول، كلّ الدول، إلى التعاون في أجواء سلمية، إلا أن تناقص المواد الأولية والطبيعية يحفّـز سلباً نزعات المطامع والاستحواذ، ومن ثم إعادة سياسات الســيطرة، والتي في غلوها، أفضت إلى حروب إقليمية طاحنة. ومع التـقـدم العلمـي، انكشــف العــالـم وشــعوبه بوتيرات غير مسبوقة بعضُه على أحوال بعض، بعد ثورات الاتصالات والتقـنيات الرقمية. ولعلّ ذلك ما جعل شعوب العالم كأنها تحـيا في نطــاق أســـرة واحدة تقتسم خيـمة افتراضية، تتمازج فيها الأهواء بتناقضاتها، وتختلط فيها الرغائب بالسويّ منها والشرير.

لكن يبقى الأقوياء هم الأقوياء القادرون على السيطرة المستوحشـة أو الناعــمة، وترى المستضعفين، وإن كاد بعضهم أن يستكبر في توهّـمٍ كاذب فيما هم أيضاً عرضــة لنزعــات الكولونيالية الجديدة وهجماتها.

(4)

لو نظرت ملياً في الخلفية المشار إليها هنا إلى سماتها، لك أن تتابع في الفضــائيات احتدام ما جـرى في المناظرات في الولايات المتحدة هذه الأيام، بين من يترشّحون لإدارة الأمور الداخلية والخارجية فيها، احتداماً بلغت ســـخونته درجات غير مســبوقة. فـي المناظرة أخيراً بين المرشّحين لانتخابات الرئاسة الأميركية، الديمقراطية هاريس الجمهوري ترامب، فتح الاثنان ملفات السياسة الخارجية حول ما يدور في السَّــاحة الدولية، وما يتصل بالمصـــالح الحيـوية الخارجية للولايات المتحدة، واكتفيا بمناقشة الحربين في غزّة وفي أوكرانيا، ثم تناولا تداعيات الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

مع التـقـدم العلمـي، انكشــف العــالـم وشــعوبه بوتيرات غير مسبوقة بعضُه على أحوال بعض

وفي معرض مناقشاتهما، أشارت المرشّحة كامالا هاريس إلى ما خلفتْ الحرب المدمّرة في غـزّة من القتلى من النساء والأطفال، كما أشـــار ترامب، في المناظرة، إلى ملايين أوكرانيين متأثرين جراء الحرب الروسية ضد بلدهم، وأشار إلى قدرته لإيقافها في ساعات لو أتيحت له الفرصة.

(5)

لن يجد من تابع المناظرة من أوّلها إلى منتهاها ســؤالاً واحــداً من منظّميها عن الحرب الدائرة في السودان منذ قرابة عامين، والتي هلك فيها الآلآف ودُمِّر فيها بلدٌ هو ثالث أكبر بلد في القارة الأفريقية من حيث المساحة والسكان والموارد. ومن ثم، لم يرَ أيٌّ من المشاركين في المناظرة: من منظّميها أو مِن طرفيها المتنافسـين، ما يحيلهم إلى النظـر في مأساة حرب السودان مع وضوح الأصابع الأجنبية الوالغة فيها، وما لها من تداعـياتٍ على تدمير كامل مقوّمات الدولة الســودانية ومؤسّساتها، وإجبار الملايين من سكان البلاد إلى نزوحٍ داخلي وخارجي، وترك السودانيين عرضة للفناء بالقتل والمجاعات.

تناقص المواد الأولية والطبيعية يحفّـز سلباً نزعات المطامع والاستحواذ، ومن ثم إعادة سياسات الســيطرة

لو كانت حرب روســيا وأوكرانيا، وحرب إسرائيل في غــزّة، تهدّدان الأمن والسـلم الدوليين، فإنّ الاحتمالات واردة بأنْ تتحوّل تلكما الحربان إلى مواجهات يقف العالم بعـدها على شفير حرب كونية ثالثة، كما ألمح إلى ذلك أحد المرشـّـحين في تلك المناظرة الأميركـية، فإن كان للحربين المشار إليهما مساسٌ بالأمن والسلم الإقليميين، في أوروبا وفي الشرق الأوسـط، فإن حرب السودان لن تقل مساساً بالأمن والسلم في إقليمها.

(6)

أفرزت أجواء الكولونيالية الجديدة التي شــاعتْ في أنحاء الساحة الدولية واقعاً باتت فيه انتقائية واضحة، حتى في النظر إلى التداعيات الإنســانية للحروب في أنحاء عديدة من العـالم. ذلك ما يحيلنا إلى النظر بعمق لنكتشف أن الكوارث الانســانية جـرَّاء الحـــروب صارت من الحالات التي يجري التعامل معها بتمييز انتقائي يعتمد معايير ضيّقة لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية، بأنانية ظالمة من أعضاء في المجتمع الدولي.

تجاهل حالة الأوضاع الإنسانية الكارثية في حرب السودان، مقارناً بالاهتمام بالجوانب الإنسانية في الحربين اللتين تزامنتا مع حرب السودان (وإن اقتصــر على ما لوحظ فـي المناظرة الأميركية) أمـرٌ جـدير بالالتفات وملاحظة مدلولاته. ولربّما يحيلنا إلى ضرورة النظر، من جديد، في مدى إلزامية منظومة القوانين الدولية المتصلة بحقوق الإنسان، مبادئها وهياكلها ومفوضياتها، وليس فقط بحقوقه السياسية والاقتصادية وحرية التعبير.

بات جلياً أن الضرورات في حالات الحروب، وما بدا من انتقائية في معالجة تداعياتها الإنسانية، قد تقتضي تعـزيز الحـقِّ في الحيـاة أساسياً فوق أيّ حـقٍ آخـر، وذلك في عالم آخذ في الابتعـاد من مبادئه ومثاليات قـيمه، وجنح إلى إعلاء المصالح والمطامع فوق كلِّ مبــدأ.