ليلة الهدنة

03 يوليو 2024
منذر جوابرة/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتبة تصف تجربتها المؤلمة في مدينة الشيخ زايد بشمال غزة، مشيرة إلى الحالة المأساوية للمصابين والشهداء بالقرب من المستشفى الإندونيسي، والظروف القاسية من انتشار الدود والرائحة الكريهة.
- تتحدث عن ليلة مليئة بالتوتر عندما تلاحظ وجود جنود يسيرون في الشارع، مما يثير الذعر ويجبرها وجيرانها على البقاء في حالة خوف وترقب، محاولين التواصل مع الخارج.
- تصل القصة إلى ذروتها مع استمرار القصف والحصار، مما يجعل الحصول على الطعام والماء تحديًا، وتصف لحظات اليأس والتضامن بين السكان قبل أن تنتهي بوصول الهدنة وإنقاذهم في لحظات مليئة بالامتنان.

يوم الاثنين 20/ 11/ 2024؛ قبيل الهدنة بأيامٍ عديدة، لطشتني فيها الحياة بعصاها حتى أذابتني وأصهرتني. كنتُ ما زلتُ صامدةً في شقتنا في مدينة الشيخ زايد، برج 18، الأقرب إلى المستشفى الإندونيسي الرئيسي في محافظة شمال غزة، والذي كان يزخر بصراخ الجريحات والجرحى والنازحات والنازحين وآلامهم؛ وهذه الحالة ليست مرجعيتها بتر الأعضاء أو عمق الجروح فحسب، بل رؤية الدود الأبيض الصغير منتشراً بشراهة على الوجوه، وأماكن الجروح والحروق، وهذا ما كان يؤكّده الطاقم الطبي لجميع الجرحى، وكذلك رؤية الشهداء الذين اضطرت إدارة المستشفى إلى وضعهم في أكياس محكمة الغلق، وذلك بسبب انتشار الدود بصورة تقشعر لها الأبدان، بالإضافة طبعاً إلى الرائحة الكريهة غير المعتادة، والتي أدّت في بعض الأحيان إلى دفن الجثث قبل تعرّف ذويها عليها، حفاظاً على سلامة النازحين.

مساء يوم الاثنين، سمعتُ وأنا جالسة في شقتنا، أحداً ما يغني قائلاً "إيش جابك على هذي الدار شو جابك على حينا". استغربتُ الأمر وقلتُ لعائلتي: اللهجة غريبة ليست متداولة في منطقتنا، قال لي زوجي: "أنتِ بيتهيألك"، فجأة انتابني الفضول لأنظر من الشباك المكسور، فكانت الصاعقة. رجعت إلى الوراء وتعثرت بالكرسيّ من شدّة الخوف، وقلتُ: يهودٌ يهود يمشون في الشارع كأنهم جراد، ويبدو أنهم لا يعلمون بوجودنا في مدينة الشيخ زايد، لأنها تقريباً فارغة إلا منا وجيراننا في الطابق العلوي؛ أبو محمد وأولاده الشباب الثلاثة - زوجته وبقية العائلة في رفح - ونحن غادرنا فور سماعنا باقتراب الدبابات المجنزرة، شقتنا إلى أيّة مدرسة قريبة منا، وهذا مرده خوفي على زوجي من آثار النزوح، وتحديداً التلوث البيئي، بوصفه مريضاً تناول جرعات بيولوجية (علاج لمرضى السرطان) في أحد مستشفيات رام الله. 

بدأ المسلسل الدرامي الواقعي حلقاته ولحظاته الأولى عندما عرف الجنود بوجودنا، حيث أطلقوا فوراً قنابل الصوت القوية التي خرمت آذاننا على الشبابيك الشمالية للبرج، وبدأ الخوف يتسرّب إلى قلوبنا جميعاً في البرج. 

حاولتُ ربط شاشةٍ بيضاء على عصا وتعليقها على الشباك، لكن القنّاص مزّقها بالرصاص

مضى يوم الثلاثاء وكأنه دهر، ولم نتمكن من جلب ما نحتاج إليه من الزيت والزيتون والمعلّبات والدقيق المُخَزن في الغرفة الشرقية من الشقة بسبب وجود قنّاص في البرج الذي يجاورنا مباشرةً، وكذلك كانت كلّ الشبابيك مفتوحةً على الغارب أمام الضارب، إذ كان سيطلق النار علينا لو أحسّ بتحرّكنا في الشقة، لذلك كنّا نتحرك زحفاً على الأرض - وللضرورة القصوى - وهذا الوضع جعلنا جميعاً لا نشرب الماء ولا نتناول الطعام إلّا في حالة العطش والجوع الشديد، وهذه الحال أيضاً عاشها جيراننا الذين كنّا على خصام معهم، وقد تصالحنا معهم في هذه اللحظات، إذ جمعنا الحصار والهمّ والخوف، وكذلك أكرمني الله أني كنتُ لهم الأخت والأم بكلّ المقاييس.

قبيل فجر الأربعاء 22/ 11، كان البرد قارساً وكنّا جالسين جميعاً ملتصقين بعضنا ببعض عند مدخل باب الشقة المفتوح المهلوع المخلوع من شدة القصف، وقد دخل علينا كلبٌ أعرج خائف يلهث من شدّة الخوف والعطش، ومعه ثلاث قطط أدخلناهم بيننا، حينها عرفتُ قانون الغابة والحرب من أجل البقاء، وتذكرتُ أفلام الطبيعة وتجسيداتها على مستوانا البشري.

وقد اشتدّ القصف بصورة جعلتنا نتسمر وننطق الشهادة بصوت واحد. أما الحيوانات فمنعها الخوف من إصدار أي صوت، قنابل حارقة على شباك المطبخ، وقنابل صوتٍ على شبابيك الصالون والبلكونة، وأصبحنا نردّد في صوت خافتٍ "يا نار كوني برداً وسلاماً"، وغيرها من عبارات التوسّل والمناجاة والرجاء من رب العالمين. كانت ساعات ثقالاً بلغت قلوبنا الحناجر، هرب الريق من أفواهنا، ورأينا الموت يدنو ويدنو ببطءٍ شديد، وهكذا حتى ساعات الظهيرة والدبابات المجنزرات واقفة عند شباك المطبخ - الجهة الجنوبية للشقة على الشارع العام -  تطلق من هذا المكان القذائف على وسط مخيم جباليا ومنطقة تل الزعتر ومشروع بيت لاهيا، وهذه الحال استمرّت حتى صلاة العصر.

قبيل المغرب حاولتُ ربط شاشةٍ بيضاء على عصا لتعليقها على الشباك، لكن القنّاص مزّقها بالرصاص، وفهمنا أنها رسالة - غير مباشرة - أن الموت  يقترب جداً؛ ومضى الليل حيث تنتشر رائحة القتل والدمار، وقد زادت وطأة القصف، وضُرب مُجمع المدارس الذي أمامنا بعدّة قذائف ممّا أودى بالنازحبن للهرب من الموت المحتوم والقتل المختوم بتوقيع فهمه الطفلُ قبل الشيخ الكبير. 

منتصف الليل سمعنا حركة مكثفة قريبة للدبابات والمجنزرات، وشممنا رائحة حرقٍ قوية، عرفنا مصدرها البرج الملاصق لمنزلنا، وسمعنا انفجاراً كبيراً جداً عمِل على رفعنا وضربنا بالحائط. عرفنا بعدها أنه تمّ قصف وتدمير برج رقم 2 المكوّن من خمسين شقة في أبراج الإسكان الملاصقة لمدينة الشيخ زايد من الجهة الجنوبية الشرقية، القريبة جداً من المستشفى الإندونيسي، حيث كان الهدف الرئيسي هو اقتحام المستشفى.

انعدمت الرؤية تماماً ولم نعد نرى شيئاً، حاولنا الهرب من هذا الحصار لكن من دون جدوى، إذ تمّ إطلاق النار علينا عند بوابة برجنا، وسمعنا طائرة الهيلوكابتر تقترب وتطلق الرصاص بعنف وقوّة تجاه برجنا ومنطقتنا، وازداد الخوف كثيراً ونمنا على بطوننا على الأرض؛ الصقيع تحتنا والقصف فوقنا، والقنابل الحارقة على الجهة الجنوبية وقنابل الصوت على الجهة الشمالية للشقة؛ واهتزازات الأرض ترفعنا وترقعنا بالأرض مجدداً، والحيوانات بيننا نسمع صوت هلعها الذي تدلّ عليه أنفاسها. 

يوم الخميس كان حافلاً وزاخراً برائحة الخوف والصراخ من نازحي المستشفى الإندونيسي، وذهب الريق في مهب الريح. القلوب قد وقف نبضها ووصلت دقاتها إلى الحناجر، الرصاص اخترق الحيطان التي تؤوينا لكننا نجونا بحمد الله. وللأسف الشديد، استشهد ابن جيراننا المحاصر معنا، والساكن في الطابق الذي يلينا، وسمعنا صراخه لكن من دون جدوى؛ كانت النهاية.

ليلة الجمعة. كانت السخونة النفسية تنهش في أرواحنا، صوت قصف الجو الشديد وقذائف الأرض المتلاحقة خرقت وخرمت طبقة تحملنا، الدموع بخلت علينا حتى بالتنقيط، كلّ ما حولنا يتفجر ويحترق، لا نعرف أين مصدره ومتى دورنا، نظرنا بعضنا اإلى بعض تكلمنا بلغة العيون وسامحنا وودع بعضنا بعضاً. أدركنا كما أدرك من رأى وعرف بحصارنا أننا لن نخرج إلا على النعوش، واشتد الوطيس بكل المقاييس، واستسلمنا للقدر؛ وجوهٌ صفراء وأجسام مرتجفة وأرواح خائرة وشفاه مزرقّة وعيون شاخصة إلى أن رأينا من ينتشلنا برفق من على الأرض، ويسقينا الماء والسكر، ويصرخ متعجباً: أأنتم أحياء بعد كل هذا؟ فعرفنا أنه صباح الجمعة هدنة اليوم الأول 24/ 11/ 2024.

أبراج الشيخ زايد شمال مخيم جباليا

* ناقدة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون