الجزائر وغزّة... على قدر أهل العزم
مواقف الجزائر داعمة تاريخياً للقضية الفلسطينية، وليس مصادفة إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 من الجزائر. ولا يعود هذا الدعم فقط إلى العلاقات الأخوية التي تربط الشعبيْن الجزائري والفلسطيني، والايمان الجزائري بعدالة القضية الفلسطينية، وإنما أيضاً لأسباب تتعلق بمسيرة التحرير والثورة ضد المستعمر والايمان بقيم الحرية والعدالة المتأصّلة بالمجتمع الجزائري. ولأن الجزائر، بلد المليون شهيد، المؤتمنة على عدالة القضية الفلسطينية والممثلة للمجموعة العربية في مجلس الأمن، والتي لم تبخل يوماً في تقديم الغالي والنفيس دعماً للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها، من حقّنا التساؤل وعلى مبدأ "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، ما إذا كانت الجزائر اليوم متناغمة مع مواقفها التاريخية بأخذ موقع الريادة في الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، وتحديداً في هذا الظرف الذي تتعرّض فيه غزّة لحرب إبادة لم تشهد مثلها منذ نكبة عام 1948، فما هو متوقع من الجزائر في هذا الظرف الصعب ليس كما هو متوقّع من غيرها. وليس متوقعاً من الجزائر تحريك الجيوش لوقف الإبادة في غزّة، ولكن هناك مجالات أخرى كثيرة، على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية، في وسع الجزائر تأدية دورٍ فيها يليق بمكانتها التاريخية فيما يخصّ القضية الفلسطينية.
تمثّل الجزائر المجموعة العربية اليوم في مجلس الأمن، وقد نشطت في تقديم مقترحات مشاريع قرارات لوقف الحرب، وهو موقفٌ اتخذته أيضاً دولة الإمارات قبلها وبفعالية مشابهة، ومن الممكن لأي دولة عربية أخرى لو كانت في هذا الموقع اتخاذه. ولا يقتصر التحرّك الدبلوماسي على مجلس الأمن، فهناك ساحاتٌ أخرى منها جامعة الدول العربية ومنظّمة التعاون الإسلامي المعطلتان طوال فترة الحرب. وفي إمكان الجزائر، بثقلها العربي والإسلامي، أن تلقي حجراً في المياه الراكدة لهما، وستجد هناك من يتعاون معها. تاريخياً، أيضاً، كان للجزائر تأثيرٌ كبيرٌ على الساحة الدولية ودول عدم الانحياز، والأمثلة كثيرة هنا، منها وساطة ترسيم الحدود بين العراق وإيران عام 1975، وتحرير الرهائن الأميركان بالوساطة مع إيران عام 1981، فالتحرك الدبلوماسي إذاً لدولةٍ بثقل الجزائر لا يمكن أن يبقى مقتصراً على تقديم مشاريع يقف لها "الفيتو" الأميركي بالمرصاد ويحبطها قبل أن ترى النور. واحتضنت الجزائر محادثات الوساطة بين الفصائل الفلسطينية لإنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وهذا أيضاً دورٌ تولته دول أخرى كثيرة، منها مصر والسعودية واليمن وقطر وروسيا. ناهيك عن أن الأولوية الآن هي لوقف الإبادة الجماعية في غزّة قبل أي شيء آخر.
غياب كبير لدور جزائري فاعل في هذا الظرف التاريخي الذي تتعرّض فيه غزّة للمحو عن الوجود وتشريد أهلها
هناك الكثير مما يمكن للجزائر القيام به استناداً لما يشرّعه القانون الدولي، أي من دون الحاجة حتى لإحراج علاقاتها مع دول أخرى على الساحة الدولية. هناك مساحة قانونية كبيرة غير مستغلّة يمكن من خلالها تقديم نوعٍ من الدعم لوقف الإبادة في غزّة، فبالإضافة إلى الانضمام إلى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، كان بإمكان الجزائر أن تقاضي دولاً تزوّد إسرائيل بالأسلحة، مثل بريطانيا. وقد رأينا كيف ادّعت نيكاراغوا، الدولة غير العربية، على ألمانيا وجرّتها إلى محكمة العدل الدولية بتهمة مساعدة إسرائيل بالإبادة الجماعية. كذلك بإمكان الجزائر رفع دعاوى على شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية متورّطة في الإبادة، مثل وزير الدفاع غالانت والرئيس الإسرائيلي هيرتزوغ المتورّطين بتصريحات تدعو إلى الإبادة في غزّة. وهناك شخصيات إسرائيلية تجري مقاضاتها في محاكم أوروبية على حرب 2014 على قطاع غزّة، وهي ما تزال غير قادرة على دخول بعض الدول الأوروبية، مثل وزير الدفاع السابق شاؤول موفاز ورئيسة الوزراء السابقة تسيبي ليفني.
مدعومة بقرار محكمة العدل الدولية بشأن إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة، بإمكان الجزائر تحدّي قرار الحظر الإسرائيلي على دخول المساعدات من معبر رفح، بالتنسيق مع مصر، ولتقصف إسرائيل هذه المساعدات. عدم المحاولة لكسر قرار الحظر، الكسر المدعوم بالشرعية الدولية، يريح إسرائيل من مواجهة المجتمع الدولي وأعلى مؤسسة قضائية دولية. لقد رأينا كيف أن منظّمات غير حكومية كانت تتحدّى قرار الإغلاق على غزّة وتسيّر مراكب لكسر الحصار. الأمر حالياً أقوى بكثير لمن يريد تحدي قرار الحظر وإدخال المساعدات المدعوم بالقانون الدولي.
ليست الجزائر مطالبة بوقف صادراتها من الغاز إلى أوروبا، إنما بإمكانها الإبطاء في تزويد بعض الدول الأوروبية الداعمة للإبادة بالغاز، مثل ألمانيا
الجزائر من أهم مزوّدي أوروبا بالغاز والطاقة، وقد ازدادت الحاجة الأوروبية لها بعد الحرب في أوكرانيا ووقف أوروبا استيراد الغاز الروسي. وليست الجزائر مطالبة بوقف صادراتها من الغاز إلى أوروبا، إنما بإمكانها الإبطاء في تزويد بعض الدول الأوروبية الداعمة للإبادة بالغاز، مثل ألمانيا التي وقّعت معها الجزائر اتفاقية لتزويدها بالغاز عبر الأنابيب في شهر فبراير/ شباط الماضي، أي بعد حوالي أربعة أشهر من بدء الإبادة الجماعية في غزّة. ويجدر الذكر هنا أن تركيا قيّدت أخيراً صادرات 54 سلعة الى إسرائيل، حتى توقف الأخيرة الإبادة في غزّة. وبإمكان الجزائر البناء على الخطوة التركية لإحداث زخم عربي إسلامي مؤثر على الساحة الدولية، عوضاً عن استثمار الجهد في مشاريع قرارات مجلس امن يقتلها الفيتو الأميركي في مهدها. فالسياسة الدولية لا تحترم إلا القوة والمجال الاقتصادي (الطاقة تحديداً)، هي قوّة تحترمها الدول الغربية المتورّطة بالإبادة.
لا يقتصر الغياب الجزائري عن المشهد على المجالات السياسية والاقتصادية، وإنما أيضا لا تُشاهد مظاهرات شعبية واسعة وبوتيرة مستمرّة في الجزائر رفضاً للإبادة، كما يحدُث في جارتها المغرب وعدة دول عربية ومعظم المدن الأوروبية والعالمية. هناك صمتٌ غير مفهوم تجاه واحدة من أكثر المآسي الإنسانية التي خلفتها الحروب منذ الحرب العالمية الثانية.
هناك غياب كبير لدور جزائري فاعل في هذا الظرف التاريخي الذي تتعرّض فيه غزّة للمحو عن الوجود وتشريد أهلها، والذي أحوج ما يكون فيه العرب لقيادة فاعلة تتحدّث اللغة التي تفهمها الحكومات الغربية، والجزائر هي أهم هذه الدول المرشّحة للوفاء، ليس فقط للقضية الفلسطينية التي احتضنتها تاريخياً، وإنما أيضاً لقيم العدالة والحرية ومقاومة الاستعمار الذي دفعت من أجله دماء كثيرين من أبنائها، تماماً كما رأينا جنوب أفريقيا وهي تتصدّر المشهد الدولي بالوفاء لقيمها في محكمة العدل الدولية في مقاومة الفصل العنصري والانتصار للعدالة التي عانى شعبها الكثير من غيابها.