أن يعتصم طلبة جامعة كولومبيا في مبنى "هاملتون هال"

05 مايو 2024

طلاب في مبنى هاملتون هال بجامعة كولومبيا يمينا (1968/23/4/Getty) ويسارا (30/4/2024/Gett)

+ الخط -

لم يكتف مئات الطلاب في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة بالاعتصام في المخيم الذي نصبوه في الساحة الرئيسية في حرم الجامعة منذ بداية احتجاجاتهم على دعم إدارة الرئيس جو بايدن الحرب الإسرائيلية على غزة، بل انتقلوا، في خطوة مفاجئة، إلى التحرّك نحو الاعتصام في مبنى هاملتون هال، والتي جوبهت بردٍّ عنيفٍ، ليس فقط من رئيسة الجامعة نعمت شفيق، التي استدعت الشرطة لفضّ الاعتصام في المبنى، بل إنها لاقت ردوداً من أعلى الهرم السياسي في الولايات المتحدة، ومنهم الزعيم اليهودي الأبرز في الكونغرس تشاك تشومر، الذي صرّح بأن "الاستيلاء على مبنى الجامعة ليس حرية تعبير، إنها فوضى"، وطالب بإنزال "أقسى العقوبات" بالطلبة. وغيّر الطلبة أيضاً اسم المبنى الى "مبنى هند" تكريماً للطفلة الفلسطينية هند رجب التي استشهدت في السادسة من عمرها في قصف إسرائيلي على غزّة.

أسباب تاريخية ورمزية ومبدئية وراء خطوة الطلبة، الاعتصام في المبنى المذكور، والتي يصعب على رئاسة جامعة نيوليبرالية وسياسيين تحرّكهم المصلحة والأيديولوجيا واللوبيات فهمها... لهذا المبنى أهمية تاريخية تتعلق بنضالات طلاب جامعة كولومبيا ضد الحروب، ودفاعاً عن العدالة الإنسانية وانتصاراً لمعاناة زملائهم السابقين من الطلبة الذين قمعوا على يد السلطات في هذا المبنى بالتحديد، حيث جاءت هذه الخطوة استكمالاً لنضالات الطلبة التي لا تتجزأ عبر التاريخ. ففي عام 1968، انطلقت التظاهرات التاريخية الطلابية ضد الحرب في فيتنام من هذا المبنى في "هاملتون هال" بالتحديد، والتي جوبهت برد قاس من الشرطة التي اقتحمت المبنى من خلال نفق أرضي، واعتدت على الطلبة بالهروات، وسُحلوا في الممرّات، واعتقل حوالي 700 طالب في تلك الحملة. تكرّر الأمر من اعتصامات الطلبة في هذا المبنى عام 1972 أيضاً من دون تسجيل اعتقالات.

أسباب تاريخية ورمزية ومبدئية وراء خطوة الطلبة، الاعتصام في مبنى "هاملتون هال"، والتي يصعب على رئاسة جامعة نيوليبرالية وسياسيين تحرّكهم المصلحة والأيديولوجيا واللوبيات فهمها

وفي عام 1985، اعتصم طلاب كولومبيا في "هاملتون هال"، وربطوا أنفسهم هذه المرّة بالسلاسل في المبنى، وتركّزت مطالبهم على سحب جامعة كولومبيا الاستثمارات من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وسجل الطلبة نصراً، فقد استجابت الجامعة في نهاية ذاك العام وقطعت علاقاتها مع نظام الفصل العنصري بالكامل. ليس هذا فحسب، ففي عام 1992، اقتحم الطلبة مبنى "هاملتون هال" احتجاجاً على تحويل السلطات المسرح الذي اغتيل فيه الزعيم الأسود مالكوم إكس إلى مركز أبحاث علمي، وكان الطلبة يحتجون ضد ذلك. مرّة رابعة، اقتحم الطلبة في 1996 اقتحم المبنى أربعة أيام، وأعلنوا إضراباً عن الطعام مطالبين الجامعة بتأسيس دائرة خاصة بـ"الدراسات الإثنية"، حيث استجابت لهم الجامعة بعد أربع سنوات، وأسّست فعلاً القسم، حيث يعد اليوم من أهم الدوائر المتخصّصة بالدراسات الإثنية في جامعات الولايات المتحدة.

وبالعودة إلى أحداث عام 1968، يدرس اليوم مساق في جامعة كولومبيا عن "الحركات الاجتماعية" وأهمية حراك الطلبة في تلك الفترة في مبنى "هاملتون هال". يناقش المساق ما حدث في هذا المبنى ويُحتفى بدوره في وقف حرب فيتنام، في حين جرى سحل الطلبة آنذاك في وقت الحدث. في حين تُخلّد أسماء من قاموا بحركات الاحتجاج ضد الحرب في فيتنام، ويُدرّس كل ما قاموا به من بطولات وتحدٍّ لسلطات القمع الأميركي في تلك الفترة، لا أحد يذكُر إدارة الجامعة ومجلس أمنائها الذين وافقوا على سحل الطلبة، وعندما يأتي ذكرهم، يكون ذلك بالخزي والعار لما قاموا به ضد الطلبة.

كان لا بد في نظر طلاب كولومبيا من اقتحام مبنى هاملتون هال ليلتحم التاريخ ببعضه الذي لا يمكن تجزئته

وينطبق الأمر نفسه على أحداث اليوم التي تأمر بها رئيسة الجامعة شرطة نيويورك باعتقال الطلبة، لا بل والإقامة في الجامعة، أي تحويلها إلى ثكنة أمنية حتى تاريخ 18 مايو/ أيار الجاري، موعد انتهاء الفصل الدراسي، ليمنعوا الطلاب من العودة إلى الاعتصامات. يعيد التاريخ نفسه، فالإبادة الجماعية في غزّة ستتوقف وسينتهي تفكيك نظام الفصل العنصري في فلسطين تماماً كما سبقه في جنوب أفريقيا، وستُخلّد أسماء هؤلاء الطلبة الذين أُوقفوا عن الدراسة ووُجهت التهم الأمنية والجنائية لهم لرفضهم الإبادة الجماعية في غزة، التي تمولها الإدارة الأميركية ويصمت عنها السياسيون وتتواطأ معها إدارة جامعة كولومبيا ومجلس أمنائها طمعاً منهم بالحفاظ على مواقعهم، وسيذهب هؤلاء إلى مزابل التاريخ التي ستذكُرهم بالخزي والعار، كما فعلت مع سابقاتها من الإدارات السابقة التي تصرّفت بشكل مشابه. حقق الطلبة انتصاراتٍ في كل المرّات التي اعتصموا فيها في مبنى هاملتون هال، وهذه المرّة لن تكون الاستثناء.

أخذاً بهذه الاعتبارات، كان لا بد في نظر طلاب كولومبيا من اقتحام المبنى ليلتحم التاريخ ببعضه الذي لا يمكن تجزئته، وحتى يؤكّد الطلبة وحدتهم عبر تاريخ جامعة كولومبيا، مؤكّدين انتماءهم للمبدأ نفسه، المتمثل في مقاومة الظلم والاضطهاد والحروب غير الشرعية. وفوق ذلك كله، كان على طلبة كولومبيا الاعتصام في مبنى هاملتون هال، وفاء لمعاناة زملائهم الذين جرى قمعهم عام 1968 على يد الشرطة وبأوامر من إدارة الجامعة، حيث لا توجد مناسبة أكثر أهمية مثل الوقوف بوجه الإبادة الجماعية في غزّة التي يحيي الطلبة من خلالها الذكرى الـ55 للتنكيل بطلاب كولومبيا الذين وقفوا ضد حرب فيتنام.

يصعب على رئيسة جامعة ذات فكر استبدادي، لم تنجح شهادات الدكتوراه التي تحملها بتغييره، فهم هذه المعاني المتعلقة بوفاء الطلبة لنضالات من سبقوهم من زملائهم الذين قالوا "لا لحرب فيتنام" و"لا لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا"، والذين دفعوا ثمناً غالياً فقط من أجل الانتصار للعدالة الإنسانية، حيث لا يتعدّى تفكيرها الحفاظ على وظيفتها، حتى لو تطلب ذلك الانحناء لليمين الصهيوني المتطرّف في الكونغرس، كما شوهدت ترتجف في شهادتها أمامهم، حتى "تنجو بجلدها وتضحّي بالحريات الأكاديمية"، كما وصفت شهادتها في الكونغرس صحيفة نيويورك تايمز.

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات