الفلسفة التي كان يعتمدها جدّي، وأبي من بعده، تقول إن أيّ شيء تخبّئه، دون أن تكون بحاجة له اليوم، سيقول لك الدهر: هاته. لا يَعرف كيف ومتى وأين يمكن أن يحدث ذلك، غير أنه كان يؤمن أن هذا الطلب مؤكّد لحاجة تخصّه هو أو تخصّ أحدَ أصحابه. ولهذا فقد كان لديه صندوق خشبي متوسّط الحجم يضع فيه كلّ، أو أيّة قطعة خردة يجدها في أيّ مكان وليس لها صاحب أو مُطالِب: براغ من كلّ قياس ممكن، صامولات، أشرطة بأطوال مختلفة، مسنّنات، أيدي كمّاشات مخلوعة، زنبرك قطع غيار لأنابيب المياه، وصلات بلاستيكية، أقفال معطّلة، مفاتيح أبواب. وكان يعِد نفسه أن يقول لمن حوله حين يأتي وقت الحاجة لأي قطعة من تلك التي يخبّئها: أرأيتم؟
كانت أسباب الخوف من المستقبل (الذي تحوّل إلى هاجس لجمع الخردة والكراكيب)، كثيرة: لا المال متوفّر للادّخار، ولا الطبيعة كريمة دائماً في أمطارها، ولا السلطة مؤتمنة، ولا الأسواق بصنّاعها وتجّارها. ولكنّ الأجيال التالية، أي أجيال ما بعد الاستقلال، كانوا يظنّون أن صندوق الجدّ وهمٌ، أي أن الخشية من المستقبل مجرّدة من أية حقيقة. كان الغد أو المستقبل واحدة من المفردات السحرية التي تغلق الطريق على اليأس واليائسين، أو تحاول أن تمنع التشاؤم، أو تعرقل لهجة أولئك الذين لا يرون الضوء في آخر النفق. في الغالب هُم من الشباب، يتحدّثون عن المستقبل وهم يصدّقون أنهم قادرون على إحداث التغيير الذي يحلمون به.
شعارات الأمس عن المستقبل المضيء تبدو مجرّد كذبة اليوم
لقد كانت أحلام الجميع كبيرة: يسار ويمين ووسط وما بين الوسط يؤمنون بالمستقبل المضيء. شعارات وأحلام تصدّق كلّ ما تقول، أو يقال لها عن الغد، وتسخر من الصندوق الصدئ.
تبدو تلك الشعارات مجرّد كذبة اليوم، وقد شارك فيها الشعر "الثوري" والرواية صاحبة البطل الإيجابي، لا لأنها لم تتحقّق وحسب، بل لأنها لم تكن مبنية على معطيات مأخوذة من الحقائق، من جهة، ولم تأخذ العقبات والقوى السياسية والاجتماعية التي ستقف في وجه الوعود بجدّية، من جهة أخرى، بينما يبدو الصندوق الممتلئ بالخردة التالفة أو الصدئة التي لا غرض لها، حقيقياً من الناحية الرمزية. لقد حدث ما كانوا يخشونه، وبات المستقبل خربة مدمّرة تعتلي سطحها مجموعات من اللصوص والمرتزقة. وبعض هؤلاء كانوا يخدعون مَن حولهم بحديث آخر عن الغد، كي يمرّروا الحاضر الذي امتلكوه: اتركوا لنا مكاسب اليوم، وخذوا عدّة الأمل.
لم يأتِ المستقبل بأيّ جديد؛ لا تصلح البراغي والمسنّنات القديمة لتشغيل أيّ شيء. ومن الصعب أن نصدّق أن لدى الصندوق المسكين حلولاً للعصر، فكلّ ما يستطيع أن يفعله هو أن يشهد على مأساته هو، إلى جانب مأساتنا نحن الذين قدّمنا لهم، كي نهدّئ من مخاوفهم، ولأنفسنا، كي نضخّم من ذواتنا المدّعية المنتفخة، وعوداً ضخمة عن المستقبل لم يتحقّق منها أي شيء.
يبدو الأمر شبيهاً بمقايضة خاسرة فقط، إذ بينما قدّم الجيل الأكبر صندوق الخردة الصدئ، لم يقدّم الجيل التالي غير الوعود المحبطة والأرض المحروقة.
* روائي من سورية