جاءت سياسات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حيال المنطقة العربية، خلال فترة رئاسته الأولى متفائلة، انعكست في خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009. غير أن التغير الكبير الذي عصف في المنطقة مع ثورات الربيع العربي أواخر عام 2010 ومطلع 2011، كشف عن وجه آخر لهذه السياسة، تمثل في الارتباك والتخلّي عن وعوده بدعم التحولات الديمقراطية، وتجنب الدخول في أي مواجهة مسلّحة، ولو كان على حساب "خطوط حمراء" سبق أن رسمتها السياسة الأميركية؛ وهو الأمر الذي مكّن خصوم واشنطن من المنطقة.
ومع تداعيات الثورات في المنطقة، ثم الصعود العسكري لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، واستيلائه على مدينة الموصل في يونيو/حزيران 2014؛ باتت أولويات أوباما في المنطقة أكثر وضوحاً، وذلك ما ظهر في كلمات الرئيس نفسه، منذ منتصف فترته الثانية، خصوصاً في حديثه عن الثورتين الليبية والسورية، على الرغم من انعدام أية استراتجية أميركية حيال المنطقة.
في الخطاب الذي استغرق قرابة الساعة بجامعة القاهرة في 4 يونيو/حزيران 2009، تحدث باراك أوباما بشكل استثنائي محدداً أُطر سياساته تجاه العالمين العربي والإسلامي. وبعد حديث إيجابي طويل عن الإسلام والمسلمين، ذكر الرئيس الأميركي سبع نقاط، تحدد سياساته تجاه المنطقة. وكان ترتيبها، ومقدار التفصيل فيها، يعكس إلى حد كبير أهميتها في أجندة الرئيس.
ففي الوقت الذي نالت قضايا "الحريات الدينية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية" الخانات الأخيرة في أجندة الرئيس، جاءت الأولويات في النقاط الأربع الأولى التي تناولها بالتفصيل، وهي، حسب الترتيب: "مواجهة العنف والتطرف بكافة صورة في المنطقة" و"إيجاد تسوية للصراع العربي - الإسرائيلي على أساس حل الدولتين" و"منع إيران من حيازة سلاح نووي" و"دعم الديمقراطية في المنطقة".
توازياً مع أحداث "الربيع العربي"، اغتالت الولايات المتحدة زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن في مايو/أيار 2011، وبدأت واشنطن محاولاتها، خلف الأبواب المغلقة، لتحقيق اتفاق يمنع إيران من تطوير سلاح نووي. بدا وكأن الإرهاب قد هُزم، وخطر إيران النووية في طريقة للاحتواء سلمياً. وبدلاً من الاتجاه لمحاولة إيجاد تسوية للصراع العربي، فرضت ثورات "الربيع" العربية، على إدارة أوباما، سؤال دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة.
أراد الرئيس الأميركي، منذ البداية، في خطابه حول دعم الديمقراطية في المنطقة، أن يُظهر تمايزاً عن تجربة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، والتي ثبت فشلها، في أفغانستان والعراق، ففرض الديمقراطية بالقوة لن ينجح. لذا، أكد أوباما في خطاب القاهرة أنه "لا يحق لأي دولة فرض نظام سياسي على دولة أخرى" وأن النظم السياسية يجب أن تكون معبرة عن إرادة الناس وأميركا لا تعرف الأفضل لكل بلد". ولكن الرئيس الأميركي أكد دعمه لـ "قيم حقوق الإنسان" و"حقوق الأقليات" و"الثقة بالقانون" و"الشفافية في الحكم" و"حرية التعبير"، واعتبر أنه سيدعم الحكومات في المنطقة بقدر تبنيها لهذه القيم.
وعند اندلاع الثورات العربية، لم يخفِ الرئيس الأميركي احتفاءه بالتغيير، وقام بتشبيه محمد البوعزيزي بروزا باركس والوطنيين الأميركيين الذين ثاروا ضد البريطانيين في بوسطن، وقال في خطاب له حول المنطقة في مايو/أيار 2011، واصفاً تظاهرات التونسيين في الشوارع أنها استمرت "حتى تنحى عن السلطة أخيراً دكتاتور ظل في الحكم أكثر من عقدين من الزمن".
ووعد أوباما، في الخطاب ذاته، بتقديم مساعدات اقتصادية للدول بقدر الإصلاحات الديمقراطية التي تتبناها: "رسالتنا بسيطة: إذا تحملتم المخاطر التي يستلزمها الإصلاح، فستحصلون على دعم الولايات المتحدة كاملاً"، وأعلن عن مساعدات اقتصادية مقدمة إلى مصر وتونس لدعم التحول الديمقراطي في البلدين.
لكن الأوضاع على الأرض تغيرت بشدة، ما بين نهاية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس، وبداية الثانية، بين 2012 و2013. فالتحول الديمقراطي فشل في مصر، بانقلاب 30 يونيو/حزيران 2013، وسط ارتباك في موقف الولايات المتحدة بسبب دعم حلفاء أميركا في المنطقة للانقلاب، ووجود احتجاجات شعبية في مصر ضد الرئيس المنتخب. أما التدخل الأميركي الجزئي، عبر حلف شمال الأطلسي في ليبيا، فساهم في إسقاط حكم الرئيس الليبي معمر القذافي، ومنع مواليه من ارتكاب مجازر في بنغازي، لكن ليبيا لم تنعم بالاستقرار، حتى اللحظة.
أما في سورية، فمنذ صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، باتت محاربته على رأس أولويات الإدارة الأميركية، وسط تهميش مسألة حماية المدنيين هناك، وسقوط لأهمية الدفع باتجاه إيجاد بديل لنظام الأسد، وقضية التحول الديمقراطي في المنطقة. ووفّر الغطاء الروسي في 2013 فرصة للإدارة الأميركية للتراجع عن "خط أوباما الأحمر"، المتعلق بتهديد النظام السوري بمواجهة مع واشنطن؛ إذا استخدم الأسلحة الكيماوية في حق شعبه، وهذا ما كان في مجزرة الغوطة في أغسطس/أب 2013. فعرضت روسيا تسوية بديلة عن التدخل الأميركي، تتمثل في تسليم النظام السوري مخزونه من الأسلحة الكيماوية إلى موسكو، وهو ما لم يحدث تماماً، إذ استمر النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية، بشكل متقطع، حتى الآن.
ولعلّ ما يؤكّد ما سبق، هو ما كُشف لاحقاً، خاصة في حوارات صحيفة "ذا أتلانتك" مع الرئيس الأميركي، بعنوان: "عقيدة أوباما"، حول أن الأخير كان شديد التردد حيال التدخل في سورية، ولم يكن يرغب فيه قط. لذا كانت المبادرة الروسية فرصة ذهبية لحفظ ماء وجه الرئيس.
اعترف أوباما في أغسطس/آب 2014، وفي مؤتمر صحافي حول الشرق الأوسط، وبعد فترة وجيزة من سقوط الموصل بيد "داعش"، بأن الإدارة الأميركية "لا تملك استراتيجية تجاه المنطقة" وأن مقاربته لأوضاعها تنطلق من أولوية "حماية الأميركيين في العراق، المستشارين والدبلوماسيين، وتقديم المساعدات الإنسانية".
وتحدّث أوباما أن مقاربته لسورية تقوم على "دعم المعتدلين السنة في سورية لإعطاء السوريين خياراً مختلف عن داعش أو الأسد". أما في العراق؛ فهو يهدف إلى "إنهاء اللعبة التي صنعها داعش في العراق والتأكد من أن العراقيين قادرون على حكم أنفسهم بفاعلية"، وذلك من خلال "بناء نظام سياسي في بغداد لا يهمش السنة"، وأن كل هذا لن يكون إلا من خلال تعاون الدول "السنية" في المنطقة.
بعد أن قضى الرئيس الأميركي ما يزيد عن 6 سنوات في البيت الأبيض، يؤكد في "عقيدة أوباما" أن أفضل مقاربة سياسية لـ "الشرق الأوسط" تتلخص في "تجنب المنطقة"، معتبراً أن هذا الدرس ترسّخ عنده من خلال الحالة الليبية، واصفاً التدخل في "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" بـ"الخطأ".
يرى أوباما، ببساطة، أن الشرق الأوسط "لا يمكن إصلاحه"، ويذهب بعيداً في ذلك، باعتبار المنطقة غير قابلة للإصلاح "لا في حياته ولا الجيل الذي سيأتي بعده"، مضيفاً أن المستقبل سيكون بـ"الاتجاه إلى آسيا"، وإعطاء المزيد من الاهتمام لـ"أميركا الجنوبية"، في الوقت الذي ستوفر فيه بدائل الطاقة للولايات المتحدة، إمكانية التخلي عن المنطقة العربية.
الملاحظ أنّ هناك تبايناً كبيراً في تصريحات أوباما المتفائلة في مستقبل المنطقة خلال خطاب جامعة القاهرة، وبين تصريحاته اليائسة منذ 2014، والتي انعكست، عملياً، على سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة، من خلال السعي لاتفاق نووي مع إيران بأي ثمن، وتجاهل الصراع العربي – الإسرائيلي، والتركيز على محاربة المنظمات الإرهابية، بغض النظر عن وجود حكومات متورطة في جرائم ضد شعوبها، كما في العراق وسورية، الأمر الذي جعل كثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها متورطة، بشكل مباشر، في تعقيد الأوضاع في المنطقة، في الوقت الذي يصرّ فيه الرئيس الأميركي على أن "الشرق الأوسط غير قابل للإصلاح".