مضت سنوات ولايتي الرئيس الأميركي باراك أوباما الثمانية، في البيت الأبيض، وما زال كثير من السوريين ينتظر تدخل الولايات المتحدة وحلفائها لإنهاء المذبحة المتواصلة يومياً على الأرض السورية، وما يزال سيد البيت الأبيض حتى آخر أيامه مصراً على سياسة قوامها الكثير من الكلام والقليل من الأفعال. وهي التي وضعت سورية بين مطرقة نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين والمليشيات التابعة لهم، وسندان التنظيمات الجهادية المتطرفة التي اعتمدت بالترويج لنفسها على استمرار المذبحة في سورية.
وصل أوباما إلى البيت الأبيض عام 2008 حاملاً شعار "التغيير"، في إشارة لعزمه تغيير سياسة إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن، التي تمخضت عن حربين كبيرتين خاضتهما جيوش الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. وتلت ذلك تهديدات صريحة وجدية من إدارة بوش للنظام السوري باجتياح سورية، على غرار ما حصل في العراق، وذلك على خلفية تورط النظام السوري في إرسال المتطرفين عبر الأراضي السورية لقتال القوات الأميركية في العراق.
لكن الرئيس الأميركي الجديد، في ذلك الوقت، شرع بتنفيذ وعوده الانتخابية، وبدأ بسحب قواته من العراق، لتنتهي، مع وصوله إلى البيت الأبيض، فرص قيام الولايات المتحدة بشن حرب لإسقاط نظام حزب البعث بسورية. وهو النظام الذي كان لا يخفي عداءه للولايات المتحدة وتحالفه مع إيران التي كانت بدورها القوة الأكبر التي تشكل تهديداً لمصالح الأميركيين بالشرق الأوسط، بالرغم من تقاطع مصالحها معهم في العراق.
مرت بعد ذلك فترة برود تجاه سورية ميزت سنوات حكم أوباما الأولى، إذ اقتصر دور الولايات المتحدة وقتها على الضغط على النظام السوري بين الحين والآخر بإصدار التصريحات الصحافية والبيانات التي تندد بأوضاع حقوق الإنسان المتردية في سورية.
ومع انطلاق الثورة السورية ربيع عام 2011، بدأ مسؤولو إدارة أوباما وحتى الرئيس نفسه بإطلاق التصريحات، التي تحمل تهديدات للنظام السوري تطالبه بضرورة التوقف عن قمع التظاهرات السلمية، ومن ثم تطالبه بالتنحي، تأسيساً على فقده الشرعية مع تورط قواته بقتل المتظاهرين السوريين المطالبين بالكرامة والحرية. لكن هذه التصريحات الأميركية لم تترافق مع ما يمكن أن يردع قوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد عن مواصلة قتل السوريين، الأمر الذي دفع بالنظام السوري للتمادي أكثر، ومن ثم اجتياح المدن بالدبابات، وبعد ذلك قصفها بالطائرات.
غضت إدارة أوباما طرفها في ذلك الوقت عن تحذيرات رجالات المعارضة السورية والخبراء والمستشارين الأميركيين، التي نبهت إلى أن ترك الأسد يتمادى في قمع السوريين سيطلق العنان في النهاية لقوى التطرف، التي ستزيد من الفوضى ليس في سورية فقط، بل بالشرق الأوسط ككل.
لكن إدارة أوباما تابعت ترددها في سورية مع استمرار التظاهرات وتوسعها، ومن ثم انشقاق مجموعات من الضباط والعناصر عن الجيش السوري، ليشكل المنشقون نواة "الجيش السوري الحر"، الذي توسع في ما بعد ليضم آلاف المتطوعين من أبناء المناطق المنتفضة. ومع ذلك، حظرت إدارة أوباما على الدول الداعمة لقوات الجيش الحر تزويده بأسلحة فعالة تمكنه من القضاء على النظام السوري، وذلك بالتزامن مع مطالبات هذه الإدارة نظام الأسد بالتنحي. فمنح ذلك قوات الأسد تفوقاً على قوات المعارضة، بسبب امتلاك الأولى سلاح طيران مكنها من التصدي لجميع هجمات قوات المعارضة على المناطق الحساسة للنظام السوري.
ومع استمرار حظر إدارة أوباما وصول مضادات الطيران للمعارضة السورية، واستمرار طائرات الأسد نتيجة ذلك بقصف المدن السورية، توسعت بقعة الموت والنزوح بسورية، وبدأت تظهر مع توسعها تنظيمات سلفية جهادية متطرفة قدمت نفسها على أنها مخلص السوريين من الأسد، بالرغم من الفائدة السياسية الكبيرة التي قدمها وجودها للأسد، لجهة ترويج نظامه على أنه "يحارب الإرهاب".
خرج أوباما بعدها بشعار جديد أصبح عنواناً لسياسته المترددة في سورية، إذ كرر مرات عدة القول إن "استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي هو خط أحمر لن تسمح الولايات المتحدة للنظام السوري بتجاوزه". لكن نظام الأسد فعلها، وتجاوز الخط الأحمر الأميركي، حين قصف غوطتي دمشق بغاز السارين السام صيف عام 2013، ما خلّف آلاف القتلى والمصابين من السكان، لتقبل الولايات المتحدة بعدها بالحل الروسي، الذي تمثل باقتراح تسليم النظام السوري لسلاحه الكيماوي، دون أن تفعل الولايات المتحدة شيئاً للرد على تجاوز النظام للخط الأحمر الذي وضعه أوباما نفسه.
وكان هذا الصمت الأميركي على الإبادة الجماعية التي نفذتها قوات النظام بالأسلحة الكيماوية بمثابة ضوء أخضر للنظام ليفعّل آلة القتل أكثر في المدن والبلدات السورية. وهو الأمر الذي أعطى دفعاً أكبر للتنظيمات الجهادية المتطرفة لتتجرأ على مهاجمة قوات المعارضة السورية بحجة "تلقيها دعماً من الولايات المتحدة المتآمرة مع الأسد على قتل السوريين".
ونجحت تنظيمات داعش وجبهة النصرة وغيرها بالقضاء على عدد كبير من فصائل المعارضة السورية وسيطرت على مساحات واسعة من الأراضي التي حررها مقاتلو المعارضة من قوات الأسد، في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأميركية تواصل فرجتها على ما يجري في سورية.
ومع صعود نجم التنظيمات المتطرفة في سورية، وقيامها بتهديد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين صراحة، وتنفيذ تنظيم داعش عمليات إرهابية عدة في المدن الأوروبية، شكلت الولايات المتحدة التحالف الدولي لمحاربة داعش، لتدخل قواتها الأراضي والأجواء السورية في محاولة للقضاء على أحد فروع المشكلة السورية، بدلاً من بتر أصلها وهو النظام السوري.
في هذا الوقت، باتت قوات النظام السوري مستنزفة ومرهقة بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب مع فصائل المعارضة السورية والتنظيمات الجهادية المتطرفة، حتى أصبحت تعتمد على مليشيات محلية وأجنبية أرسلتها إيران لدعم الأسد. لكن هذه القوات لم تكن قادرة على الصمود أمام قوات المعارضة والجهاديين، فوجدت روسيا الفرصة لتدخل سورية بحجة محاربة الإرهاب إلى جانب الأسد مستغلةً التردد الأميركي.
وشنت روسيا منذ تدخلها في سورية في سبتمبر/أيلول 2015 حرب إبادة على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية، التي يفترض أنها حليف الولايات المتحدة بسورية، من دون أن تفعل الولايات المتحدة شيئاً من شأنه أن يردع الروس ويمنعهم من قصف المشافي والمدارس والأسواق بمناطق سيطرة المعارضة السورية.
واليوم وبعد خمس سنوات من التردد الأميركي في سورية، أصبحت البلاد ساحةً لصراع بين روسيا وأتباعها من جهة، وبقايا فصائل المعارضة السورية التي تجد نفسها مضطرة للتنسيق مع تنظيمات جهادية متطرفة، كجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً)، من جهة ثانية، وتنظيم داعش من جهة ثالثة، من دون وجود أي طرف قوي مدعوم أميركياً، باستثناء المليشيات الكردية شمالاً، التي سبب الدعم الأميركي لها، مشاكل كبيرة للولايات المتحدة مع تركيا، التي كانت قبل وصول أوباما للبيت الأبيض الحليف الأكبر للولايات المتحدة بالشرق الأوسط.