ماذا تعرفون عن الحرب؟

26 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنانة الفلسطينية ريما المزين
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصص النزوح والمعاناة**: تروي جارة كيف هربت من مخيمات رفح، لتجد نفسها تتزحلق في بطن جثة شهيدة حامل، مما يعكس فظاعة الجرائم في غزة. جارة أخرى كانت تحلم بمستقبل مشرق لأطفالها، لكن الحرب حولت أحلامها إلى كوابيس.

- **الحياة اليومية تحت القصف**: الحياة في غزة مليئة بالرعب والخوف، حيث الصواريخ تدمر المناطق المجاورة والشوارع مجرّفة والبيوت مهدمة والجثث متحللة.

- **ذكريات العيد المفقودة**: كانت أصوات الأطفال وتكبيرات العيد تملأ الأجواء، لكن الحرب سرقت فرحة العيد وحولت الحياة إلى سلسلة من الأحزان والذكريات المؤلمة.

تقول إحدى جارات خالتي إنها عندما هربت من مخيمات النزوح من رفح، راجعةً مثقلة بأحمال الدهر والأيام والخيبات والحسرة على ما فقدت من ملكها في بلدة الزنة: "كنت أحمل متاعي الثقيل على رأسي كمعدن صلب يدق على خشبة هشة لا حياة لها ولا تنادي، من شدة التعب وثقل ما أحمل، مشيتُ مهرولة في الشارع حتى تزحلقت قدمي في بطن جثة... نعم كما قلت جثة. هذه ليست رواية لأغاثا كريستي التي طالما تحدثث عن عالم الجرائم والقتل في أبشع صور، فأغاثا لا تعلم أن هناك عدواً يتفنن بأسالبيه الأكثر فظاعة في عالم الجرائم والأشد تنكيلاً".

نعم كما روت السيدة، فقدمها تزحلقت في بطن جثة شهيدة خالية التجويف لا أمعاء، لا كبد، لا شيء. كانت السيدة الشهيدة حاملاً، وفي ما يبدو من تجويف بطنها نزع العدو الجنين، ثم جرّف الجثة صوب الشارع. أغمي على السيدة الجارة، وشُلّ لسانها عن الكلام...

وجارتنا الأخرى كانت تفكر قبل نومها في أحلام وأحداث عديدة ستفعلها في الحاضر القريب، تنظر بعين الأمل الحانية نحو طفليها؛ صغيران لم يتجاوز أحدهما الثمانية أشهر، ولد وبنت، استلقت بجانبهما بعد يومٍ طويلٍ في البحث والتحري عمّا يعجبها  من ثياب في السوق، لتلف بها قطعتي الحلوى الخاصة بها، اشترت ووضعت الثياب بجانبها، ونامت هي وهما على جانب أمل مشرق.

في ما يبدو من تجويف بطنها، نزع العدو الجنين، ثم جرّف الجثة صوب الشارع

سأحكي لكم حكاية من حكايات غزّة...

شعرت فداء بألم في رأسها، فقالت لنفسها: سأعدّ كوباً من الشاي مع نبتة خضراء، ميرمية، يساعد في التخلص من هذا الألم". نهضت وبدأت بالتفكير في تجهيز كوب الشاي. لم تجد السكر ذا السعر المرتفع جداً والشحيح في الأسواق، والميرمية أيضاً مقطوعة هنا، والغاز مقطوع. فكرت أنها لو أعدت الشاي فقط من دونهما (السكر والميرمية) فإنّ عليها أن تتقبل الشاي من دونهما، لكنها ستكون أشعلت النار في الموقد حيث لا حطب "وقيد". فشلت عملية إعدادها للشاي بالكامل.  فذهبت من أجل الخلود إلى النوم، وذهبت معها الطائرة وأزيزها ومكثت في رأسها ولم تنم.

نعم، يحدث هذا في الإقليم المنسي: غزة.

انتظروا، فقصة "بائعة الكبريت" حصلت مرة أخرى في غزة مع طفل استشهد جميع أهله بالقصف ولم يبق سواه، ليجده أحد المارة نائماً تحت شاحنة كبيرة وجلده أزرق من شده البرد فيحمله الشخص المار قرب الشاحنة إلى أقرب نقطة طبّية، ثم يعود في اليوم التالي ويسأل الطبيب عنه ليجده قد فارق الحياة.

أيضاً جلس جارنا العجوز النازح على باب خيمته، ودموعه تنهمر، هامساً مع ذاته: أخ يا ولدي...  قصف الموت شبابه قبل أن يزهر ويصل إلى الكهولة.

في يوم من هذه الأيام، وقت العشاء وقفت على الشباك رغبة في أن أشتمّ هواء نظيفاً، وأن أتمكن من التقاط إشارة النت، فإذا بانفجار ضخم على بعد خمسمائة متر من منزلنا يستهدف مؤسسة مجتمعية. قوة الانفجار وشدة الهواء المندفع من منطقة سقوط الصاروخ دفعتني من الشباك إلى الداخل قليلاً، وأصبحت السماء حمراء مع دخان كثيف، وزلزل البيت من شدته، وصلت الشظايا إلى الشارع، أول مرة أرى قصفاً مباشراً لحظة وقوعه. تخيّلتُ بيت شعر بشار بن برد قبل أكثر من ألف سنة وهو يقول:
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا = وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه

طفل يسمع أصوات الانفجارات، فيهرول هارباً في اتجاه البيت لعلّه يجد ملاذاً آمناً

السنة الماضية، في منتصف ليلة نهاية العام، كنت أجول بين الشوارع والمتنزهات والبحر والمولات... لا للاحتفال برأس السنة فقط، لكن لأشعر بالجو السعيد وأستقبل السنة بحفاوة من باب الأمل وحسن الظن بالله... الآن تشوشت معالم المدينة، كل شيء جميل قبحوه وجرفوه وقصفوه، باتت الشوارع المضاءة أراضي قاحلة لا زرع ولا ماء ولا بشر ولا بيت ولا مطعم... لو استطاعوا أيضاً تخطي القدرة الإلهية بتجريف ماء البحر لما قصروا حقداً على شعبها، وحسداً منهم لنا على جمال غزة.

ذات يوم من أيام الحرب، سمعت بعض الصرخات بعد تناول طعام الإفطار بنصف ساعة فذهبت خُلسة وراء الشباك لأسترق السمع، رأيت بعض الفتيات يصرخن في الشارع ونساء أخريات يمسكن بأطفالهن ويجرين في الشارع حافيات، وكان الشارع مليئاً بالشباب والرجال. الجيران يقفون على الأبواب تسأل: "إيش في؟!" حتى قال أحدهم: "بدهم يقصفو بيوت بالحارة، واطلعوا من البيوت". 

لبست ثوب الصلاة وانطلقت مسرعة إلى بيت الجيران حيث أكون أبعد عن المكان المستهدف. نادى علينا رجال الحارة أنا ونساء الحيّ وأطفاله، وطلبوا أن نخرج أيضاً من هذا البيت إلى مكان أبعد بكثير. أسرعنا وصرنا نجري في الشارع إلى أبعد مكان نستطيع الوصول إليه حتى وصلنا عند بيت لأحد أقربائي. انتظرنا نصف ساعة حتى أُطلق الصاروخ... ونمنا من شدة الخوف وحل الهدوء. استيقظنا صباحاً بعد رجوعنا إلى بيتنا الذي تضرر مرة أخرى أكثر، كما دُمرت المنطقة المجاورة في الحارة، ودمر بيت الجيران والبيوت المجاورة وأنا فقدت أعصابي التى كانت وادعة يوماً ما.

وفي يوم آخر وعند وقت الغروب عندما رجع أخي من رحلة البحث عن ضالته المفقودة (التوك توك) دخل الباب مُلقياً السلام، وقال: هل هناك أكل بعد يوم كامل من التعب؟ أصابني الفزع عندما رأيته! كان في حالة يرثى لها، وجهه شاحب ومصفرّ ولونه ولون ثيابه أبيض مليء بالغبار كأنه خارج من كيس دقيق؛ فحاولت الاستفهام عمّا جرى! تنهد ثم أجاب قائلاً: "معالم المدينة باتت مشوهة، لن تعرفي دوار السنية ولن تميزيه من دوار بني سهيلا ولا من دوار كراج رفح. لا أسفلت، فالشوارع مجرّفة والبيوت مهدمة محروقة... فقط كثبان رملية أمام بقايا البيوت. وفي الطريق العظام بالية والجماجم خاوية، والجثث متحللة، فمشيت لا أدري أين الطريق؟ حتى وجدت نفسي في مكان سألت أحدهم عن المكان... قال لي: أنت في بلدة بني سهيلا، حيث طائرات الكواد كابتر تطلق النار على المواطنين العزل" وفيما هو يحدثني والدموع تنهمر من عيني خلدت إلى النوم من الغم، ساعة المغرب.

■ ■ ■

يوم العيد

في مثل هذا الوقت، السنة الماضية كنت أستيقظ على أصوات أطفال الحي وهم يتراكضون ويلعبون ويلهون وراء عربات الماشية المحملة بالعجول الشراري ويصرخون: "أبو محمد أتى بعجله؛ كبير وسمين، أبو رسمي عجله لونه بني، أبو أحمد جاب بقرة منقطة أبيض وأسود" ويتناوشون ويتجادلون في ما بينهم من وصل قبل الآخر ورأى المشهد قبل الآخر.  

جارتنا فضيلة تستيقظ باكراً قبل أذان الفجر لتجهز أدوات الكعك والمعمول الذي عجنته قبل ليلة، ثم تخبزه قبل شروق الشمس، مع صوت شقشقة العصافير: "الله ما أجمل الرائحة".

في الجانب الآخر من الشارع يحضر الجيران مكبرات الصوت فنسمع تكبيرات العيد وتهاليل الحج في كل أنحاء الحارة. لم يعد البيت ولم يعد الجيران موجودين ولم تصدح من نافذته تهاليل العيد. لا عيد هذا الصباح.

ماذا تعرفون عن الحرب؟
عن سيدة تستيقظ مذعورة على صوت القذائف والصواريخ وقلبها مكسور؟
عن طفلٍ يسمع أصوات الانفجارات؛ فيهرول هارباً في اتجاه البيت لعله يجد ملاذاً آمناً؟ 
عن أسرة فرّت من خيمةٍ إلى خيمة، من مكان إلى مكان أكثر أمناً تاركة شايها الصباحي على موقد النار؟
عن عائلة عادت إلى بيتها المقصوف لا حيطان، لا أبواب، لا شبابيك، فقط شبه أعمدة تجثو على أطرافها لتستظل بها من حر الحرب وبرد ضمير العالم الصامت؟
أم عن شيخٍ يفتح عينيه على وسعهما تاركاً الدموع تهطل على أودية أنهار الدم حسرة على أشلاء ولده الشاب؟

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون