حنين موجع

25 يوليو 2024
رسم للفنان الفلسطيني ماجد شلا
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الحنين والحرب**: الكاتب يعود إلى منزله وسط دمار الحرب، يبحث عن العزاء في رسائل قديمة مع حبيبته، حيث تتداخل مشاعر الحب والخوف من الموت.
- **الحرية والمعاناة**: يعبر الكاتب عن شوقه لحبيبته ورغبته في الحرية، ويصف مشاهد الحرب المروعة ومعاناة الناس في غزة.
- **الحياة تحت الحصار**: يتحدث الكاتب عن الحياة اليومية في ظل الحرب، نقص الغذاء والماء، ويعبر عن غضبه من وكالة الغوث وأمله في نهاية الحرب.

الحنين إليها كان طاغياً، شعرتُ بالموت على الباب، فزاد الوجع وعلت درجات الحنين. اليوم الواحد والثلاثون من كانون الأول/ ديسمبر، واليوم الأخير في السنة، الحرب تركض بسرعة فائقة، وتدخل عام 2024 بكلّ خرابٍ ودمار والكثير من الشهداء من البشر والحجر، هذه الحرب مختلفة، مغايرة تبدو عن سابقاتها، تشعر فيها بين الحب والحرب شعرة، راءٌ مخففة، لحظة رقص حين يُقرر فيها الطرفان وقف إطلاق النار..

قطع...

في آخر ليلة حرب حب من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، كانت ليلةً مروّعة، عدتُ إلى البيت في الرابعة فجراً حين هدأ قليلاً إطلاق النار الذي أودى بحياة العشرات، وصلت لمنفاي الجديد، حزيناً، منهكاً، وفي لحظة ولهفة عاشق مسكين تمنيت أن تكون شبكة "الواي فاي" ما زالت تعمل، ممممم، الإنترنت ما زال يعمل، وهي كأنها نائمة الآن، وإلا ردت، رجعت إلى دردشة قديمة بيننا عل الــ "WhatsApp" تؤنس خوفي وقلقي وتقلل من رهبة صوت الصواريخ والقذائف، أبحث عنك في هذ الليلة، "بصراحة" كأنني على موعد حب لأول مرة، في هذا الليل الذي يكثر فيه الشهداء والموت؛ أتأمل في رسائل كانت بينا، أضحك أمام حروفك المقطعة، وايماءاتك اللاذعة، وكلماتنا المخجلة، والتي استبدلناها كي لا يكشف نوايانا أحد، أخذت "Screen shot" لسطرٍ من حب ومن لهفة "محيرة".

قطع...

مولعٌ أنا فيكِ عند الكتابة، وعند انتصاف الليل، وعند صوت كل قذيفة تنزل بالجوار مخلفة خلفها الكثير من الشهداء. ملاحظة: يربكني فرق التوقيت بين غزة ومدينة مونتريال، صوت "الزنانة، تؤرقني ملابسك المحتشمة أحيانا حين نكون وحدنا في الربع الأخير من الليل. تذكرت اللحظة، في حوارٍ آخر بيننا على الـ "Messenger"، عثرتُ هناك على تنهيدة، دمعة، وابتسامة كان عليها شهود، وذكرى سأنفض عنها الغبار كي تبدو وكأنها للتو صارت تلمع.

الحرية لها معنى واحد عند كلّ المعذبين، لا أحلم بأكثر من كرامة أقاتل من أجلها وتعلمني أصول الحب، وتعلّمني الأدب

قطع... 

وأنا المسافر إلى أمسي أبدو أسرع من فهدٍ في الصعود، وفي النزول من صاروخ زلزل قلب المنطقة، اللحظة: تشتعل حواسي، تفوح منها رائحة المشمش البلدي، خبز الطين، البارود، أحب كل شيء فيكِ حتى كأبتك في الجو البارد، وغضبك اللامبرر على استمرار الحرب التي خربت كل أحلامك، ومن تعبك في الحِصن الذي تسكنين، متى تتحررين من نكهة الأدوية والتدفئة المركزية، رائحة الخشب المبلل في الشتاء، قبل نزوحي إلى رفح ما زلت قادراً على الكتابة عنك، وعن الحرب وعن المأساة كي أقنع قلبي أنني موجود، هنا وجدت على الـ Instagram مفردة تخبرني أنك على أحسن حال، وكانت الريح يومها بوصلتي كلما هبَ الحنين، ونكون في حالات أحياناً مرغمين فيها على الصبر ومتابعة دروس التنمية البشرية، وسماع الأدعية النبوية بقلب خاشع، والكشف عن أسرار الغزوات التي كنا نخوضها مستسلمين لهزائمنا الرائعة.

الحرية لها معنى واحد عند كلّ المعذبين، لا أحلم بأكثر من كرامة أقاتل من أجلها وتعلمني أصول الحب، وتعلّمني الأدب. لن أنسى في حضرة حب ميت ما يحدث في حارتنا، سأخبرُكِ عن بعض القصص كي تكوني الشاهدة معي على هذه الملهاة التي اسمها الحرب. اللحظة: الطائرات تقصف بيتا يكتظ بأشخاص مدنيين، سيارات الإسعاف تهرول نحو البيت، تتبعها سيارات الإطفاء. عند وصولهم جميعاً كانت الأم الناجية الوحيدة من المجزرة تصرخ في وجه الناس التي تجمهرت وتبحث بينهم عن ضباط الإسعاف، رجال الإطفاء، أمسكت بواحد منهم وقالت "حبيبي يا أمه، بنتي كانت بتتحمم لما قصفو البيت بعرضك يا أخوي استرها وانت بطلع فيها"...

قطع...

طاول القصف برجاً وخلّف وراءه الكثير من الشهداء وهدم جزءي لبيتٍ من الصفيح مجاور للبرج، هرعت سيارات الإسعاف، حضرت لتحمل جثث الشهداء، والمصابين، منهم أطفالٌ أكبرهم لم يتجاوز العاشرة. من بين الشهداء كان طفل مقطع الأوصال، ركب الأب سيارة أجرة ليلحق الشهداء والمصابين إلى مستشفى شهداء الأقصى متمنياً أن يكون ابنه من المصابين. عند مدخل الطوارئ وصل ورغم الازدحام بدأ يركض يبحث عن ضحاياه ، رأى المسعفين قد أُنزلوا قطعاً من اللحم ووضعوها على شرشف أبيض ليضعوها في الثلاجة إلى حين الدفن، وصل الأب وبطريقة هستيرية حمل اللحم المفتت ووضعه على الأرض وقام بخلع ملابسه العلوية وقال بصوت مخنوق: شايف يا "بايدن".. شايف يا "نتنياهو".. ورفع يديه إلى السماء قائلاً نويت الصلاة على أشلاء أبنائي لوجه الله تعالي الله أكبر، وخرّ ساجداً فوق الجثة أمام الحضور الذي تسمر من هول الموقف.

قطع...

شو بدك أقلك كمان، الحرب مستمرة ولن تتوقف حتى تتحقق أهدافهم، أما عن أهدافنا نحن المنهكين منها ومن تبعاتها المربكة، في حيرة من أمرنا، هل سنهاجر مرة أخرى خارج الوطن، لا أعرف ولكني أعرف أنني لن أتركها. تذكرت جاري محمد أخو نشأت، حاول أن ينجو حين اشتدّ القصف عليه وصار الدخان ملء السماء أسود، خرج من البيت مذعوراً، نسي طفله في خزانة الملابس معلقاً مع الفساتين. عاد ليحمله، ابتسم لأنه ما زال حيا فيما العائلة كلها كانت تحت الرمال قد فارقت الحياة. الحرب يا صغيرتي لعنة وقد أصابتنا ولا نملك إلا الصبر والصبر فقط، والكتابة فقط لكي ننجو من هذا الواقع الصعب والذي لا تظهر له أي ملامح، فكتبت الليلة الماضية هذا النص وأتمنى منك مراجعة الفقرات وعلامات الترقيم والكلمات المكررة ومناقشتي في بعض الجمل الاسمية وكيف يمكن أن نحول فعل الماضي في السرد إلى المضارع كي تظلّ الأحداث مستمرة ولا تتوقف.. غزة وأشياءٌ أخرى. 

رأى المسعفون قد أُنزلوا قطعاً من اللحم ووضعوها على شرشف أبيض ليضعوها في الثلاجة إلى حين الدفن

قطع...

السماءُ في الليلِ برتقالةٌ من نُحاسٍ، هل هذه غزة أم صورةٌ جديدةٌ لكوكبٍ للتو مُكتشف، صارت مخيلتي البكر أكثر جموحاً، سأذهب بها إلى الممرات التي لا تؤدي إلى أي شيءٍ، واثقاً من وصولي لرغبتي المطفأة، لا تُصدق الصعود السهل للغايات ولا السير المطمئن في الغابات، نحن ضحايا لا صوت لهم في هذا الضجيج، صغارُنا يحملون المسؤولية فوق ظهورهم في حقيبة النزوح إلى الفراغ، يصحّحون أخطاء اللغة في ميكروفونات القنوات الناقله للتعب، جوعى يثيرون شهية السؤال في فم الليل، أحصنةٌ تجر الشهداء إلى صقيعٍ مبهم قبل أن يُفسد الموت نياتهم، كسلٌ يصيب العين حين تنكسر الروح أمام قطعة حلوى تحلم أن تراها، "القهوة ترف" الماء النظيف من الأمنيات إذا ما نقحت عليك رغوة الذاكرة، يعزّون أنفسهم بعبارات قالها قبلنا الآخرون "عرف الثوار من رائحتهم النتنة"، طيعةٌ صوري المخزنة في المدارس المكتوب على بابها "يسمح فقط دخول العربات واللاجئين". هل عند جوعي أكون سافلاً إذا لزم الأمر؟ هذا سؤال سمج قلتُ في روحي، لذا سأبحث عن أهلى داخل فصول مدرسة الإيواء كي لا أضيعهم في فطور الصباح، لا حول ولا علبة فول فبعد هذا الانتظار المر تسدُ هذا الباب، إذن سأنتظر حتى تنتهي الفوضى وتدخل الشاحنات المحملة بعيناتٍ منتهية الصلاحية.

قطع...

هذا الجبن بطعم الدود، والمربى مالح، والخبز أصابه العفن، لا يهم، فهل يكفي للجميع إذن؟ النسوة يتوغلن في الزحمة بصمت، بحة شوك في حبالهن الصوتية، سال من القلب الكلام، مبللا بالحزن والغضب قال قائل: استمروا، النعوش تكفي لنا، هذا التَلوُّثُ البصري من صفات الذين يراؤون في الإحسان، هددوا وتوعدوا وعددوا كل الصفات القبيحة لوكالة الغوث التي ذلت الملهوف منا، وأجبرت البعض أن يبكي ويضحك ويلقى الكبرياء في حاوية "القمامة". هذا الوقت صالح لرغيف خبزٍ، وأنا أحارب بالنيابة عنكم وعن جوعي، أقاتل من أجل وطن صار لوحة في المتاحف أو ذكرى مغلفة في علب الهدايا. خان الوقت ولم يحن بعد، خان، فافتح أجزاء مسدسك على النوم، صوِّب نحو القهر رصاصاتك، وخذ هذا الغريب معك يجمع فوارغها على درج الصحو..

قطع...

وعلي سيرة الخبز والماء، في ظل هذا الخراب الذي نعيش، أتذكر قول بوذا: دعوا خُبزكم على عتبات كهوفكم للجائعين واتركوا بعض الثِمار على غصونها لعابري الطريق. يريد أن يقول لنا هذا الرجل يا حبيبتي، "الناس لازم تكون لبعضها البعض" في هذه الظروف المعقدة، لأن هذه الحقبة -أقصد- سوف تكون معياراً لحياتنا في المستقبل . ـ الحرب غربلت ناساً كثيرين، يقول رجلٌ بلغ الثمانين عاماً ويضيف: فيها عرفنا المنيح من العاطل، والهامل راح تظلّ سيرتو معو، وابن العز يا ولدي عمرو ما ينهان حتى لو تقصد البعض هاي الإهانة، ترفع لتسمو، وسأظل أنتظر: متي تنتهي الحرب يا رب .. وهل هذا الذي نحن فيه حقيقةٌ فعلاً أم هو مجرد خيال شاغر من الصور، وها أنا أحاول أن أتخيل من علو .. يقولون من فوق جبل يرى المرء كل شيءٍ بوضوحٍ أكثر. إذا كتب لي الله النجاة سوف أكتب أكثر عن هذه الحرب، وما خلفته من معاناة ومأساة لم تحدث لا في العصور الغابرة، ولا في العصر الحديث. هذه إبادة منظّمة وكأن كل شيء معدّ لنا سلفاً.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون