هوامش على انتخاب ترامب رئيساً

10 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

(1)
مَن يقف في زاوية بعيدة ويطلّ على السّاحة التي جاءت بدونالد ترامب ثانيةً رئيساً للولايات المتحدة، انتخاباً عبر أقوى النظم الديمقراطية رسـوخاً في الظاهر، فسيرى في الصورة (في أبعادها الأكثر والأوسع شمولاً) واقعاً افتقد المنطق وفارق أكثر التوقّعات. شهد المتابعون واقعاً تساوت فيه فرص التقييم إيجاباً وسلباً بنسبتَين مئويتَين متساويتَين للمرشّحَين، اللذين تنافسا في الانتخابات. رجلٌ رأسَ الولايات المتحدة بين 2016 و2020، ولم ينجح في الفوز بفترة ثانية بسبب إخفاقاته في إدارة البلاد في سنوات فترته الأولى، يعود مرشّحاً من حزبه ثانية ويفوز في انتخابات 2024 على منافسته المرشّحة عن الحزب الديمقراطي، رئيساً للولايات المتحدة من جديد.
يجد أيّ متابع للأوضاع السياسية في الولايات المتحدة أن ثمّـة عوامل ألقت ظلالاً كثيفة لهذه التطوّرات في أساليب الإدارة والحكم، في دولة هي من أقوى الكيانات السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم.
(2)
لعـلَّ أولى الملاحظات تتصل بالمستوى الذي بلغته مؤثّرات التقدم العلمي والتكنولوجي في تيسير التواصل والاتصـال بعد ثورة المعلوماتية والتطبيقات الرقمية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. إذ مع اتباع أساليب محكمة في إدارة المشاركة الديمقراطية والانتخابات، صار التشكك في التحقّق من نتائج الانتخابات غير وارد، كذلك بلغت الشفافية مستوىً لا تقع معه أيّ تجاوزات من تزوير أو إهمال متعمّد أو غير متعمّد.
في الوقت نفسه، وبالنسبة إلى الناخبين، صاروا أكثر عرضة لتأثيرات إعلام كاسح وذي خطر، وله من الوسـائل والأساليب ما وفّرتها ثورات التواصل الرقمية والتقنيات المحدثة. لم يعد تشكيل الرأي العام في أي مجتمع تحدثه تلك الفضائيات وأجهزة الإعلام الكاسحة، بل تشـارك في صياغته (تأثيراً وتفاعلاً) وسائلُ التواصل الاجتماعي المباشر، مثل "واتساب" و"فيسبوك" و"إنستغرام" و"إكس"، وما جدّ غيرها من منصَّـات ومنابر.

صار للقدرات الشخصية، وليس لرصانة مواقف الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، الأثر الأكبر في ترجيح كفّة أيّ من المرشَّحَين

(3)
في النظر إلى طبيعة الأجهزة الإعلامية من صحافة مشاهدة عبر الفضائيات ومنصَّات التواصل، أو تلك المقروءة في نسخها الورقية أو الناعمة، أو حتى المسموعة، لم تعد قدرات التفاعل المباشر معها في اتجاه واحد، بل صارت عمليات التأثير في الرأي العام أكثر تعقيداً، ولربّما منصّة ينشئها شخص واحد تترك أثراً يعادل ما تحدثه قناة فضائية كاملة. وبلغ التعقيد في الانتخابات الأميركية، وفي التنافس السياسي بين المرشّحين، درجاتٍ يجري معها التلاعـب عبر المواقع الإلكترونية، سواء من داخل الولايات المتحدة أو حتى من خارجها. ثمّة ما تواتر عن اتهامات أحياناً طاولت روسيا وإيران بمحاولات لتخريب مواقع إلكترونية لأطراف سياسية في الولايات المتحدة.
لم تعد الصورة مثلما كانت في سـبعينيّات القـرن الماضي من الدخول خلسةً إلى مكاتب الأحزاب السياسية المنافسة والتجسّس على مرشّح الحزب المنافس، مثل ما وقع في فـضيحة ووترغيت التي أطاحت الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون.
(4)
الملاحظ هذه المرّة في الانتخابات الأميركية أن يكون للصحافة التي توصف بـ"التابلويد" دورٌ لافتٌ، فما تعـرَّض له ترامب من اتهامات كادت تقضي على مستقبله السياسي برمّته، كان من الموضوعات التي عادة تخوض فيها هذه الصحافة التقليدية. لم يكن غريباً في الانتخابات أن تخوض في مثل تلك الأمور فضائيات أميركية رصينة مثل "سي أن أن"، وأوروبية مثل "بي بي سي".
الاهتمام بمثل تلك التغطيات التي كانت تعدّ من الترّهات، نجدها قد احتلت حيّزاً معتبراً، بما يعطي انطباعاً بأن ثمّة تحوّلات في طبيعة الأجهـزة الإعلامية نحو الميل إلى تعزيز النواحي "الشعبوية" (إذا جاز التعبير) لانتخاباتٍ قُدّر لها أن تأتي بالرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
(5)
هنالـك ملاحظة، وإن كانت أخيرة، لكنّها أهم ما لاحظه المتابعون في هذه الانتخابات. لعلّ تراجع الاختلافات بين الحزبين الرئيسين، الديمقراطي والجمهوري، في ما يتّصل بعموميات السياسات الداخلية والخارجية، قد أدّى إلى اهتمام ملحوظ بأهمية القدرات الشخصية في عملية التفضيل بين المرشّحين الرئيسيين. لذا، تركت المناظرات بين المرشّحين أثراً بليغاً في تحديد احتمالات فوز أحدهما على الآخر. لعلَّ مـن اللافت أنّ إشـارة بعضهم إلى أن أداء الرئيس جـو بايدن حين رشّح نفسه منافساً للمرشّح الجمهوري دونالد ترامب، لم يكن مقنعاً بما يكفي، وكان ذلك مـن أسباب إضعاف فرص المرشّحة الديمقراطية البديلة كامالا هاريس.
ولربّما لم يكن ذلك سبباً رئيساً، بل إنَّ إمساك الرئيس المغـادر (بايدن) بالملفّات كافّة خلال فترة حكمه، لم يمنح هاريس، وهي نائبته، ما يساعد الناخبين في تقييم قدراتها السياسية. لقد خبر الناخبون (الشعبويون بخاصّة) خبراتٍ تراكمت لدى ترامب، فيما لم يروا عند هاريس تلك الخبرات.

لعلّ المناظرات شكّلت السّاحة التي أتاحتْ للناخبين فرصاً للتقييم الحقيقي للقدرات الشخصية على الأداء، أكثر من طرح الحجّة والمنطق

(6)
لعلَّ حال الأحزاب والتيارات السياسية في الساحة الأميركية لا يغيب عن نظر المتابعين. لقد صار للقدرات الشخصية، وليس لرصانة مواقف تلك الأحزاب، الأثر الأكبر في ترجيح كفّة أيّ من المرشّحين، ترامب عن الحزب الجمهوري وهاريس عن الحزب الديمقراطي. ليس ذلك وحده، بل كان للمظهر العامّ والملامح التعبيرية وأسلوب الظهورالمسرحي في اللقاءات الجماهيرية أثر ملاحظ؛ لهاريس تلك الملامح الضاحكة في مقابل الصرامة عند ترامب، ذلك الخارج من ضغوط اتهامات ومحاكمات هـدَّدت ترشّحه بصورة جادّة.
هكذا، لم تكن لسياسات أيّ من الحزبين (رغم آثارها المعتبرة في ترجيح المرشّحين) كبير أهمية في تقييم الناخبين لهم. ولعلّ المناظرات شكّلت السّاحة التي أتاحتْ للناخبين فرصاً عبر البثّ المباشر إعلامياً للتقييم الحقيقي للقدرات الشخصية على الأداء، أكثر من طرح الحجّة والمنطق، على أهميتهما.