استمع إلى الملخص
- في كل مرة يزداد القصف، كانت الأم تردد "ارتدوا ثياب الصلاة" لتمنح بعض الأمان، لكن الخوف والجوع للأمان والخبز والذكريات كان يسيطر.
- في ليالي الحرب، كان الأطفال يبكون في أحضان أمهاتهم، والبيوت أصبحت معلقة على قائمة النفي، مع القنابل التي تبني شواهد جديدة على العمارات المدمرة.
اعتدتُ الانتظار منذ أن تركت بيتي ونزحتُ للمرة الأولى. أن أنتظر شريط الأخبار الأحمر لإعلان وقف الحرب.
أن أنتظر جاري الذي بقي في غزة ليخبرني أن بيتي ما زال بخير، وأن تعلو أصواتنا حين يشكّك في قدرتي على التعرف على الحي الذي أسكن فيه لكثرة القصف والدمار. أن أنتظر دوري في الاستحمام للمرة الواحدة خلال الاسبوع بسبب انقطاع المياه.
أن أنتظر أول هدنة لوقف الحرب حتى أعود إلى بيتي لكي أحمله في صدري، ويحملني داخل ذكرياتنا. أن أنتظر تكذيب الشائعات التي تقول إنه علينا النزوح مرة أخرى، لكن ليس إلى غزّة، إنما جنوباً أكثر.
أن أنتظر عربة الحمار التي ستحمل فُتات الأمل الذي بقي في داخلي. أن أنتظر طابور توزيع المساعدات كي آخذ حصتنا بعد أن هاتفني أخي أنه متعب لوقوفه أربع ساعات في الطابور، ولم يأتِ دورنا بعد. أن أنتظر إعلان المنطقة الآمنة كي نرحل نحوها وننصب الخيمة ونستقر. أن أنتظر مكالمة من قريبي كي يخبرني أن نحمل تعبنا والخيمة، وننتقل إلى جانبه بعد أن تبين لنا أن مصطلح المنطقة الآمنة مجرد كذبة، حيث تم قصف العمارة التي تبعد عن خيمتنا شارعاً فقط بلا إنذار.
أن أنتظر نفسي حين تكف عن الانتظار، فلم تعد شيئاً أعرفه ولم أعد نفسي التي نزحت للمرة الأولى.
أن أنتظر نفسي حين تكف عن الانتظار، فلم تعد شيئاً أعرفه ولم أعد نفسي التي نزحت للمرة الأولى
"ارتدوا ثياب الصلاة فإن البيت فقد كينونة الأمان، وخذوا ما تبقى من الأحلام وفُتات الامل والحياة". هذا ما كانت أمي ترغب في ايصاله إلينا في كل مرة يزداد مخاض أرضي، ويتعسر الهواء عن التنفس. الأصوات تزداد، تزمجر، تُبكّي، تَرثي أرواحاً قد قبلت فاه الموت مجبرة، تهمس إلي بأن لا أغفو.
كيف أغفو وأرقي يهتز خوفاً من كوابيسه التي أصبحت أشباحاً حيّة.. أخاف الليل الأحمر، فصباحه لا يحمل سوى رائحة الفقد والدموع. تقول أمي: لا تخافوا الموت فقط رددوا: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
لا نخاف الموت؟ كيف نخاف والموت ينام بجانبنا كل ليلة؟ الغبار يزداد ضبابه من حولي يخبرني بأن صاروخاً آخر قد نقش حكايا البيوت على الركام. تصرخ أمي : ارتدوا ثياب الصلاة وأحكموا أيديكم على الزعفران علينا الخروج الآن، فناقوس الدمار قد دقّ باب بيتنا الصدئ.
كلنا هنا جائعون كلنا يأكل جوع الآخر فيزداد جوعاً أكثر، فحين بات بيتنا جائعاً بدأت حجارته بالتهام ذاكرتنا العالقة بين جدرانه.. وحين جاعت أمومة أمي، ولم تستطع أن تقدم لنا فُتات الأمان أو الخبز، أكلنا خوفها وقدمنا لها طبقاً من الصبر والصبار الذي كان الشاهد الوحيد على مجزرة البيت، الذي لم ينجُ منه أحد من فم القناصة حين جاعت.
لا تسألني عن النوم، فأنا أنام وعيوني نصف مفتوحة، فقد خانني النوم حين قصفوا البيت الذي أمامنا
هل جربت أن تلعب "حجرة ورقة مقص" مع الموت كل ليلة لتعلم هل ستكون القارئ صباحاً أم المقروء في الأخبار؟ أن تجلس لساعات ترسم الهواء على شكل غرفتك وبيتك، لأنك الليلة الماضية قد نسيت أين خبأت آخر وردة أهدتك إياها حبيبتك قبل الحرب.. هل جربت أن تجوع حروفك فلا تستطيع أن تُشبع ألمك، فتصبح عاجزاً عن الأكل والكتابة، عاجزاً عن الشبع..
حين تسألني عن الحرب تريث قليلاً. فأنا هناك، لم أنجُ. لا تسألني إذا ما رحلت عني أصوات الحرب فأنا ما زلت أرتجف خوفاً من صرير الباب، ويُسرق الهواء من صدري كلما مرت طائرة من فوقي فأحتضن جسدي حتى لا أتطاير أشلاء. وأنا أُبقي نافذتي مفتوحة وأرتب أشيائي على الأرض ، وأتعمد الجلوس قرب عمود غليظ في الغرفة.
لا تسألني عن النوم، فأنا أنام وعيوني نصف مفتوحة، فقد خانني النوم حين قصفوا البيت الذي أمامنا فاستيقظت على الشظايا التي سكنت نافذتي كما سكن الدخان الأحمر عينيّ، وقدمايَ اللتان تهتزان تطمئنانني بأنني كاملة الأطراف.
لا تسألني عن الأمان، فما زلت أخاف ان أكلم عائلتي وهناك صوت مفقود بينهم. أخاف أن أسألهم عن حالهم فالزمن ثابت وزمني يدور حول يوم الوداع والرحيل. لا تسألني عمّا أفعله الآن، فإنني أجهل الأشياء ولا أحمل في رأسي سوى ذكريات حرب تحرق ما تبقى من حلم وحاضر وبقايا وطن.
لا تسألني عن نفسي فـبت الغريب في غربتي.
كعادة كل ليلة من ليالي الحرب المخيفة والمرعبة، كان ذلك الطفل في الخيمة يبكي في حضن أمه خائفاً من أصوات القصف والصواريخ، يريد دميته التي بقيت أسفل أنقاض بيتهم ولم يستطع إنقاذها كما لم يستطع المسعف إنقاذ أبيه من تحت الأنقاض.. غفا الطفل على صدرها بينما كانت تهمس إليه "كلها شوي يما والأصوات والخوف هادا كلو بيروح وبيجي الصبح". لكن جاء الصباح حاملاً رماد جثتين محترقتين، لم نميز الطفل من الأم سوى أنه كان يحتضن الجزء العلوي من جسدها.
■ ■ ■
رصيف 81 من أصل 7000 ما زال يتنفس
حمار ينعق موتاً
وجسدٌ ضائع عن قبره
أغمضي عينيك واحرقي الرقعة وانظري..
ملامح تسكنها الخيم
بعد أن باتت البيوت معلقة على قائمة النفي
ورذاذ قذيفة يبني شواهد جديدة على سطح عمارة لم يبق منها سوى نصف غطاء محروق، والنصف الآخر قد مُزق لتغطية الشهيد.
زنانتان تجلدان السماء
طائرة تسرق ألوان الشوارع
وقنبلة تبصق الضباب على زجاج سيارات الإسعاف
مدرسة دُهنت بالأسود لتليق بالقبور التي تسكن ساحتها
وأطفال تمشي على أطراف أصابعها كي لا تحفظ القناصة التي تعلو عيادة الحي آثارهم
افتحي عينيك لكي تلمحي طيف الخيمة التي ذابت بالملح والمطر
واركضي في اتجاه بيتك القائم على حدود الزمن، في ذاكرتك، لا يفصله سوى الصاروخ الذي سرق وثيقة وجوده وأهداه العدم.