ثلاثة نصوص من الحرب

08 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني محمد السمهوري
+ الخط -
اظهر الملخص
- **زهور الحياة وسط الدمار**: أثناء الحرب، لاحظت زهوراً صفراء تنمو بين الحجارة، مما أضفى لمحة من الجمال والتحدي للحياة وسط الدمار. أرسلت صورها لأختي لتشارك هذا الجمال الذي ينبثق وسط العنف.

- **روتين الحياة في الحرب**: أحاول الحفاظ على روتين طبيعي، أمارس الرياضة وأستمع للموسيقى لتخفيف التوتر. الليل مرعب، حيث نحاول تهدئة أنفسنا وتجنب القصف، مستذكرين قصص الناجين.

- **موت مشمش وولادة لولو**: خلال الحرب، ماتت قطتي مشمش بسبب تأثير المعلبات الجاهزة. قبل موته، وضعت القطة لولو صغارها لكنها لم تهتم بهم، مما أدى إلى موتهم، مما يعكس تأثير الحرب المدمر على الحيوانات.

على مدخل الدرج

أثناء صعودي على الدرج لأضع بقايا لحم المعلبات للقطط التي تأتي إلى سطح المطبخ، لمحتُ زهوراً جميلة لونها أصفر تسرق القلب من روعتها، رأيتها قد شقّت الحجارة، وخرجت تتمايل وتتراقص مع أشعة الشمس على مدخل الدرج، ورغم صوت الزنانة المخيف تلاشى خوفي، ونزلت الدرج وحملت موبايلي وصوّرتها أكثر من صورة، وأرسلت الصور لأختي لتشاهد هذا الجمال وسط الحرب والتدمير والخوف. كان جمالها استثنائياً، يقول كل شيء دفعة واحدة، ويجعلك لا تنبهر فقط، بل تنسى الحرب وصوت الطائرات والخوف، كانت تنمو وسط الحرب وكأنها لمحة لحياة كاملة. تجيء ألوانها زاهية وكأن الحياة دبت في الأرض رغم الحرب والتدمير، كما يجيء الأطفال وسط الحرب وتحمل النساء في الحرب رغم القيامة. إنها الحياة تجابه الموت بكلّ صوره، لا يهمها الموت، تصفعه بقوة على وجهه ويده، وتأتي رغماً عنه في شكل زهرة وهيئة طفل يتشكل في الحرب. رغم ذلك كل ما يظهر لنا من علامات الحياة نتجاهله بالحرب لأننا مورس ضدّنا كل أنواع القتل والعنف، ومارسناه على أنفسنا وغيرنا، لذا ننظر للحياة التي أُعدمت بنظرة الموت الثاقبة. كأن الحياة تقف على مدخل الدرج ويقابلها الموت بلباس أبيض كأنه ملك الموت يحتضن جسد الضحية ويأخذه إلى جنته الموعودة. ماذا لو سقط كل شيء دفعة واحدة، واستيقظ الجميع على الحقيقة وسقطت البرمجة التي برمجونا إياها، سقطت والأقنعة في بئر عميقة..؟


■ ■ ■


أحمر شفاه

كما كلّ حرب ونكاية بالحرب أستحم في دقائق، أمشط شعري 
أقص شعري 
أرفعه كذيل حصان صغير يتمرد 
أكتحل 

أفرك خدودي بأصابع يدي، ثمة حياة في الوجه الشاحب. في الحرب، توجد موسيقى كلما نقرت أصابع يدي فوق الطاولة، أحرك رأسي ورقبتي في صوت طقطقة الرقبة، أحرك ساقي التي تعبت من ضمها أثناء الليل خوفاً من القصف، أسمع أغنية تأخذني نحو الحياة بكامل نقصانها. ألعب بعض التمارين الرياضية، أرتدي كل ما أريد ارتداءه. في الحرب. لا أحبّ ارتداء ملابس الصلاة، أفضل ارتداء بلوزة نصف كم، وبنطلون جينز أو أسود مريح، وأضع على مقربة من سريري عباية للظروف الراهنة في حال حدث قصف أرتديها بسرعة، وأفتح باب البيت لأسأل المارة الخائفين مثلي "قصفوا بيت مين" في حارتنا، ثم أعود لأجلب الحياة من قدميها. 

كان الألم سيد المكان في كل جزء فيها وفي نبرة صوتها ووجهها، متمتمة: "يا ريتني متت وارتحت"

أنقر بأطراف أصابعي على الأرض في رقصة خجولة، وأرفع يديّ عالياً ثم إلى أسفل كما الموج.

أتحرر من مخاوفي، من أصوات الطائرات الحربية، من صوت الزنانة، من الأصوات القادمة من الشارع قرب غرفتي قبل أن يكتحل الليل بمخاوفنا وصوت القذائف. 

أسمع أغنية، أردد أدعية حفظتها، ثم أغني، أرخي شعري الذي قصصته بسبب الحرب، أردّد أغنية مع السلامة يا مسك فايح. تنزل دموعي وتنساب كنهر دون عائق للدمعة. أرسم الكحل في عيوني اللوزية، أضحك وأبكي،

أغني، 
أتنهد. 

الليل أيضاً جندي في الحرب له مهامه الشاقّة وله منجل وقناصة، ويأتي الزائر ثقيل الدم، المخيف والمرعب يطارد كلّ شيء فينا، لو أنه فقط يضيء عتمته قليلاً لخفّت التنهيدة في صدرونا، ولصار أقل رعباً ورهبة. نتحسّس فيه أعضاءنا والأمكنة والجدران نتحسس كل شيء حين يأتي ونهدّئ أنفسنا أو نحاول. الليل الذي صار شبحاً يخيفنا.

أجلس على السرير، وأفكر كيف تكون جلستي على هيئة واحدة كي لا تنهبها الطائرات بصواريخها، كيف تكون جلستي مرتاحة وفي نفس الوقت لا تسرق مني قطعة واحدة ولا أي قطعة تسرقها الطائرات بصاروخها المميت.

يمر وقت وأنا أجهز جلستي كما أريدها ثم أعيد من جديد السلام لجسدي كله في جلسة مختلفة، ثم أعود من جديد وأفكر هذه الجلسة قد تكلفني ساقي الأيسر، فأعدل من جلستي ثم أضحك... ماذا لو جاء الصاروخ وسلبني طرف كتفي، أو أسقط كتلة من ظهري، كما حدَث مع شروق التي قابلتها، في مدرسة الإيواء في رفح، أثناء جلستي معها للدعم النفسي، قالت:
هربنا من القصف لمدرسة إيواء، قُصف المكان، وسقطت قطعة من لحم ظهري تركت فجوة كبيرة في اللحم. الجميع اعتقد أنني توفيت إلى أن نفخ الله في الروح من جديد، وبعد علاجات كثيرة تعفن الجرح الكبير في ظهري، وظهرت اليرقات، ليقوم الطبيب من جديد بقطع اللحم المتعفن بدون بنج.

يقابلها الموت بلباس أبيض كأنه ملك الموت يحتضن جسد الضحية ويأخذه إلى جنته الموعودة

كان عليها أن تصرخ حتى يكتوي صوتها دون أن يسمعها العالم. كان الألم سيد المكان في كل جزء فيها وفي نبرة صوتها ووجهها، متمتمة "يا ريتني متت وارتحت".

أما أختها فقد فقدت زوجها في الحرب. في عمر السابعة عشرة. أصبحت أرملة لديها طفل صغير تمارس ضده العنف انتقاماً من كل شيء. كذلك الأخت الأخرى فقدت زوجها، وتركت لها عائلة زوجها الحمل بثقله مع أطفالها دون أي مساعدة، أو حتى زيارة خوفاً من التكاليف، أو مطالب. كثيرات ترملن وفقدن الحب والسند في لحظة.

من مدينة لمدينة، ومن مدرسة إيواء لمدرسة أخرى، ومن خيمة لخيمة. لا أمان ولا مكان دافئاً لأي كائن يمكن أن يستوعب حنينه لبيته ولنوم هانئ، مرتاح البال هو من يستشهد كما يقول الكثيرون، أما من أصيب فهو في الجحيم مرات عدّة، يقتصه الموت ويعلوه الذباب والأمراض والجوع.

الحقيقة تتجول في الطرقات 
في البيوت المدمرة
في شارع يستغيث 
لكن العالم أعمى 
عن اصطياد فرصة واحدة للسلام 
الحرب ليست كما ترونها، إنها مختلفة في الهدم، هدم الروح الإنسانية فينا، فيكم.
إنها تهلك كل شيء الزرع والطيور والبشر والبيوت، وكل ما نعرفه عن الحياة، إنها هدم لحقيقتنا البشرية. أعصابك في النار وذهنك شارد يسرقه الصوت والدخان والموت، تحاول جاهداً أن تفعل ما يمليه عليك وضعك، وتكمل حياتك مُرغماً، الحياة التي يلوكها الموت وينظر في عينيك بوقاحة. 

■ ■ ■

موت مشمش وولادة لولو في الحرب وتركها لصغارها

ذهبت كعادتي إلى القطط لكي أطعمها وأطمئن عليها. وجدتها ناقصة واحداً. مشمش الجميل. فتشتُ البيت عنه فوجدته ملقى على الأرض في غرفة القطط بشكل مرعب. دق قلبي، خفت أن يكون ميتاً. في الحرب، تكون اللغة بسيطة وهشة، وأحياناً لا لغة. فقط نظرة العيون، العيون الخائفة والراعشة. نخزت مشمش بعصا المكنسة "لأني أخاف القطط"، فتحرك حركة بسيطة، حمدتُ الله أنه لم يمت، لكنه كان مريضاً ويبدو غريباً، فقد تغيّر فجأة شكله دفعة واحدة، وبدا يُحتضر وتصدر منه حركات غريبة كأنه في حالة "صرع". ناديتُ ابن الجار الذي يمتلك قطة، وجاء ليراه وحدث التشنج مرة أخرى لكنه أقوى، فقال: 
يبدو أنه تسمم، حالة تسمم
قلتُ: من شو بده يتسمم
رد ابن الجار: في بس زي هيك صار معه ومات
أنا: يا لطيف يا رب

أجريت اتصالاتي بزوج أختي ليخبرني أن أذهب به لدكتور بيطري
ومع التنسيق مع ابن أخيه خرجنا وسط تحليق الزنانة وصوت القصف، في أماكن بعيدة، وقلة المارين في الطريق الذي سلكناه، عبر طريق مختصر لنصل إلى الطبيب البيطري. كنت أتمنى أن نتركه عند الطبيب ليهتم بأكله وشربه، ويعطيه المحلول حتى يساعده على البقاء، لكنه اعتذر.  

أعطاه إبرة، وطلب أن نأتي ثاني يوم ليأخذ مشمش إبرة أخرى. كان ذهابنا قبل المغرب، تقريباً، وطائرة الزنانة في السماء تأكل قلوبنا وعقولنا بصوتها. لم يتحسن مشمش وذهبنا به أنا والشاب الصغير محمد إلى دكتور بيطري آخر في منطقة الشابورا. 

استبشرنا خيراً مع تحسن القط مع أول إبرة، وطلب مجيئنا به ثاني وثالث يوم، وبعدها انتكس مشمش ومات في اليوم التالي. في الصباح الباكر اتصل بي والد محمد ليخبرني بذلك. كان مشمش طوال الليل يتألم ويصرخ ويئن ثم مات، هكذا كأنه يلعن الحرب والخوف الذي عاشه من صوت القصف والطائرات.

الخطير هنا تأثير المعلبات الجاهزة على المخ عند مشمش. قال لي الطبيب إن تأثير المعلبات على البشر أيضاً خطير جداً، المستشفيات تمتلئ بالمرضى جراء تناول المعلبات منذ بداية الحرب والتجويع والإغلاق المتعمد من الاحتلال للمعابر، ومنع دخول الشاحنات المحملة بالبضائع والأغذية والخضراوات.

قبل موت مشمش بأسبوعين تقريباً وضعت لولو صغارها الأربعة دون اهتمام، وكأنّها تتملص من المسؤولية، وكأنهم ليسوا صغارها. يبدو أن الحرب تركت آثارها النفسية أيضاً على القطط. في اليوم الأول من ولادتها خبأتهم خلف بيت القطط. سمعتُ أصوات مواء قطط صغيرة، لكني لم أعثر على شيء، وفي اليوم التالي سمعت أصواتها، ووجدتها متروكة للجوع والموت. ناديت ابن الجيران فحملها دون لمسها حتى لا تستغرب الأم رائحتها وتتركها. وضعها ابن الجيران في قفص القطط، لكن لولو لم تهتم ولم ترضع صغارها ولا اقتربت منهم، وكأنها لا علاقة لها بهم، إلى أن ماتت القطط الصغيرة في اليوم الثالث. لا يمكن أن تتصور ما الذي فعلته الحرب بكل تركيبة لأي كائن، وإلى أين توصله الحرب في جنونها وأنانيتها.


* شاعرة من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون