في إطار سلسلة المدن السورية المحاصرة والمهجّرة، يستعرض "العربي الجديد" حال داريا، والتي نجح النظام عقب حصار وقصف شبه يومي امتد لما لا يقل عن أربع سنوات في إنجاز سياسته الرامية لتهجير أهال المدينة، المرتبطة تاريخياً بالعاصمة السورية دمشق، والتي تبعد عن مركزها نحو ثمانية كيلومترات، ولا تبعد كثيرا عن مطار المزة العسكري، إحدى أهم القواعد الجوية في محيط العاصمة ومركز اعتقال للمخابرات الجوية، وعن القصر الجمهوري.
تطل المدينة المهجرة على حي المزة المنقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول مزة 86 الذي يعتبر أكبر الخزانات البشرية للنظام، ومزة فيلات، وفيه يسكن كبار الضباط والمسؤولي والدبلوماسيين، ومزة استراد، وفيه السفارة الإيرانية وقيادة جمعية البستان التي تمتلك مليشيا موالية للنظام ويمتلكها ابن خال رئيس النظام بشار الأسد، رامي مخلوف، أحد كبار رجال الأعمال المتنفذين، إضافة إلى قربها من حي كفرسوسة الذي يحتوي مراكز معظم الأفرع الأمنية.
انخرط أهالي داريا في الحراك المناهض للنظام السوري، عقب نحو 10 أيام من بدايته في مدينة درعا، حيث خرجت أول مظاهرة في 25 مارس/ آذار 2011، لتتابع عقبها الخروج بشكل منتظم، وسقط أول القتلى في تظاهرات "الجمعة العظيمة" (22-4-2011). وفي الأول من الشهر الموالي، أثار مقتل أحد شباب داريا على حاجز أمني يتبع للنظام ضجة إعلامية، في وقت كان النظام قد قطع الاتصالات عنها ونشر حواجزه في مختلف مناطقها.
كما اعتقل في 6 من سبتمبر/ أيلول من السنة ذاتها في المدينة الناشط السياسي غياث مطر في كمين أمني. عُرف غياث بنشاطه السلمي في تنظيم التظاهرات طوال خمسة أشهر، ليسلمه النظام عقب أربعة أيام من اعتقاله جثة هامدة إلى أهله، بعدما قضى تحتَ التعذيب. وتوالى سقوط القتلى برصاص النظام ليصل العدد إلى 360 قتيلاً حتى مارس/ آذار 2012، في وقت تم فيه توثيق نحو 780 حالة اعتقال، وتوالى القتل ليأتي ما سمي "السبت الأسود" في أغسطس/ آب الذي سقط فيه أكثر من 300 قتيل واختفى العشرات قسرا.
مع بداية عام 2012، بدأ تشكيل الفصائل المعارضة المسلحة مع زيادة أعداد المنشقين عن القوات النظامية والمتطوعين المدنيين، ليشكل أول الفصائل تحت اسم كتائب "الصحابة" بقيادة العقيد خالد حبوس.
وبعد بدء المعارك بدأت كتائب دمشق وريفها تعمل للتوحد وتم تشكيل "لواء أنصار الإسلام" الذي يضم كتائب "الصحابة" و"لواء الحبيب المصطفى" وكتائب أخرى في مختلف مناطق دمشق وريفها.
وبعد مجزرة داريا الكبرى تم تشكيل كتيبة شهداء داريا التي تتبع للمكتب العسكري في المجلس المحلي للمدينة، والتي صدت هجوم القوات النظامية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، ليشكل عقبها بأسابيع لواء "شهداء الإسلام"، ويتألف من ثماني كتائب رئيسة.
ومنذ عام 2012 عمل النظام على حصار داريا وقصفها بعشرات آلاف القنابل والقذائف الصاروخية والمدفعية، ما تسبب بدمار أكثر من 90 في المائة من المناطق السكنية والبنية التحتية من المدينة. وفي عام 2007 كان عدد سكان المدينة أكثر من 250 ألف شخص، لم يبق منهم سوى نحو ثمانية آلاف شخص، قبل أن يفرغ النظام المدينة من أهلها الشهر الماضي، إذ وزعوا إما باتجاه إدلب في الشمال السوري، أو ريف دمشق. ويعمل حالياً أيضاً على إبعاد أهالي داريا النازحين إلى بلدة معضمية الشام المجاورة لمدينتهم، بعيداً عن المنطقة.
يشار إلى أن القوات النظامية اعتمدت سياسة الأرض المحروقة وقضم الأراضي بشكل بطيء، فقد كان النظام يشن حملة من القصف المكثف واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً ومنها القنابل المحرقة، ليؤمن تقدماً ما. وبعدها يقوم بتحصينها بشكل جيد ومن ثم يتابع تقدمه، حتى فقدت المدينة الأراضي الزراعية، المورد الأساسي للمواد الغذائية، وجزءاً من المناطق السكنية، حيث لم يبق أمام سكانها سوى الموت أو النزوح، علما أن عدد المعتقلين الحالي هو 2208 أشخاص، في حين بلغت حصيلة القتلى 2565 قتيلاً بين ذكور وإناث.