منظومة الانقلاب واستراتيجية التفزيع والتزوير

12 مايو 2017
+ الخط -
من أهم استراتيجيات المنظومة الانقلابية في مصر عمليات تتعلق بالترويع والتفزيع، التي اعتمدها في محاولةٍ للتمكين لسياسات البطش والطغيان التي يقوم عليها، مجموعة من الأحداث تتراكم لتؤكد هذه الاستراتيجيات التي صارت تستخدم، بشكل ممنهج ومنظم، أكبر شاهد على ذلك حينما تخرج إعلاناتٌ وبياناتٌ من وزارة الداخلية بأنهم قاموا بتصفية عدد من الشباب، مضمون البيان واحد والشباب المقتول مختلف.

صار هذا الإعلان أمرا منتظما، تعلن فيه الداخلية عن تصفية عدد من أبناء الشعب تحت دعاوى مختلفة، وتصف كل هؤلاء، وفق استراتيجية الإرهاب المحتمل، بالإرهابيين، الأمر لم يعد يحتمل لدى هؤلاء أن يقبضوا عليهم، أو التحقيق بشأنهم. صار الأمر قرارا بالتصفية الجسدية، واعتبر ذلك إصدارا للحكم المسبق بممارسة القتل والإعدام من دون محاكمة، منهم من الطلبة، ومنهم من الشباب المتخرّج حديثا، وقد كان الإعلان، أخيرا، بتصفية ثمانية ممن وصفتهم وزارة الداخلية المصرية بالإرهابيين في أثناء اشتباكات بينهم، على حد تعبير البيان، أمرا كاشفا عن هذه الاستراتيجية المنظومة الأمنية الفاشية.
غاية الأمر في مثل هذه الأفعال التي ترتكبها وزارة الداخلية أن تُحدث حالة ترويعٍ عامة لعموم الناس، لتؤكد أن الجميع في قبضتها، وأنها تستطيع أن تسيطر على الأمور، وأنه ليس على فعلها حدود، ولا على سياساتها متابعة أو مراقبة. ومن ثم تقوم بكل هذه الأعمال خارج إطار القانون من اختطاف قسري، ومن تعذيبٍ ممنهج، ومن تصفية جسدية. صار مفهوم التصفية يصدر عن هؤلاء بدون تحفظ منهم، وبقبول شبه عام صار يستمع إلى تلك البيانات التي تحمل هذه التصفيات الجسدية، بل حرّض بعض الإعلاميين على أكثر من ذلك. صار مفهوم التصفية أحد المفاهيم المعتمدة في بيانات وزارة الداخلية أخيرا، وفي غالب الأمر تسبقه أخبارٌ عن اختطافٍ قسري، ثم يحدث القتل بدم بارد.
وتصاحب ذلك أيضا تلك الأحداث التي تأتي الأخبار تترى من قرية البصارطة، باستخدام كل
الأساليب التي تتعلق بالترويع في تجريدةٍ استمرت أسابيع، وفي عملية تأديب كبرى لهذه القرية، فاختطفت من اختطفت، واعتقلت من اعتقلت، وقتلت من قتلت، والأخطر من ذلك أن تمارس سلطات الأمن أشكالا مستجدّةً في الترويع والتفزيع، حينما تحرق المنازل وتهدمها، كل تلك مسائل خطيرة يرتكبها هذا النظام الفاشي في مصر لإحكام استراتيجية الترويع والتفزيع، محاولا إرهاب الناس، وإرهاب كل مَنْ حاول أو يحاول التعبير عن رأيه، أو الإفصاح عن معارضته.
ما يحدث في قرية البصارطة (في دمياط)، على سبيل المثال، ليس إلا أعمالا تشبه ما تقوم به إسرائيل في هدم منازل، عقاباً جماعياً يعتمده المحتل الغاصب، ومن المؤسف أن تعتمد سلطات الأمن الفاشية في مصر ضمن المنظومة الانقلابية ذات الأفعال من حرق البيوت وهدمها.
يرافق ذلك ويمهد له ويبرّره ويسوّقه إعلام تحريضي، ليس أقل إجراما منه، فهو الذي روّج هذه الآليات الإرهابية في العقاب لأهالي المتهمين الذين حتى لم تبثت بحقهم التهم، حيث دعا هؤلاء إلى معاقبة أهل المتهم وأسرته وممتلكاتهم، يعاقبون الإنسان والجماد والحيوان، لو أردنا أن نعدّد مشاهد الترويع لن ننتهي، ولكننا فقط نشير إلى آخر مشهديْن تحملهما الأيام القليلة الماضية.
ومن المؤسف حقا أنه تترافق مع تلك الاستراتيجية الترويعية استراتيجية أخرى، تعتمد التلفيق والتزوير، خروجا عن كل القواعد التي تؤكد عليها الحقوق الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية، لك أن تعرف أنه في قضية مقتل النائب العام، على سبيل المثال، تحمل في وقائع اتهام النيابة شخصا كفيفا أسندت إليه مجموعة من التهم، في مقدمتها تدريب المتهمين الآخرين على السلاح والقتل.
ما هذا النظام الأعمى الذي يلفق الاتهامات كيفما اتفق، من دون أي منظومةٍ قضائيةٍ تراقب بحق عمليات التقاضي والاتهام، ولكنه من المؤسف بدلا من أن تراقب هذه المؤسسات هذه التجاوزات والاتهامات والتحقيقات، إذ بها تتحوّل إلى ترسٍ في ماكينة الظلم، وتقر التلفيق وعمليات التزوير، وتبني على ذلك الإدانات وتثبت اتهامات، بل وتصدر الأحكام بإحالة أوراق المتهمين إلى المفتي، خطوةً على طريق إصدار أحكام الإعدام.
تزويرٌ يترافق مع ترويع حتى تنسد كل الطرق أمام المواطن العادي، وهو محاصرٌ بترويع وتخويف وتلفيق وتزوير لا يستطيع أن يكون له أي مسارٍ في ظل محاصرة أفعال الترويع والتزوير، حينما تعتمد تلك المنظومة هذه السياسات الفاشية إنما تحرّك أمورا غايةً في الخطورة في تكوين المجتمع والحفاظ على نسيجه، إذ تصنع بيئة انتقام رهيبة، يمكن أن تسفر عن حالةٍ من العنف المصنوع والمدبّر من مصانع إرهاب الدولة وسياساتها في الترويع والتفزيع.
يدفعنا ذلك كله إلى تساؤل حقيقي عمّن يصنع بيئة الإرهاب والعنف في الحقيقة، وكيف يقوم هؤلاء بعمليات الظلم الممنهج، حتى أنهم يسدّون كل طريقٍ، ويمنعون أي أفقٍ للحصول على الحقوق، وتوقي الاتهامات الظالمة، أي بيئةٍ تلك التي يمكن أن تنشأ عن هذه المظالم التي تتراكم هنا وهناك، منذ ذلك الفضّ الإجرامي الذي حدث في ميدان رابعة وأخواته، وما سبقه من تفويض لعين الذي طلبه المنقلب في مواجهة إرهاب محتمل، وصنع لنا بيئة كراهية وانتقام، وعنف يغلفها، وأصبح كل ما ترتب على ذلك أمرا لا يحتمل.
اعتماد هذه الاستراتيجيات، والصمت المقصود من الحكوميات الغربية إزاء هذه الانتهاكات
الجسيمة لأبسط الحقوق الإنسانية، طالما أن المستبد يقوم بكل عملٍ من شأنه تحقيق مصالح هذه الدول، خصوصا فيما يتعلق بتأمين إسرائيل والكيان الصهيوني في المقام الأول، إنما يشكل، في الحقيقة، حالة خطيرة، وعلى كل هؤلاء المنشغلين بالقضايا الحقوقية، وهذا القضاء الذي قضى على كل آمال الناس في أن يكون مرفقا للعدالة، ينتصف به الناس، ويحصلون من خلاله على حقوقهم، أن يدركوا أنهم يساهمون إلى جانب النظام، بصورة رئيسية، في تشكيل بيئة اقتتالٍ لا يمكن بأي حال التحكّم فيها وبها.
بدأ هذا النظام، للأسف الشديد، يحاول أن يصنع تلك القنابل الموقوتة لتمثّل حقول ألغام مزروعة في أرض المجتمع، وساحات المواطنين والوطن، يقوم على تفجيرها وقتما يشاء، حينما يكون الخيار إحداث فوضى واسعة، في حال وجود ثورة شاملة. هذا النظام الفاشي بكل هذه السياسات التي ضربنا بها مثلا، والتي تشير إلى أن تكون تلك المؤسسات التي ترتبط بالشعب، قضاء وتشريعا تمارس عمليات تزويرٍ كبرى، ها هو في مجلس النواب يقوم رئيسه بالتدليس عند أخذ الموافقة على مشروع قانون، حتى اعترض أعضاء كثيرون واقفين وهاتفين أن ذلك ليس إلا من أعمال البلطجة.. "بلطجية.. بلطجية".
هذه البلطجة على المجتمع بأسره ومحاولة هذه العصابة أن تنشر حال التخويف وحال التزوير في آن واحد، حتى تنسد كل أبواب تتعلق بإمكانية عدلٍ مطلوب، فإذا به يمارس ظلما مركّبا تارة بالبطش، وتارة بالتزوير، ليمكّن لماكينة ظلم النظام، مخرّبا عمران العلاقات بين الناس، وعمران المؤسسات التي تنهض بالوظائف الأساسية لعموم المواطنين، وتخريب نفوس الناس وأخلاقهم، حتى تنحو مناحي التفلت، أو تتسرّب إلى مسالك عنفٍ لا يبقي ولا يذر، إنها صناعة الانقلاب، صناعة الظلم المركب والممنهج تفزيعا وتزويرا، وغاية أمرنا أن نقول مع ابن خلدون إن الظلم (استبدادا وفاشية وبطشا) مؤذنٌ بخراب العمران.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".