فجور في الخصومة أم بلطجة سياسية؟

07 يوليو 2017
+ الخط -
عُقد الاجتماع لدول الرباعية المحاصرة في القاهرة، بعد انتهاء المهلتين، الأولى والثانية، وبعد أن تقدمت قطر بردٍّ مهم، يستند إلى قواعد الرشد الدبلوماسي، اعتبرته الدول الأربع، ممثلةً في وزراء خارجيتها، بأنه بمثابة الرد السلبي، وفق تصوّر هذه الدول، وقد صاحبت قطعها العلاقات السياسية بحصار اقتصادي ومجتمعي شامل من البر والبحر والجو. تصوّر هذه الدول يقع في أن الرد المقبول لديها هو الإذعان والانصياع الكامل للإملاءات المجحفة، وفق ما أتى من تصريحات مختلفة، امتلأت بكل مفردات التوعد والوعيد. وعلى الرغم من ذلك، أنبأ هذا الاجتماع بنتائجه عن أن دول الرباعية المحاصرة لقطر، وعلى غرار الرباعية التي أحكمت الحصار على غزة، لم تأت بجديد، لكنها بدت في صورة المحاصَرة لا المحاصِرة.
يحدث في السياسات الإقليمية والدولية أن تقوم الدول بتدريج مواقفها، في حالة وجود ما يمكن أن يتنازع عليه، ولكن في حقيقة الأمر حينما تتفق أربع دول بليلٍ، ثم تصدر جملة من القرارات واجبة التنفيذ من دون قبول أي حوار أو مفاوضة، فإن ذلك يعد "فجوراً في الخصومة". وحينما تفرض هذه الدول حصاراً اقتصادياً وحصاراً برياً وجوياً وبحرياً لدولةٍ تعد من منظومة دول الخليج، في محاولة لإحراج قيادتها أمام شعبها، وفي محاولة لاستنفار الشعب ضد من يحكمه، فذلك إنما يعبر عن فجور في الخصومة وبلطجة سياسية في آن.
وحينما تقوم هذه الدول باتصالات كثيرة لدول أخرى، لكي تحذو حذوها في قطع العلاقات ومسألة الحصار، في محاولةٍ منها لتبرير قصة هذا الحصار الظالم، ومحاولة إجبار الدول على أن تتخذ مواقف بعينها، فذلك، في حقيقة الأمر، ليس فحسب فجوراً سياسياً، لكنه بلطجة كاملة الأركان على دولٍ ذات سيادة، قد تكون فقيرة أو ضعيفة أو صغيرة. حينما تتحدث هذه الدول عن أفعال معينة من إجبار دولةٍ على أن تقطع علاقاتها مع دولةٍ أخرى، وتطالبها تلك الدول بأن تخفض مستوى تمثليها، فذلك يعبر ليس فحسب عن فجور في الخصومة، لكنه يعبر كذلك عن عدم وعي بأصول العلاقات الدولية والسياسية، إذ يحرّك هذه الدول فكرة هدم السياسة، واحتكار اتخاذ القرار، وتجريد الدول من سيادتها، سواء بالهدم أو الاحتكار.
حينما تطالب هذه الدول تلك الدولة بإلغاء اتفاقاتٍ بشأن التعاون العسكري مع دولة أخرى، 
ويملي هؤلاء بلغة فجةٍ لا تعرف لمعاني الدبلوماسية طريقاً، فيأمرها هؤلاء بقطع تلك العلاقات، وإنهاء وجود القاعدة التركية في هذا المقام، إنما يشكّل اعتداء على سياسة الدولتين وسيادتهما اللتين تمثلان طرفي ذلك الاتفاق، والمقدرتين لمصالحهما، وفقاً للضرورات الاستراتيجية لهذا الاتفاق، فذلك، في حقيقة الأمر، يعني تدخلاً مزدوجاً في حق دولتين، والنيل من سيادتهما، وهذا لا يمكن تسميته إلا بأنه ممارسة حالةٍ من البلطجة السياسية.
حينما تؤكد هذه الدول بمطالب عدة، منها ما يتعلق بأشخاص، ومنها ما يتعلق بمؤسسات، وتحاول، بشكل أو بآخر، من دون أسانيد حقيقية، باتهام دولة أخرى بإيواء الإرهاب والقائمين والمحرّضين على العنف، وحينما يتقدّم هذه القائمة شيخ كبير تعدى التسعين من عمره، فذلك لا يمكننا إلا أن ننظر إليه إلا في اطار ممارسات الدول فرض بلطجتها بقوائم تصدرها على هواها، مستغلة مواقف الدول الغربية في ذلك. وفي محاولةٍ لدفع قطر إلى عملٍ يخرج عن دائرة القيم الأساسية التي تمثلها هذه الدولة، فذلك، في حقيقة الأمر، ليس إلا فجوراً في الخصومة وبلطجة سياسية.
أخطر من ذلك كله أن تلمح تلك الدول في مطالبها، من دون تصريح، إلى ضرورة طرد تلك المنظمات التي يصنفها الغرب إرهابية، وهي في حقيقة الأمر تمثل مقاومة لغاصب محتل توقفه عند حده، حتى لا يمر فعله من دون ممانعة أو أي مقاومة، وحينما ينقلب هذا التلميح إلى تلك المطالب إلى تصريحات فاضحة، بأن شرط أن تعود قطر إلى المحضّن الخليجي، فلابد أن تطرد من يمثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من على أرضها، فماذا يمكن وصف ذلك إلا أن يكون فجوراً في الخصومة، يعبر عن النيل من مقاومة الأمة وعزها لمصلحة كيان صهيوني، يستأسد على الذين يدافعون عن الوطن، وعن حقوق الشعب الفلسطيني، فإن ذلك يتحول من فجور في الخصومة إلى خيانةٍ واضحةٍ وفاضحةٍ، تعبر عن مواقف شديدة الخطورة، تتغذّى عليها ظاهرة فاجرة، تتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتدعم متصهينة العرب على طول البلاد وعرضها.
حينما تعطي تلك الدول المهلة مهدّدة متوعدة أنه ليس أمام تلك الدولة إلا القبول بتلك الشروط وإلا.. لتشير إلى عملٍ مفتوحٍ، يصل إلى حد تطوير الأمر إلى حصار أشد أو تلويح لضرورة تغيير النظام، حتى لو كان ذلك بتبني انقلاب، بل إن بعض الأقلام التي تدعم هؤلاء تطالب
بعمل عسكري فعال، ينهي القضية، ففي الحقيقة، يعدّ هذا ليس فقط فجوراً في الخصومة، وإنما أيضاً تعبيراً عن أن هؤلاء جعلوا بتصرفهم هذا بضرورة تنفيذ شروط المنتصر إنما يفردون العضلات على دولة صغيرة كقطر، ومن ثم يكشف حديث المهل المبطن بالتهديد والوعيد ليس فقط فجوراً في الخصومة، ولكنه عمل عدائي وعدواني يرقى إلى البلطجة السياسية.
حينما تضغط هذه الدول على الدول العربية والإسلامية، بل والإفريقية، بأن تقطع علاقاتها مع قطر، والمشاركة في حصارها، وتقوم بذلك كله بإعلاناتٍ فاجرة غير مسبوقة بشأن العلاقات الدولية والإقليمية، فذلك إنما يعبر عن بلطجةٍ منقطعة النظير، قد ترى أن المواقف السياسية يمكن أن تشترى في أسواقٍ من النخاسة السياسية، فتضغط على المغرب تارة، وعلى السودان تارة أخرى، وتطلب من تلك الدول أن تحدّد موقفها، فتؤكد تلك الدول على حيادها، وعلى مناشدتها هذه الدول أن تقوم بالحوار اللازم، وبكل ما من شأنه أن يؤدي إلى حالةٍ من التفاوض، والوصول إلى كلمة سواء، في داخل البيت الخليجي، فإن هذا الموقف لا يعجب هذه الدول، بل تصر على التصعيد، وإلا فإنها تعتدي ليس فقط على سيادة دولة واحدة، ولكنها تعتدي على القرار الذي يمثل سيادة تلك الدول، فتنتهك كل هذه السيادة، ولا تستنكف أن تعلن عن رشاوى سياسية متعدّدة، وتتجاهل الكياسة السياسية التي تحاول الدول أن تنتهجها، سواء في الرفض أو مواجهة هذه الفرمانات الظالمة، وتصر، ببلطجةٍ ظاهرةٍ، أن تفرض غيها، وأن تقدم آلية جديدة في العلاقات الدولية، جديرة بأن تنسب لها، وهي "البلطجة السياسية".
إن مفهوماً، مثل البلطجة السياسية، إذا أردنا تأصيله، فإن هذا الحدث، وتلك الشروط الثلاثة عشر، إنما تمثل رمزية لفعل هذه السياسات الفاضحة التي تتعلق بحالةٍ من البلطجة السياسية الواسعة، وهو ما يقلب موازين العلاقات الدولية أكثر مما هي مقلوبة، وتمارس هذه الدول الحصار والوعيد، وكأنها تمارس ذلك ضد عدو اعتدى على حرمة تلك البلاد، وبينما يتنمرون ويستأسدون في هذا المشهد الخطير لدولة قطر، فإنهم لا يعبرون أدنى تعبير عن كل أفعال إسرائيل اليومية لإرهاب الفلسطينيين، والمرابطين والمرابطات في الأقصى. يؤصل ذلك كله لمفهومٍ حان الوقت أن ندشنه، وهو مفهوم البلطجة السياسية في السياسات الإقليمية والدولية.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".