في الردّ على إعلان الحكومة الألمانية "الحرب على الشعب الفلسطيني"

18 يناير 2024

مطالبة بوقف الإبادة الجماعية في غزة في مظاهرة في برلين (6/1/2023 الأناضول)

+ الخط -

كان الردّ الأولي للحكومة الألمانية على أحداث 7 أكتوبر تعليق المساعدات المالية "للشعب الفلسطيني". ورغم غرابة الموقف، عندما تستهدف هذه الحكومة "الشعب الفلسطيني" بقرارها هذا، لا فصيلاً سياسياً معيّناً أو منظمة حكومية أو غير حكومية، إلا أنه لم يثر تساؤلاتٍ كثيرة حينئذ، على اعتبار أن ألمانيا لم تكن الدولة الغربية الوحيدة التي تنحاز في العادة لإسرائيل، وكذلك إن الحديث عن مساعدات مالية، وهذا من حقّها، تعطيها لمن تريد وتحجبها عمّن لا تريد.

أمّا ما لا يحقّ للحكومة الألمانية، بعد ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، فهو أن تعلن مشاركتها، وليس فقط تواطؤها، مع إسرائيل في الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزّة من خلال الانضمام إلى محكمة العدل الدولية طرفاً ثالثاً للتغطية على جرائم الحرب التي ترتكبها أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً، والسماح لها بالاستمرار فيها من دون رادع من القانون الدولي يوقفها عن جريمتها. وبذلك، تعلن الحكومة الألمانية الحرب على الشعب الفلسطيني، لكون الإبادة الجماعية تُرتكب بحقّ الشعب كله، وليس فصيل سياسي معيّن، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: كيف يمكن أن نفهم هذا التصرّف من الحكومة الألمانية، خصوصاً الدوافع وراءه؟

لنعترف، في البداية، بأنّ موقف الحكومة الألمانية الحالية التي يرأسها أولاف شولتز والمنتمية إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) لا ينسجم مع الموقف التاريخي الذي لعبته الحكومات الألمانية السابقة المنتمية إلى هذا الحزب جميعها، حيث بذلت جهوداً كبيرة لتكون جزءاً من الحلّ، وليس طرفاً شريكاً في الصراع، فحافظت على توازن نسبي دعمت فيه إسرائيل، ولكنها أخذت موقفاً واضحاً في ما يخصّ تحقيق المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة على حدود 1967، ومقالة ممثل مؤسّسة فريدريش إيبرت (التابعة للحزب الحاكم SPD) في الولايات المتحدة، نت ديثليفسين، في مجلة فورين بوليس في 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، توضح بشكل كبير الانحراف الحالي لحكومة شولتز عن المواقف التاريخية للحزب عندما كان حاكماً.

قد تساعدنا ثلاثة عوامل على فهم موقف الحكومة الألمانية الحالية. أولاً، التفسير التقليدي الذي يُعطى دوماً لانحياز ألمانيا لإسرائيل، شعورها بعقدة الذنب تجاه اليهود والمحرقة خلال الحرب العالمية الثانية التي نفذتها الحكومة الألمانية بحقّهم، وهو تفسيرٌ مهم يخبرنا كيف تعمل الحكومات الألمانية للتعويض عمّا اقترف بحقّ اليهود، ولكنه لا يخبرنا كيف يمكن للشعور بعقدة الذنب أن يسبّب انتهاكات للحكومة الألمانية بحقّ شعب آخر أعزل (الشعب الفلسطيني) يرزح تحت الاحتلال ويتعرّض، في الوقت الحالي، لإبادة جماعية ليكون ضحيّة الضحيّة، وبذلك تنزلق الحكومة الألمانية رويداً رويداً لتصبح شريكاً في إبادة جماعية جديدة، عوضاً عن أن تكفّر عن ذنبها في الإبادة الأولى.

السلطة الفلسطينية مطالبة بقطع علاقتها مع الحكومة الألمانية الحالية حتى ترتدع عن عدوانها على الشعب الفلسطيني

قامت ألمانيا بكل ما هو ممكن للتعويض عما اقترفته بحق اليهود في الأربعينيات، من اعتذارات وتعويضات مالية وسنّ قوانين تمنع حتى البحث في المحرقة، وهو ما لم تقم به دول أخرى اقترفت آثاماً وجرائم بحق شعوب أخرى، مثل بريطانيا التي سبّبت نكبةَ الشعب الفلسطيني ومعاناته بوعد بلفور المشؤوم (1917) الذي لم تقدّم حتى الاعتذار عنه بعد أكثر من مائة عام.

ثانياً، هناك سبب آخر يتمثل ربما بـ"عنصرية الحكومة الألمانية" وتعاملها مع الشعوب الأخرى على درجاتٍ مختلفة من حقوقها وانتماءاتها إلى الإنسانية، فبالنظر الى تاريخ ألمانيا نفسها، يُلاحظ أن الإبادة الجماعية، للأسف، متأصّلة بتاريخها، كتلك الإبادة التي ارتكبتها ألمانيا (القيصرية) الاستعمارية بحقّ شعوب الهيريرو والماما في ناميبيا (1904 – 1908)، والتي راح ضحيّتها أكثر من مائة الف مواطن، بسبب ثورتهم على المستعمر الألماني. فلم تعترف ألمانيا بـ"الإبادة الجماعية" التي ارتكبتها في ناميبيا إلا عام 2015، أي بعد أكثر من مائة عام، لتعتذر عنها، ولم تقدّم تعويضاً عن الإبادة التي ارتكبتها سوى 1,1 مليار يورو تدفع على مدار 30 عاماً على هيئة مساعدات تنموية، وهذا كل ما في الأمر. يبدو هنا أن الضحايا درجات، فهذا ثمن الإبادة للناميبي الأسود واعتراف بعد مائة عام، والابادة للفلسطيني البني ليس فقط من دون ثمن، ولكن أيضاً المساهمة فيها بتوفير الغطاء لمرتكبيها من فاشيي الحكومة الإسرائيلية. أما التكفير عن ذنب الإبادة لليهودي الأبيض لدى حكومة شولتز العنصرية فيستمر إلى الأبد، حتى لو تطلب ذلك المساهمة بإبادة جماعية جديدة يدفع ثمنها "الفلسطيني البني". وهنا يجدر التذكير بأن الأداة الرئيسية التي استخدمتها ألمانيا الاستعمارية في الإبادة الجماعية في ناميبيا كانت "التجويع" و"التعطيش" للشعب الثائر، وهي من الأدوات التي تستخدمها إسرائيل اليوم بتجويع الشعب الفلسطيني في غزّة وتعطيشه، كما صرح وزير الحرب فيها، غالانت، عندما قال: لا غذاء ولا ماء إلى غزّة.

المقاطعة الاقتصادية للمنتَجات الألمانية أحد الخيارات المتوافرة لدى العرب والفلسطينيين، ولنتذكّر أن عنصرية الحكومة الألمانية وأيديولوجيتها تشملان العرب والمسلمين عموماً

ثالثاً، ربما ثمّة عاملٌ أيديولوجي يؤثر في موقف الحكومة الألمانية، فالمستهدف بالإبادة الحالية شعب عربي فلسطيني تقود المواجهة فيه حركة إسلامية، "إرهابية" كما تعتبرها الحكومة الألمانية، مقابل "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، كما يحلو للحكومات الغربية عموماً تسميتها، رغم تطبيقها نظام تمييز عنصري كريه بتصنيف منظمات حقوقية دولية، مثل هيومان رايتس ووتش و"العفو الدولية" وأخرى إسرائيلية، مثل بيتسيلم، فالحرب، في الوقت الحالي، برؤية الحكومة الألمانية، حرب "إرهاب إسلامي" ضد "ديمقراطية" على مقاييس غربية، ما يستدعي مشاركة الحكومة الألمانية بهذه الإبادة. ويحمل هذا الموقف مضامين ليس فقط للفلسطينيين، بل لشعوب المنطقة ككل، كيف تفهمها الحكومة الألمانية وما هو الثمن الذي تساويه لديها.

تعلن الحكومة الألمانية، إذن، الحرب على الشعب الفلسطيني وليس العكس. وعليه، من حقّ الشعب الفلسطيني الرد على هذه الحرب غير المبرّرة من حكومة شولتز العنصرية. في المقام الأول، السلطة الفلسطينية مطالبة بقطع علاقتها مع الحكومة الألمانية الحالية حتى ترتدع عن عدوانها على الشعب الفلسطيني، ولتصبح أكثر انسجاماً مع المواقف التاريخية لحكومات الحزب الديمقراطي الاشتراكي SPD من القضية الفلسطينية، وهنا يجب أن نذكر كيف ساهمت مقاطعة السلطة الفلسطينية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في إفشال صفقته المشؤومة التي كانت تستهدف القضية الفلسطينية برمتها.

الشعب الفلسطيني ليس ضد ألمانيا أو حكومتها، ولكنه يدافع عن وجوده واستمراريته!

لمنظمّات المجتمع المدني الفلسطيني دور مهم تلعبه في هذا الموضوع، ولا سيما أن عدداً لا بأس به منها على علاقة تواصل مع الحكومة الألمانية والمؤسّسات المنبثقة منها. في وقت الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني لا مكان للمواربة والمجاملات وأشباه المواقف، فلا بد من أن تسمع حكومة شولتز العنصرية الموقف واضحاً لا لبس فيه، وتتظاهر أمام الممثليات الألمانية ليس فقط في فلسطين، ولكن أيضاً في الدول العربية الأخرى التي يُسمح فيها بالتظاهر، مثل لبنان وتونس وغيرهما.

المقاطعة الاقتصادية للمنتَجات الألمانية أحد الخيارات المتوافرة لدى العرب والفلسطينيين، ولنتذكّر أن عنصرية الحكومة الألمانية وأيديولوجيتها تشملان العرب والمسلمين عموماً، ولذا المستوى الشعبي العربي هو المطالب باتخاذ إجراءاتٍ ضد عنصرية الحكومة الألمانية، حتى يحافظ على كرامته الإنسانية، حيث يجبر هذه الحكومة على التعامل مع جميع الشعوب على الدرجة نفسها من انتمائها الإنساني، وليس من هو درجة أولى، ومن هو درجات أخرى.

أخيراً، يجب إبقاء الحوار مفتوحاً على مستويات مختلفة حتى تدرك الحكومة الألمانية شرّ أعمالها وانحيازها الآثم إلى صالح الإبادة الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني. من الضروري التذكير بأن الشعب الفلسطيني ليس ضد ألمانيا أو حكومتها، ولكنه يدافع عن وجوده واستمراريته!

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات