محادثة ذاتية

05 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني يزن أبو سلامة
+ الخط -
اظهر الملخص
- **ذكريات البيت والعائلة:** كانت شجرة الليمون وشمس الصباح الباردة تملأ الأجواء بالدفء، ولحظاتك مع والدك في الحاكورة مليئة بالضحك والآمال، مما جعل العودة إلى البيت فعلًا شاعريًا.

- **تجربة النزوح:** النزوح كان مؤلمًا، تذكرين صديقتك هبة وتجاربها المتكررة، ويوم نزوحك كان مليئًا بالدموع والخوف، ولم تستطيعي النوم في مكان النزوح الأول.

- **الأمل والعودة:** رغم الألم، كان هناك دائمًا أمل، وعندما عدتِ إلى البيت شعرتِ بروحك تعود لك، مؤكدة أن البيت لا يزال كلمتك المفضلة.

إلى هناء، 

تذكرين البيت؟ هذه روائح البيت يا حبيبتي، ونهار الجمعة واجتماعٌ للعائلة فيما يبدو الآن من هذا المكان إعادة تجمّع العائلة أمرًا في غاية الصعوبة. تذكرين تلك الأيام جيدًا، ولا تعرفين كم تُؤثر في روحكِ تلك التفاصيل الصغيرة، شجرة الليمون المزهرة التي تكون رائحتها صباحًا بديعة، شمسٌ باردة في الصباح، تغطيها بعض غيوم بيضاء عابرة، وقوفك في منتصف الحاكورة تبحثين عن السلحفاتين، أسميتِ واحدة منهما تيمور، والأخرى ظلّت بلا اسم تقولين عنها السلحفاة الصغيرة، جلوسك مع بابا في حاكورة البيت، تحكين له عن أسبوع عملٍ شاق جديد، وتحكيان عن السفر والتعب والحاجة الدائمة ليوم جمعة دائمًا، تحكيان عن الآمال الكبيرة وخططٍ لحياةٍ كانت سعيدة، وهانئة.. 

تجلسان مثل صديقين قديمين يعرفُ أحدهما الآخر جيدًا. هل تذكرين ضحكة بابا جيدًا؟ يُغمضُ عينيه، تظهر عند زاوية عينيه خطوط كثيرة، وَرثْتها أنتِ عنه، بعد سنوات اكتشف أحدهم في واحدة من أيام الحرب الطويلة تلك "الكرمشة" عند زاوية عينيك وأحبها. يعود بابا بجسده إلى الوراء قليلًا ويضحك، فيما تسألينني بإلحاح وطفولة، هل يضحك بابا كما كان يفعل سابقًا؟

تذكرين البيت، وكيف كانت العودة إليه كل يوم أكثر فعلٍ جليل وشاعريّ، كيف كانت خطواتكِ تُسرع حين تصلين إلى رأس الشارع، ويتراءى لك البيت من بعيد. وتذكرين جيدًا لحظة خروجك منه، والحقيبة الثقيلة على ظهرك، أتساءل الآن وأنا أنظر إلى الحقيبة أمامي بينما أكتب، كيف اختصرتِ البيت في تلك الحقيبة؟ 

كنتِ خائفة من النزوح واعتصمتِ في المكان الثاني ولم ترغبي أبداً أن تتعاملي مع نزوحك بشكل حقيقي

تذكرين صديقتك هبة التي توقفتْ عن عدّ مرات نزوحها، والتي فاقت عدد أصابع يدها.. كنتِ تخبرينني بمرارةٍ عن البيوت التي سكنتها مدة يوم، وعن البيوت التي سكنت أرصفتها فقط، وعن البيوت التي ظلّتْ فيها حتى خرجتْ في رحلة نزوحٍ جديدة، كيف كانت تترك بعضًا منها في كل بيتٍ تنام فيه ولو لليلة واحدة، كم فكرة، كم صلاة في كل بيت، وكم صورة التقطت لها ولعائلتها الصغيرة. 

أتذكر صوتكِ ممتلئًا بالدموع يخبرني أنّ هبة غادرت إلى مصر، وأنّ الأصدقاء يرحلون، كيف تغادر هبة البلاد؟ وهي التي تحتاجين وجودها حتى تظلي على وفاقٍ دائمٍ مع الحياة. قبل نزوحك من البيتِ أرسلتِ لها رسالةً نصيّة: "لا أريد الخروج من البيت. البيت هو روحي". أرسلتْ لكِ: وروحي أيضأ يا هناء. 

النزوح، هذه الكلمة التي لم تستخدميها من قبل وتشبه اقتلاع الروح من الجسد، يا هناء ذلك الصباح الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، والذي سيظل في رأسك كل هذه المدة، ولن تستطيعي مهما فعلتِ أن تتناسي ذلك اليوم قبل أن يحتفل العالم ببداية جديدة، كنت تتجهزين للقيامة.. وقفتِ تحملين هاتفك تلتقطين كل زاويةٍ وتحفظين تلك الصور في داخل رأسكِ، تودين لو كان بإمكانك ابتلاع البيت كله في داخلك، تأخذينه معك، تضعينه في جوفك، وتسيرين به إلى الأبد. كيف عانقتِ جذع شجرة الجوافة وأغمضتِ عينيك تتوسلين لها أن تصمد، وتحرس البيت.. تخبرينها أنكِ ستعودين، لا بدّ ستعودين، تهاتفينني قبل خروجكِ، وبالكاد أسمع صوتك تقولين إنكم ستغادرون البيت، أسألك أين تقفين؟ تجيبينني: تحت أشجار الكلمنتينا. ثمّ بخطوات لا تعرف إلى أين تذهب، غادرتِ البيت! سرتِ للأمام، أقدامكِ تريد العودة إلى هناك، لم أعرف يومًا خطواتٍ قصيرة وخائفة كتلك التي كانت يوم تركت البيت، لم تلتفتي للوراء، لم ترغبي أبدًا أن يصغر البيت ويصبح بعيدًا إلى الحد الذي تقف بينكٍ وبينه دبابة وسلاح.

الإجابة الوحيدة المنطقية عن سؤال كيف حالك؟ "أريد العودة إلى البيت". ولم تعودي بعدها

تلك الليلة، في مكان نزوحكِ الأول -لأن هنالك مكانًا ثانيًا- لم تنامي، كنتِ متعبةً يا حبيبتي ظلّ البيتُ يلوح لكِ، يجيء ويغيب، في العتمةِ والبرد في زاوية ما من المكان، جلستِ منكمشةً على ذاتك، تبكين، تقضمين أصابعك، يبتلعك الخوف، يكبر فيك تصيرين تحت وطأته فريسةً ينهشك كل دقيقة. "أريدُ العودة إلى البيت"، كانت تلك الكلمات دائمًا هي إجابتكِ عن كل الأسئلة، الإجابة الوحيدة المنطقية عن سؤال كيف حالك؟ "أريد العودة إلى البيت". ولم تعودي بعدها بسرعة.

تذكرين الشارع الطويل ويوم النزوح الماطر، كيف اختلطت دموعكِ بالسماء، كانت السماء تبكي وكنت تنهمرين معها، هل خطر في بالك في تلك اللحظات الحرجة أنك ستستطيعين النجاة، وستكونين قوية وتروين لي حكاية نزوحك؟ وانتظرتكِ، انتظرتُ عودتك تخبرينني بحماسة لا مثيل لها، كيف أنّك تستخدمين كلماتي البسيطة الهادئة في نصوصك: "نصوص جيدة هكذا تخبرني صديقتي" أقول: حب فتقولين حب، أقول بيت، عائلة، دافئ، كتاب، مشاعر، حبيبتي. فأعرفُ أنّ هذا صوتكِ يخرج من خلالي منسابًا مثل نهر، وساطعًا مثل شمس. 

أتذكر اليوم الأول لعودتك إلى العمل، كنتِ خائفة من النزوح واعتصمتِ في المكان الثاني ولم ترغبي أبدًا أن تتعاملي مع نزوحك بشكل حقيقي، ولا أن تسمعي المزيد من القصص والألم حتى وضعوكِ في مواجهة كاملةٍ معه، وصرتِ تكتبين قصص الأولاد من هناك، من المدن الصغيرة التي ظلّت وراءهم، تسألين أحلامهم أن تكبر، وأملهم ألا ينقطع. لم تخرجي للشوارع، لم تعرفي كم عدد الناس حولك، ولم تربطي شوارع المدينة الجديدة ببعضها حتى لا تضيعي فيها، كنت مختبئةً وخائفة، ومرهقة وكان النزوح يخدش رهافة شعورك، كنتِ مرهفةً، تبكين لشجرة ليمون لا تزال تزهر وتتذكرين شجرتك التي اقتلعتها الجرافة من جذورها، تسألينني بيأسٍ ولم أعرف بماذا أجيبك: لماذا حدث كلّ هذا؟ تقرئين عليّ مقاطع من الكتاب الوحيد الذي أخذتِه معك في حقيبتك "سقف الكفاية".. تخبرينني أنك تحبين رسائلي لكِ وأنّ الحب أكثر من أي شيءٍ آخر قادرٌ على إنقاذنا. حاولتُ أن أحميكِ من سقوطكِ وبكائكِ ويأسكِ وأن أعيدك إلى البيتِ بطريقةٍ ما، أرسلتُ لكِ صورةً للبيت كنتِ مشتاقةً له، وبعد غياب طال مدة شهرٍ كامل عنه، شعرتِ بروحكِ تعود لك وأنت تعرضين صورة البيت على بابا، تخبرينه أن البيت بخير تمامًا كما تركناه آخر مرة. ترسلين لي عندها: أنت بطلي، أقول لك: وجدتها مصادفة. تُصرين على كوني بطلًا حقيقيًا، ثمّ أرى ابتسامتك العملاقة وتغيّرًا واضحًا في لحن صوتك، كنت ترقصين مثل فراشة، شعرتُ بك. مدّة نصف ساعة وأنتِ تبحثين في الصورة تخبرينني عن الأشياء التي سقطت من البيت، سقطتْ أسواره وعريشة العنب التي زرعها جدّك بيديه قبل ثلاثين عامًا، والأشجار الأمامية، كل الأشياء حوله كانت تريد له أنّ يظل واقفًا، أنا، أنت، الحياة، الشارع، الشجرة، الجيران. بينما كان الثقب الأسود يحاول أن يبتلعه، كنّا نمسكه بأيدينا، ونشدّه، نشدّه ناحية النجاة، وناحيتك. 

لم يسقط البيت يا حبيبتي. مثلكِ تمامًا شامخًا وثابتًا مثل أصحاب الأرض. مرارًا وتكرارًا بكيتُ، أريد العودة إلى البيت، توسلتِ، انتفضتِ، استسلمتِ مرات كثيرة، ثمّ عاندتِ، انهمرتِ وسقطتِ وبكيتِ. وبكيتِ إليّ، بصوتٍ مرتجف غائم، طلبتِ منّي أن أعيدكِ إلى البيت، وحاكورتنا، غرفتك، نافذة الغرفة، نصف الجدار الذي بقي، كتبكِ، ودفاترك التي تكتبين فيها، رأس الشارع، الشارع ذاته.. يا هناء، يا هناء.. عدتِ إلى البيت أخيرًا، بجناحين أقوى وقدرةٍ على التأقلم أعلى، ورغبة في عناق الحائط المتصدع، العمود الذي صمد، السقف الذي لم ينهر، بركة الماء التي أمام البيت، رغبة في لمس كل أشيائك، في إعادة صور ماما على باب الخزانة، وترتيب الكتب على رفوف المكتبة، في محاولة الزراعة مجددًا، في البحث عن الغائبين، وفي الكتابة عن هذه المدينة، عن حزنها، ركامها، حاراتها، شوارعها، وأولادها الّذين تحبينهم، ويعلمونك كل يومٍ معنى أن يتشبثّ المرء بالحياة. 

إلى هناء، 

الأمل، الأمل بالفعل كلمة حقيقية (أكدت لي أنّه موجود).. وجدتِها بين زهرتي حنون في ركام الشارع -أمام بيت أبو شوقي جارك- المتهدم تمامًا، التقطتِ صورةً للزهرة، أرسلتها لي تقولين: صورة بعنوان الأمل. هل ما زلتِ مصممةً على أنّه لا يزال هناك أمل؟ وإليكِ، إليك مرةً بعد أخرى.. هل لا يزال "البيت" كلمتك المفضلة؟ 

مخيم المغازي، غزة الأحد 21 نيسان/ إبريل 2024


* هناء أسامة/ كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون