"رام الله" عنوان رواية عبّاد يحيى الأخيرة، التي توحي بحجمها الضخم، الذي يتجاوز السبعمائة صفحة، وبملحقها من المراجع، أنها تكاد تكون تاريخاً، أو أنها في الأقل رواية تستند إلى التاريخ. لكننا من قراءتها نلاحظ أنها رواية أولاً، وأن التاريخ، الذي يغطي زهاء قرن، يحضر بشكل مباشر في بعضها أو غير مباشر في معظمها، لكنه يحضر كصور وكمناخ وكرموز.
"رام الله" أولاً تحضر في عمارة دار النجار، بل إنها مرويّة بلسان البيت الذي يرويها لمستمع وحيد هو دكتور عماد العايش، الذي نعثر عليه كأحد شخصيات الرواية، وله بالطبع حكايته الخاصة التي تخترق الكتاب. إنه آخر من آلت اليه دار النجار، ونحن نقع عليه في أوائل الرواية وقد فقد زوجته ريما، وسيبقى فاقداً لها إلى آخر الرواية، لكنّه يتحول أثناءها، ليس فقط إلى مستمع للدار، ولكن إلى ما يشبه راوية يحيط بالعلم بمروياتها وخباياها. لسنا نعرف كيف صار إلى ذلك؛ لقد وصل إليه شيئاً فشيئاً وانتقل هكذا من شريك في الرواية وواحد من شخصياتها إلى وعي عام لها.
تبدأ الرواية من فلسطين ما قبل الحربين العالميّتين. نقع على آل النجار بدءاً من إبراهيم فبطرس وعائلته. بطرس هو الذي يقوم بالمحاولة الأولى لبناء الدار، ونحن نتعرف على زوجته هيلانة، ونعمة من بين بناته، وخليل ابنه الوحيد، فهذه السلالة في كل أُسَرها تنجب ذكراً واحداً. هذه صفحة من ماضي رام الله، تقابلها، في الرواية، من الجهة الثانية، صفحة من راهِن رام الله، يسوقها دكتور عماد العايش، أستاذ "جامعة بيرزيت" الذي ثكل زوجته ريما وما يزال يعاني هذا الفقد؛ والدار، دار النجار التي آلت إليه، تروي وهو يسمع قبل أن يغدو مؤلِّفاً وشريكاً.
يحضر تاريخ المدينة في الرواية كصور ومناخ ورموز
إذن، نحن أولاً في رام الله قبل الحربين العالميتين، وما نعرفه عن هذه الحقبة في فلسطين يدور في بيت النجار. هنا نعلم أن نعمة تسهر على زوجها الذي قفز عن بغله فدخل في غيبوبة، ينهض منها مرة واحدة ويعاشر تواً زوجته ليعود بعدها إلى غيبوبة صارت موتاً. لكن معاشرته أثمرت حملاً تعيا به الزوجة، خشية أن يلحقها العار، فمن يصدّق أن الحمل هو من الزوج الغارق في غيبوبته منذ عام؟ ولتلافي العار، تتظاهر أمها بأنها هي الحامل ويُنسب المولود هكذا إلى أبيها؛ سرٌّ لن يعلم به الابن المولود، وسيُدفَن مع أُمّه. هكذا نجد أن التباس نسب سالم قد يكون عنوان المرحلة، وهكذا يبدأ إشكال الهوية الفلسطينية.
لكن الرواية تقتصر في هذا الجزء على العائلة، وثمة عائلة أخرى يُسكِنها بطرس النجار الطابقَ السُفلي من البيت. وقد تكون العائلة عنوان هذه المرحلة كلها، التي لا تلبث أن تخرج من سَمْتها الذهبيّ إلى نزاع مع الإنكليز واليهود. إننا على أبواب 1948. لقد تشوّش نسب سالم وتشوّشت العائلة. طُرحت الهوية كمسألة، وستكون نكسة 1948 مصداق ذلك كله. هكذا التبس اسم فلسطين والتبست هويتها.
بعد نكسة 1948 يبدأ العالم خارج العائلة. تتمزق العائلة وتبدأ المرحلة الأردنيّة. لن تكون هذه المرحلة سوى نزاع وانقسام. "رام الله" في المملكة ستكون ما بعد العائلة: بيت النجار سيتهلهل وسيغادره قاطنوه إلى أميركا، التي سبق أن صارت مهجراً للابن خليل وستغدو مهجراً للكثيرين. الآن ستكون السياسة هي العنوان؛ سيعاني جميل ساكن الطابق الأسفل في دار النجار من السجن والملاحقة، وسيقوده ذلك إلى الركون. لكنّ الحوادث والمصائر الشخصية لن تكون أقل قساوة. سيُمنى جميل بالخيبة، وسينفصل سالم عن المرأة التي أحبّها وأحبته؛ هي لن تتوقف عن التفكير به وهو كذلك، لكنها تتزوج غيره ويتزوج غيرها، ولن تجد هي في زوجها، كما لن يجد هو في زوجته، بديلاً. الانفصال وانهيار العائلة هما ما يتطابق مع المرحلة. النزاع السياسي هو المقابل لخلوّ البيت التدريجيّ وانتقاله من ملكية آل النجار إلى سواهم. البيت الذي هو رمز رام الله وراوي قصتها يقع في أيدي غير أصحابه، كفلسطين تماماً؛ ويغدو، تماماً، مثلها فاقداً اسمه وهويته.
بدأت الرواية بالعائلة وها هي تنتهي بسقوط العائلة
ستكون المرحلة الثالثة هي مرحلة ما بعد 1993 وتحوّل رام الله إلى عاصمة للسلطة الفلسطينية. هنا نجد الاقتصاد قد طغى على كل شيء، وقيادات الثورة تحوّلت إلى مقاولين ومهربين وتجار حرب. سيكون عنوان هذه المرحلة موتُ ريما ومغالبة زوجها، عماد العايش، لفقدانها. لكن شيئاً آخر سيبرز من خلال المرحلة والتباساتها، وسيكون هذه المرة نافراً وملبِساً ولا مكان لتقييمه أو محاكمته. إنه الحب الذي عُقد ما بين ريما، في حياتها، وغسّان عيّاد؛ هذا الحب يفتح أفقاً ملبِساً في الرواية. لقد بدأت الرواية بالعائلة، وها هي تنتهي بسقوط العائلة. ريما المتزوجة تقع في غرام مع مصوّر يملك أرشيفاً كاملاً للحياة الفلسطينية منذ كانت الكاميرا.
ليس دخول المصوّر في الرواية أمراً غير لافت. هذا المصوّر هو المقلَب الآخر لتاريخ رام الله وللتاريخ الفلسطينيّ. فلسطين تحيا وتبقى في صوَره، ورام الله تتحوّل الآن إلى أرشيف وإلى تاريخ. هكذا نفهم علاقة ريما بالمصوّر. إنها زيارة للتاريخ؛ إنها المقلب الثاني والشاعريّ للمسألة الفلسطينية، وهي نوع من مرثاة غير مباشرة لها. من هنا نفهم ركون الزوج لهذه العلاقة بما يشبه قبولاً. إذا كانت دار النجار هي رام الله، وبالتالي فلسطين، فإن أرشيف غسّان سيكون بديلاً لهما، وستكون فلسطين ورام الله باقيتين فيه.
* شاعر وروائي من لبنان